أبرياء وفوسفورٌ أبيض

2023-11-13

سقوط قذائف بالقرب من الحدود الجنوبية لإسرائيل مع قطاع غزة (ا ف ب)

يولاندا سولير أونيس

لقد سافرتُ إلى أماكن لن أبقى فيها أبداً. أماكن حيث الكرهُ يخنق الحياة. أماكن يشيحُ فيها نظر من يسكنها إلى مكان آخر، مكان بعيد عن الجثث المتكّدسة في طوابقها السفلية أو خزائنها، لا سيّما عندما يرتدون ملابسهم مع كلّ صباح.

لقدْ حدث ذلك معي في إقليم "الباسك" الذي سكنتْه منظّمةُ "إيتا" في زمن الديمقراطيّةِ الإسبانيّة؛ وفي بلفاست التي عرفتها مع "طفلتها الميتة"؛ وفي وارسو التي استمتَعَت بإقامةِ كأسِ أوروبا في ملعبِها الجديدِ المبنيّ على ضفافِ نهر فيستولا، فوق "أنقاضِ" الغيتو.

في تلك المساحةِ الزمنيّة في مراهقتي، دائماً كنت أسألُ نفسي خلال دروس التاريخ عن السبب الذي منع الألمان وبقيّة دول أوروبا من رفعِ أصواتهِم على المذبحة النازيّة ضدَّ اليهود. هل هو نفسه ما يدفع أوروبا القديمة، مرّةً أُخرى، إلى إشاحة النظرِ عمّا يحصل حالياً عندما يُقتلُ آلاف الأطفالِ والمدنيّين في غَزَّة، أو عندما تُطلق الأسلحةُ الكيميائيّة على جنوب لبنان بذريعةٍ تؤيّدها الولايات المتّحدة من بين دولٍ أُخرى، وهي أنَّ "إسرائيل" لديها الحقُّ في الدفاعِ عن نفسها؟

فهل الدفاعُ عن النفس هو ممارسةٌ لحقّ الانتقام كما حصل مع العراق في حينِه؟ لقد تجاوز عدد الضحايا في غزّة حتى الآن عشرةَ أضعاف عدد ضحايا هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في المستوطنات، وتمَّ تدمير بيوت مليوني شخصٍ خضعوا للحصارِ يوماً بعد يوم لعقودٍ من الزمن. فهل الانتقامِ يمنحُ "إسرائيل" الحقَّ في تجاهلِ قواعدِ القانونِ الدولي؟

كان لبنان، في وقتٍ مضى، مكاناً جميلاً للعيشِ فيه: أنهارٌ وغاباتٌ ومساءات تغرب فيها الشمس مثل تلك التي وُصفت في  "الأوديسة". كانت مسرحاً لقصص الكتاب المقدّس وقبلة أنظار الدول المجاورة. ولكن على ما يبدو، بدأ بعض سكّان لبنان ينظرون في اتجاه آخر. فمع غياب العقاب في زمن الحروب، راح بعضهم يسيّج الشواطئ، وقام آخرون بشقّ أعالي الجبال كي يبنوا منتزهاتهم التي يقصدونها في عطل نهايةِ الأسبوعِ، أو باستبدال المحاصيل التقليدية في سهل البقاع بمحاصيل غير شرعية أكثر ربحاً. وهكذا، غارقين في النظر نحو الاتجاه الآخر، تمرّ هذه الأيام بهدوء متوتّر، فتتزايد التكهّنات، ويكبر حجم الصلبان على الكنائس في الأحياءِ المسيحيّة، بينما يتمّ تجاهل اللاجئين والفقراء، أولئك الذين يمكن أن يختفوا، كما حدث في صبرا وشاتيلا، إذا ما نفّذتْ "إسرائيل" تهديداتها.

لقد حان الوقت للنظر إلى الأمام وتسميةِ الأشياء بأسمائها الحقيقية. حان الوقت لمطالبةِ "إسرائيل" بوضعِ حدّ للإبادة الجماعيةِ التي ترتكبُها في غزّة بتواطؤ الولايات المتحدة ومعظم أوروبا والأمم المتّحدة نفسها، على الرغم من شجاعة غوتيريس الذي لم يتمكّن من اتخاذ أيّ إجراءٍ ضد دولةٍ تتجاهلُ تصريحاته مراراً وتكراراً. يجب ألّا نخطئ، فالدفاع عن حياةِ سكّان غزّة، لا يعني أنّنا ندعم الإرهاب. مهما أدرنا وجوهنا، لا نستطيع أن نتجاهل الصور، أو ألّا نسمع أخبار قتل أكثرِ من أربعة آلاف طفلٍ، وتدميرِ شعب كامل زُرعت فيه الكراهية. كذلك يصعب إنكار الأدلة التي تشير إلى أنّ "إسرائيل" دمّرت المحاصيل التي قصفتها بالفوسفور الأبيض في جنوب لبنان.

شاعرة وصحافية إسبانية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي