صاح الأولاد

2023-11-23

الياس خوري

سوف أروي لكم حكايتين عن تجربتين عشتُ إحداهما، وأخذتني الأخرى إلى إعادة النظر في المعاني الإنسانية.

كانا رجلين؛ الأول في الأربعين، شاعر يعيش في الضجر ويرى العالم من حوله يتفكك، وكانت مشاعره وهمية، بمعنى أنها لا تعبر عن شيء ملموس، أو هكذا كنا نعتقد. كان يقول إنه شاعر الانفعالات الداخلية التي تعصف به. يومها، وكان ذلك عام 1968، لم نفهم أن صرخة ذلك الرجل كانت تعبيراً عن بدايات الخراب، فنحن نعيش الخراب منذ سنوات طويلة.

كان هذا الشاعر السيريالي أو شبه السيريالي، الذي يدعى أنسي الحاج، متمرداً ثائراً، ولكن في حدود دولة لبنان الكبير، أي في حدود أن تبقى الأمور كما هي عليه، على أن يحصل التغيير من داخلها، وكان كالعديد من الكتّاب اللبنانيين الذين خافوا على البلد من الانهيار.

ملأ الرجل الأربعيني بيروت فتنة وخيالاً وأدباً، تجاوز الأوزان والقوافي ورسم إيقاعاته اللغوية على الينابيع، وتحول إلى بطل لرواية توفيق يوسف عواد «طواحين بيروت». لكنه كان في كل أماكنه رؤيوياً وشفافاً ومحافظاً. وكنا لا نفهم كيف يستطيع شاعر أن يجمع هذه المتناقضات في شخصه إلا حين كبرنا وفهمنا أن لبنان هو موطن التناقضات.

الرجل الثاني كان في السبعين، وكان ذلك عام 2203. ولم يكن شاعراً، بل كان روائياً، لكنه كان يحب الشعر ويشارك في مناقشات بيروت الصاخبة حول الحداثة. عاش تجربة مشابهة في وسط خراب حقيقي هذه المرة. كان لبنان قد استقر في الانهيار، وبدأ يعتاد على العيش في الفقر والذل عندما انفجرت غزة واختنق الأطفال، وأعلنت غزة أن الانهيار في كل مكان.

كان هذا الرجل السبعيني لا يخاف، وعندما اعتقد أن الموت اقترب منه، فتح له ذراعيه ليستقبله بحب. لكنه فجأة، شعر بالرهبة لأن الأولاد حوله كانوا يصرخون ويبكون، كانوا في المستشفيات والبيوت يختنقون بلا أوكسجين. لم تتهدم المباني وحدها بل تهدم الناس أيضاً.

هذا ما تريده إسرائيل، تهديم الفلسطينيين كأفراد وجماعة، كي تستولي على الأرض.

هنا تبدأ الحكاية، أو يبدأ التقاطع بين حكايتيّ الرجلين:

الحكاية الأولى نجدها في قصيدة كتبها أنسي الحاج، وهي بعنوان «صاح الأولاد، يا يا». نعثر في هذه الحكاية على شخصيتين: الفتاة الصغيرة والشاعر، أغلب الظن أن الفتاة طالبة جامعية تقيم علاقة حب مع الشاعر:

«قالت الصغيرة

أنا أضع القنابل تحت أبواب الرأسماليين

لأنني شيوعية

وأنت؟»

وقالت أيضاً إنها توزع المنشورات ضد أعداء الشعب، ثم اتهمته بأنه رأسمالي رغم عينيه العميقتين، وقررت أن تتركه.

غير أن القصة لن تبدأ إلا حين قتلت الشرطة الفتاة، فيقسم الشاعر العالم إلى نصفين: الأولاد الذين ضد العالم، والعالم الذي ضد الأولاد، و»عمل خادماً ليُسرَّ الأولاد».

وفي النهاية، أشعل الرجل العميق العينين العالم الذي ضد الأولاد، ثم ألقى بنفسه في النار.

هذا ليس انتحاراً بقدر ما هو رؤيا، فالشاعر لا يدعو لكنه يرى، كأنه كان يقف يومها على شرفة لبنان، أو كأنه يقف اليوم على شرفة غزة التي تحترق.

بعيني رؤيته الشعرية رأى الشاعر إلى أين يتدحرج بنا التاريخ على الرغم من تحفظه على هذا المسار وربما رفضه لهذه التطورات.

أما الرجل السبعيني فقد أعادته القصيدة إلى حقيقة بلاده، فاستقبل ألوف الأولاد الذين قتلهم الجيش، وضمهم إلى قلبه.

كأن الرجلين كانا على موعد بعد نصف قرن من الحادثة الأولى كي يأنف المختلف في لهب مقاومة الموت.

غزة أعادت الرجل السبعيني إلى ملاعب شبابه، ورأى ما لم يستطع رؤيته في الماضي. كان الفتية والفتيات يحيطون به، وأطفال غزة يتنفسون من رئتيه. كان ملقى على سرير مستشفى في بيروت، لكن بيروت اختفت كأنها لم تكن، كأنه كان في غزة، والأطفال يحاصرونه بجمالهم، وينثرون أرواحهم من حوله.

ورأى أن العالم انقسم إلى نصفين: نصف يحترق فوق الأرض، ونصف يولد تحت الأرض، حفر لنفسه نفقاً وهبط إليهم ليعلن أن الحياة تستحق أن نموت من أجلها، وأن الموت قد يكون طريقاً إلى الحياة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي