توماس مان حاضر بشخصه… في سِيره كما في رواياته!

2023-11-26

حسن داوود

كان توماس مان في الثامنة والعشرين حين أنجز الكتيّب الأول، أو التجربة الأولى، من سيرته الذاتية. لم يسرد إلا القليل من الوقائع والحوادث في عمله ذاك، وهو على أيّ حال اتخذ من ذاك القليل محفزّات للتوغّل في ما استخلصه من آراء حول تكوينه الشخصي وأفكاره حول الإبداع الأدبي. أول تلك الوقائع بدأت في عمر الشباب الأول حيث وضع نفسه بمواجهة رفيقه هانس هانسن، الذي كان يحسن التصرّف والظهور أمام الآخرين، لم يُعط تونيو غروغر (وهو الاسم الذي اتخذه توماس مان مكنّيا به عن نفسه، وذلك لجعله كتابه مزيجا من السيرة والرواية) هذه الكفاءة، كان مرتبكا غير واثق من نفسه، ومتمنيّا على الدوام أن يتحلّى بما يتحلّى به رفيقه، أو غريمه.

وسيلاحقه حضور هانسن إلى مرحلة تلت من عمره، لكن سويا مع الفتاة التي أُغرم بجمالها أنجه إنكبورك هولم، كانت في غاية الجمال وحسن التصرف، لكنها لم تكن له. إن كان لها أن تعشق فلن تختاره هو، لقلّة وسامته وكفاءته الاجتماعية، وأيضا وهذا ما لا يتوقّف الكاتب عن التلميح إليه، حين لا يذكره صراحة، تواضع منزلته الاجتماعية مقارنة بهانسن وأنجه إنكبورك. كل ما احتواه تصرّف رفيقه من تنمّر عليه، وما عاناه من صدّ محبوبته، يعود في الأصل إلى الفارق الاجتماعي أو الطبقي بينه وبينهم. في الكتاب أعفى المؤلف بطله، وعلينا ألا ننسى أنهما الشخص نفسه، من التعرض لعلاقات كثيرة. أبقاه هناك، مع الرمزين أو المثالين المجسّدين لطبقتهما الاجتماعية المتفوّقة. أما هو، تونيو غروغر، الخائب من قلّة كفاءته معهما، فلم يلبث أن انطوى داخل نفسه، واجدا لنفسه صفة يتجاوزهما بها، وهي كونه أديبا ومفكّرا. وها هو كاتبه يقول، نيابة عنه: «كانت حياته لا تساوي شيئا وليست ذات قيمة إن لم يُنظر إليه باعتباره كاتبا مبدعا». خلاف تلك الهوية التي اختارها لنفسه، أو تفتّحت فيه من تلقائها: «لن يلفت نظر أحد ويصبح في منطقة رمادية غير واضحة معالمها»

لكنه في غمرة انصرافه إلى التفكير بنفسه مبدعا نقرأه يقول لصديقته الفنانة ليزافيتا إيفانوفنا، وهي الشخصية الثالثة الحاضرة في المذكّرات، بعد هانسن وأنجه إنكبورك، إن الفن «يتصف دائما بكونه نشوات وتهيّجات فاسدة وباردة» وإن ما يعيشه الفنان ليس هو العيش الحقيقي، وهو يستغرق في التفكير بمعنى الفن وبمساجلته لأفكار قديمة ما زالت حاضرة في زمنه. لكن ليس توني كروغر وحده من يؤدّي سيرة كاتبه توماس مان. بعد ثلاثة عشر عاما من صدور مذكراته تلك، قليلة عدد الصفحات

(112 صفحة) نقرأ الكاتب يباشر سيرته الثانية بعنوان «فوضى ومعاناة مبكرة». هنا نحن أمام شخصيات أخرى أوّلها هو المؤرّخ كورنيليوس (ولننظر إلى الاسم الذي كأنه اختير لصاحبه من التاريخ القديم) الذي يعيش في منزل غاص بالأولاد والخدم، وكذلك بالمدعوّين، من الشباب الذين جاؤوا للاحتفال بيوم ميلاد أحد أبنائه. مرة أخرى نحن في مواجهة الخيبة التي انتهى بها كتاب المذكّرات الأول، فرغم الزحمة والضوضاء الناجمة عن تزاحم الجميع يشعر كورنيليوس بالوحدة، وأنه لا يستطيع أن يجد منفذا للتدخل في ما يُقال، أو ما يجري أمامه. إنه غارق في علمه بالتاريخ، وهو يقيس كل شيء تبعا لكونه تاريخيا أو غير تاريخي. هكذا، شأن تونيو كروغر، نراه راغبا في تخطئة الصياغات والصور المتداولة عن معنى التاريخ والمؤرّخ معا.

وإذ حظي سلفه كروغر بمن يصغي إليه، شخص مثل الفنانة ليزافيتا إيفانوفنا، لا يجد مؤرخنا من يستمع له إلا نفسه. كلهم في الحفل منشغلون عنه، سواء في ما هم ينتظرون من تأخرّ قدومهم من المدعوين، أو كانوا يتساجلون حول قضية ما، أو يبدأون الرقص، كانوا يصنعون الحياة التي يقف المؤرخ على هامشها. في الطور الذي بدأ فيه نقاشهم، حول الحرب، أتيح له أن يتدخل، مزوّدا بكامل معرفته. لكن الشبان لم يقفوا عند رأيه ولم يأبهوا به، فانكفأ مقرّرا الجلوس بمفرده هناك في غرفة مجاورة. هذه المرة العمرُ هو الذي يؤدي إلى العزلة، وكذلك المعرفة التي صار الشخص صنيعها أو عبدها. وهنا أيضا، في هذه المذكّرات الثانية، يتكرّر ظهور شاب مثل هانس هانسن، يلقى إعجابا من المدعوات وحسدا من المدعوين. ليس فقط لتمكنه من التصرف بنبالة، بل لأن النبالة هذه متحصّلة من طبقته الاجتماعية الأرقى.

شخصيتان كل منهما في عمر مختلف ويعيش في بيئة مختلفة، اخترعهما توماس مان لتكونا هو. ليس السبب في ذلك كونه يقرأ حياته انطلاقا من هموم المبدع، أو المتفوّق، وانفصاله عن الحياة، فالأرجح أن أمورا كثيرة أخرى، من تلك الكامنة في وعيه، شاركت في دفعه إلى الكتابة. شخصان مختلفان إذن لسيرة شخص واحد؟ لكن أليس في كتب توماس مان الأخرى ما يأتي به على إقحام نفسه. لنتذكّر «موت في البندقية» مثلا، أليس ذاك الموسيقي الهارب إلى الوحدة تنويعا على بطلي سيرتيه؟

عن الألمانية ترجمت سلمى حرب كتاب توماس مان «تونيو كروغر تليه فوضى ومعاناة مبكرة» الصادر عن « دار الجمل» في 173 صفحة، سنة 2022.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي