من الخيال إلى الاكتشاف: تحوُّلات محكي الطفولة في السيرة الذاتية

2024-01-05

عبداللطيف الوراري

إعادة تجنيس

يرتبط ميثاق القراءة، كما ينبهنا إلى ذلك فيليب لوجون، بشروط إنتاج السيرة الذاتية وتلقيها، وهو «أثر تعاقدي يتغير عبر التاريخ»؛ يسمح لنا ذلك بإعادة تجنيس العمل الأدبي «في الطفولة» للكاتب المغربي عبد المجيد بن جلون، الذي تركه خِلْوا من أي تحديد أجناسي. ثمة مؤشرات ومعطيات نصية وموازية تُدْمجه ضمن أدب السيرة الذاتية، ومحكي الطفولة على وجه خاص. فعدا العنوان، يتعهد الكاتب في الصفحات الأولى من عمله، بأنه سيسرد الأحداث والوقائع المؤثرة التي عاشها في فترة طفولته ويستعيد معها ذكرياته الماضية بين فضاءي فاس (المغرب) ومانشستر (إنكلترا). وهكذا، مع توالي الصفحات، يحكي السارد بضمير المتكلم تاريخ محكيّه الطفولي لنحو عقدين من الزمن؛ من الولادة إلى أول الشباب وهو يناهز ثمانية عشر عاما. وعبر هذا التاريخ، نتعرف على سلسلة ولادات متتالية مرّ بها الطفل، وامتحنت ذاته ونفسيته وطبعت هُويته ورؤيته للأشياء والقيم والعالم، بيد أن هذا الماضي الذي يريد استعادته تواجهه صعوبات الذاكرة، وهو ما يطرح مسألة الوهم المرجعي الذي تنتجه السيرة الذاتية، الذي يجب أن لا يُخْفي عنّا حمولة التخييل المتضمَّنة فيه، إذ لا يمكن للمؤلف أن يأخذ بالاعتبار حياته كما جرت في الماضي. إنّه يصنع منها حَكْيا، بمعنى أنّه يُكيّف هذه الحياة مع الإكراهات المرتبطة بالشكل السردي؛ أي يعيد تشييد حياته، ومن ثمة يذهب إلى تحرير معناها في حاضر اللحظة وحاضر الكتابة.

ظلّ السارد يستعيد صورة الطفل الذي كانه، ويستحضر معها ـ أو تحت حافزيّتها – تلك العاطفة التي كانت مسيطرة على نفسه وقتئذ، وكانت تمتزج فيها صور متضاربة من مشاعر «الاستغراب والخوف والتطلع» فكان محكي الطفولة بما ينغلق من غموض وأسرار واستيهامات ومشاهد حميمية، يسوغ ما نجده في سيرة عبد المجيد بن جلون، من توتُّر بين المرجع والتخييل؛ وهو توتر لا يعيق حوافز السرد الذاتي، أكثر ما يستثيرها في مغامرة تذويت أسلوب الكتابة واكتشاف هويته النصية على مناطه الخاص والمفرد.

هندسة الخيال الطفولي

نطالع في بدايات العمل السيرذاتي «في الطفولة» عالما مجهولا، مسكونا بالغموض والأسرار، لا يتعلق بولادة الطفل وصرخته الأولى في الحياة، ولا بموت الأم الذي أثر في نفسيته وقذف بكينونته الأولى قبل الوعي بها في مناخ الحزن والحيرة في مانشستر، بل كذلك بواقع الاغتراب والضياع داخل الفضاء الثالث. كان الطفل يسأل ويريد أن يعرف ما يحدث أمامه من معطيات وظواهر ميتافيزيقية وطبيعية (الموت، العزلة، الله، النار، المطر والضباب..) تُشيع الرهبة أو الخوف والغموض في نفسيته، وتحفز خياله على الاقتراب منها، وتحويل معانيها إلى محسوسات يستعين بها على الفهم والتحليق والتمثُّل. كان الخيال في هذه الفترة من عمر الطفل يتردّد بين فضاءين مختلفين، لكلّ واحد منهما هندسته وأسلوبه وتمثيلاته للعالم، وهو ما كان يُرْوي ظمأه ويُنوّع سجلّه التعبيري ويضاعف تفكيره، لدرجة أن الأمر كان كناية عن صراع بين مرجعين ثقافيين ورؤيتين للعالم؛ مرجع الأم المربّية، ومرجع ميللي.

كان للمربّية التي حلّت محل الأم بعد موتها، دورٌ أساسيٌّ في حياة الطفل العاطفية وخياله الناشئ، إذ علاقته بها أمتن من علاقته بأبيه، وكانت في نظره «صندوق عجائب» لكثرة ما تعرف. كان صوتها يأخذه إلى «بلاد بعيدة»؛ «بلاد تشبه أحداثها أحداث الخرافات والأساطير، وكانت تروي لي كذلك أقاصيص الصغار. وكان لمثل هذه الأساطير عليّ تأثير شديد حتى نشأ عندي بعد ذلك ميل إليها، وقد أثارت في نفسي عالما يعجّ بالأشباح والحيوانات والمخلوقات الخيالية». وكان حديثها مثل أيّ حديث فولكلوري يثير في سمع الطفل/ الأجنبي شعورا بالغرابة، ولم يكن خياله دائما يشتطّ في البعيد، بل يحاول أن يجد له امتدادا في الواقع العيني؛ كأن يرى المراكشيين الذين يزورون بيتهم في مانشستر «غرباء تمام الغرابة» ويجد في نسائهم «أمثلة حيّة لما يرد في أقاصيص أمي..». مثلما كان يتراءى له في بعض أنماط عيشهم واختلاف طبائعهم وألوانهم. ولذلك كان هذا المرجع (الأمومي) يشدّ خيال الطفل وإحساساته إلى ما هو ثقافي وأنثروبولوجي وأخلاقي، ويضطلع بوظيفة توجيهية وتربوية تُركّز على الأشياء المجردة والمتعينة معا.

وفي المقابل، كانت ميللي – بفضل تأثيرها الإيحائي وثقافتها العصرية – تمارس إغواءها على خيال الطفل على نحو تأثرت به رؤيته للأشياء والطبيعة، وبدا ينظر إليها بروح رومانسية وشعرية مجنحة. لنأخذ مَثلا كيف واسَتْهُ أثناء احتضار أمه، بأنه يمكن أن يراها في الجنة وراء النجوم والقمر: «خُيِّل إلي أنني أرى من خلال دموعي وجه أمي يُطلّ عليّ من السماء داخل صفحة البدر الكبيرة. وكان إيحاؤها قويّا حتى أنه ما يزال يُخيّل إليّ إلى الآن أنني أراه كلما رفعتُ عينيّ إلى القمر، فأقول إنه وجه أمي» أو كيفَ مثّل عالم الطبيعة وأَنْسَنه عبر خيال يسيل بالصور والانفعالات، ومثل ذلك في وصفه لمنظر القطار البشع، ومصايف إنكلترا الجميلة، بل نكتشف أن بعض هذه الخيالات يحيل إلى السرد الإمبراطوري أو ينبع من صميم «الكريسماس» وحواشيه الاحتفالية (مركب عاهل المملكة المتحدة وإمبراطور الهند، شيخ أعياد الميلاد، طفل حقل الكرمب..) وبعض الآخر تَلبّس محتواه بطابعه الوسواسي – الباروكي الذي يذكرنا بروايات القرن التاسع عشر، مثل وساوسه التي تحدث قبل النوم، أو كانت توافق فترات اعتلال صحّته وشحوبه. لقد كانت قصص ميللي تشدّ خيال الطفل إلى العلوي والسحري، وتسهم وظيفتها التطهيرية في توسيع حدود عالم الطفل: «وبدأت أتعرف إلى العالم الواسع، وقد اتسعت بشكل جعلني أتعطش إلى متابعتها واكتشاف ما لا أعرفه منها».

تَحرّك خيال الطفل مُبكّرا، فكان بالنسبة إليه عزاء لما كان يشعر بفقدانه أو بصعوبة فهمه في تلك السنّ المبكرة، مثلما كان عونا له لفهم ما يحدث حوله وللاقتراب من الكائنات وطبيعة الأشياء والوجود، ولإطلاق طاقاته الوليدة.

اكتشاف العالم

تَحرّك خيال الطفل مُبكّرا، فكان بالنسبة إليه عزاء لما كان يشعر بفقدانه أو بصعوبة فهمه في تلك السنّ المبكرة، مثلما كان عونا له لفهم ما يحدث حوله وللاقتراب من الكائنات وطبيعة الأشياء والوجود، ولإطلاق طاقاته الوليدة. وقد كان كل ذلك بمثابة حافز حقيقي بالنسبة إليه، أو طريق ممكنة لاكتسابِ صور وتأملات شاردة حميمة وحالات حالمة ورومانسية تتدفق في أحلامه وعقله الصغير تلقائيّا، وتريد أن تجد لها معادلات ذهنية ونفسية داخل العالم الواقعي الذي أخذ يكتشف علاقاته ويواجه أسئلته وتناقضاته؛ وهو ما كان يعبر عنه السارد بقوّة في عبارته الأثيرة «خُيّل إليّ..» بمعانيها النفسية والإدراكية.

إنّه، بهذا المعنى، خيال «سائل». ومن الطريف أن الطفل كان يسمع إلى قصص الأم المربية وميللي وهو جالسٌ إلى المدفأة؛ كأن هذه الأخيرة تمنح الكلمات والصور التي تتفتّق عنها القصص شكلا حلميّا مُذابا، إذ بوسعه أن يتنقل بين ضفّتين، ويبدد مساحات الخوف في نفسية الطفل تحت وطأة الشعور بالضياع، وبالتالي يُمكّن كينونته الفردية من تجاوز وضعها التي هي عليه، وخلق «يوتوبيا»ها الخاصة. وهكذا، بمنأى عن وهم «نسخة طبق الأصل» الذي يريد البعض إلصاقها بالسيرة الذاتية، فقد استطاع خيال الطفل أن ينعش شعرية الذاكرة ويسعفها على ملء بياضاتها ومعالجة تصدُّعاتها. فهو إذ يتذكّر، غالبا ما ينسى حقيقة ما مضى من ذكرياته، إلا أنه يصفها بطريقةٍ رومانسية، لخلق الانطباع لدى المتلقي بـ«أثر الواقع» وإضفاء طابع الانسجام على ما يسرده من زمن البدايات وتعرُّجاتها المعتمة، بل إن الكاتب يريد أن يعيد عبر فصول سيرته الأولى إنتاج الكون السعيد، والزمن الثوري حيث براءة الذات، وحيث وعد الحياة المفتوحة على كلّ إمكاناتها، وعلى الأوهام المتعددة كذلك.

في ضوء هذا التحليل، نكتشف أن هذا الخيال يُعبّر عن ميتا تخييل الاختلاف، ويشدّ أسلوب السيرة الذاتية إلى بنية عميقة تنظم تمظهراته السردية، وتشتبك على مضمارها الدلالي ثقافتان متباينتان، وأسلوبان في الكتابة: فولكلوري- إثنوغرافي وآخر تعبيري- رومانسي، إلا أن أسلوبا ثالثا تَخلّق من رحمهما بقدر ما تجاوزهما عندما اشتبك مع أسئلة الذات في علاقتها بمصيرها ومجتمعها ووطنها؛ أسلوب فنتازي نقدي وساخر، يبلور منحنى المتخيل وحركته داخل النص السيرذاتي من البعيد أو العلوي، الذي يتحدد كلٌّ منهما باعتباره اكتشافا حالما أو سفرا مذهلا من خلال الإحالات على أرض غرائبية أو على سماء مبللة وغائمة، إلى الواقع البشري الذي يحتشد باختلاطات الحياة اليومية ورطاناتها بما يشبه دُوارا واجهه الطفل بين ضفّتين.

على عتبة الشباب

نشط خيال الطفل باكرا؛ بعد رحيل أمه، وتقوّت حوافزه الداخلية بعد موت أخته، أو في توديعه الأخير لمانشستر قاصدا بلده الأصلي الغريب. وفي إثره اعتلاله الجسماني ومعاناته النفسية، نشط هذا الخيال أكثر وهو يهجم على الطفل بأسئلته وخواطره وهذياناته بما تنطوي عليه من تجديف وسخط داخلي، على نحو يجعله يشعر بـ«الدُّوار» الذي يعقبه الإغماء والحُمّى، إلا أنه بعد ذلك، وتحت وطأة العوز المادي، أخذ يقاوم تلك الاضطرابات النفسية، ويقاوم إكراهات الواقع المحيط به، مقاومة ذاتية من خلال أفعاله وأقاويله التي يمزجها بأسلوب يمزج بين السخرية والنقد والاعتراف، ما ساعده تدريجيّا على الاندماج واكتشاف العالم؛ فزادت قدرته على النهوض، وأعاده الشغف بلعبة كرة القدم الثقة بنفسه، وتوطّدت علاقته بصعاليك الحي، الذين لم يكونوا يعيرون لقيم المجتمع المُرائي اعتبارا، واتخذ السخرية التي أخذها عن الجدّ أداة تعبير واستشفاء في نقد سلطة المجتمع الذكوري وحياة نسائه «في لعبة الظهور والاختفاء» ونقد مهنة الطبّ التي يستغلّ أصحابُها النّاسَ في سبيل ابتزاز المال، واعترف بكراهيته تجاه زهور ابنة عمّه التي ماتت، وبقصة الحب الذي وقفت الأسرة ضدّه، لكن حرّك مشاعره الرومانسية وألزمه بقراءة قصص المحبّين وأشعارهم، إلى أن أخذ يشعر بينه وبين نفسه بأنه صار مسؤولا عن سلوكه ومقاليد حياته، بعد إفلاس الأب في تجارته وبيع البيت والانتقال للعيش في بيت آخر، ثُمّ قرّر أن يدخل كلية القرويين وهو على عتبة الشباب.

وتجدر الإشارة إلى أن الأديب المغربي عبد المجيد بن جلون، شرع في نشر الجزء الثاني من سيرته الذاتية مطلع السبعينيات، قبل أن ينقطع عنه. ولو صدر هذا الجزء – الذي أخبرني ابنه وائل بأنه ما زال يحتفظ به مخطوطا- لكان بوسعنا أن نقرأ فصولا أخرى في حماسة الشباب، وسنوات الدراسة والحياة اليومية في القاهرة، والكفاح الوطني من مكتب المغرب العربي والعودة إلى المغرب، حيث تقلّد مسؤوليات في حزب الاستقلال ووظائف رسمية داخل الدولة الناشئة بعد الاستقلال.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي