رسائل من الأهل إلى المخطوفين السبعة عشر ألفا

2023-12-11

حسن داوود

من بين من يُعرفون بذوي المخطوفين، وعددهم سبعة عشر ألفاً بتقدير من قائدة تحرّكهم المستمر وداد حلواني، كتبت خمس عشرة منهن حكاية اختطاف قريب لها، أباً أو أخاً أو ابناً. الكاتبات نساء كلّهن، وهنّ المفجوعات بالفقد، حيث أن البوستر الذي وُزِّع في سنوات سبقت، حاملا صور المخطوفين، يظهر نسبة النساء القليلة إزاء الرجال. وعلى غرار ما اكتُفي من النساء بخمس عشرة، كذلك كان اكتُفي في البوستر ببعض من الرجال. لكن مع ذلك تصدم تلك الصور رائيها. لم تزِد المساحة التي أعطيت للمخطوف الواحد عن ما يساوي نصف عقدة إبهام اليد. وذلك لكي تتسع صفحة البوستر لجميع من أمكن الحصول على صورهم من المخطوفين، بل على بعض منهم كما هو مذكور أعلاه.

بالغة الصغر تلك الصور، الناظر إلى تلك الوجوه لن يرى إلا كثرتها. فقط مَن كان يبحث عن مخطوفه يمكن أن تأخذه صورة واحدة إلى إطالة التحديق. أما الآخرون، من غير المعنيين خصوصا، أقصد اللبنانيين بمجملهم، فأكثر ما يلفتهم قِدم الزمن. هي صور قديمة، من ذلك الصنف الذي يؤخذ ليُلصق على جواز سفر أو على بطاقة هوية، وقد أخذت من خمسين سنة أو نحوها، وتداولتها أياد كثيرة من ثمّ، مشارِكةً في تعتيقها.

كتاب «طواحين الهوى» يساعد على تخصيص الرؤية، أي على ألا تظلّ عمومية لرجال تجمع بينهم صفةٌ واحدة، (المخطوفون أو المفقودون). في النصوص نقرأ عن خمسة عشر منهم. نقرأ عن غيابه خصوصا، وعما خلّفه ذلك الغياب في حياة الأقربين إليه. من ذلك مثلا اضطرار هؤلاء النساء إلى أن يتغيّرن عما كنّ عليه، أن يتحوّلن جميعا إلى أمّهات، وآباء أيضا، إن كان المخطوف زوجا، أو إلى أخت حادبة وابنة راعية، إن كان المخطوف أخاها أو أباها. وعلى جميعهنّ أن يبدأن حياة جديدةّ بعدما انقصف مجراها العادي. ومنهنّ من أصرّرن على أن يمزجن التغيّر بالبقاء على اشتياقهنّ. كان هذا ما حصل لإحداهنّ، مريم، التي بعد أن غاب ابنها درست فن الرسم، من أجل أن ترسم صورا له، لماهر الذي لن يعود. من الكاتبات من ما زلن ينتظرن. تقول إحداهنّ مثلا: «لا أريد أن أتخيّل إلا أنك عدت يمكن أن تكون متّكئا على عصا، أو فقدت أسنانك وهزلت كثيرا، وقد أصبحت تجاعيد وجهك كثيرة». لكن هناك خلاصة واحدة، «هي أنك ستأتي سائلا عنا، وأنك ستجدنا».

المخطوفون كبروا لا بدّ، وهنّ أيضا كبرن: «امراتك الصبيّة يا سالم أصبحت في اوائل السبعين». منهن من يسعين إلى تصديق ما حصل فتتحدّث إحداهنّ إلى رفيقاتها لدى اجتماعهن فتقول: «إن كل من يوجدن هنا في هذه الساحة لا يعيش الوهم إطلاقا، فما حصل قد حصل». منهنّ أيضا من يحذون في أمور العيش حذو الزوج المفقود فيتصرّفن انطلاقا من معرفتهنّ بتجربته ودرايته: «كنت أعود إليك لأسألك ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟». لكن في المقابل هناك من أتعبهنّ السعي في تحصيل ما يُبقي الذين يعيشون في رعايتهن كما لو أنهم لم يفقدوا أبا أو أخا، فها هي إحداهنّ تكتب، بعد كبرها، أنها تحلم بأن تكون جالسة على كرسي هزاز وأحفادها حولها.

هي سيرة كاملة كتبتها النساء المشتركات عن مفقوديهنّ. سيرة لا يتعدّى عدد كلماتها ما تحتويه رسالة عادية تُرسل إلى مسافر سيعود. على كل من هؤلاء النساء أن تحكي الحياة كاملة، أي أن يحتوي نصها كل ما هو أساسي في الحياة. كما أن عليهنّ، إضافة إلى ذلك، أن يكون ما يكتبنه أدباً. وهنّ لذلك لم يلجأن إلى الكتابة بصيغة الشاكي المتكلّم بصيغة الأنا. فمنهن من أجرت الكلام على لسان عمّتها، أخت المخطوف، ومنهن من أجرته على لسان المخطوف نفسه، وهناك مَن أشركت ثلاثة متكلمين، أي ثلاث رواة بينهم الوالد المخطوف ذاته، ثم زوجته، ثم الابنة التي يحمل النصّ توقيعها. كما أن المقاربات مختلفة، وكذلك مختلف هو التاريخ الذي بدأت كل منهن تحكي حكايتها. وهذا حقّ لهن بعد أن كتبن بعد انقضاء خمسين سنة على حصول الفاجعة، فاجعتهنّ. من ذلك مثلا أن إحداهن روت ما كان جرى قبل اختطاف عدنان زوجها، ولم تصل بما تحكيه إلى وقت حصول فاجعتها.

ينبغي أن أذكر هنا أن الكتاب شاء الابتعاد عن السياسة، وما قد تثيره من سجالات قد تربك قضية أهالي المخطوفين فامتنعوا جميعا عن ذكر الجهات الخاطفة، وهي كثيرة، وباقية حتى الآن. إحدى المشاركات، على سبيل المثال، كتبت إن خبرا يتعلّق بخطف والدها «وصلها عن ميليشيا معيّنة» فللنظر إلى هذه الـ«معينة» كم فيها من وضوح وخفاء معا.

«طواحين الهوى» ثمرة تعاون بين المركز الدولي للعدالة الانتقالية ولجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان. سبق لكاتبات نصوصه أن شاركن في جلسات تدرّبن فيها على الكتابة الإبداعية بمشاركة وإشراف الكاتبة اللبنانية فاطمة شرف الدين. وقد قامت مصممة الغرافيك تانيا رضوان برسم لوحات من وحي كل نصّ من النصوص الخمسة عشر. الكتاب صدر في الربع الأخير من سنة 2023 بصفحات بلغ عددها 147 صفحة. تولت توزيع الكتاب دار نلسون اللبنانية.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي