مرحبا بكم في فلسطين… جدار الفصل العنصري

2023-11-10

ان برونسويك | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

كتبت الصحافية والروائية الفرنسية ان برونسويك يوميات رحلتها الى فلسطين بقصد كشف القناع عن عنصرية وهمجية الاحتلال الإسرائيلي ودحض أطروحة الفلسطيني «الإرهابي» في مقابل الإسرائيلي الإنساني والمتحضر.أقامت الكاتبة شهورا عديدة في فلسطين وقد مثل ذلك بالنسبة لها فرصة لمعاينة السيرة اليومية لمعاناة الشعب الفلسطيني مع وحشية الاحتلال الصهيوني والمتمثلة في الحصار والمعابر الأمنية ومختلف الممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية. ويقترب هذا الفصل من تفاصيل بداية بناء جدار الفصل العنصري الذي قلب حياة الفلسطينيين الى جحيم حقيقي واشكال التمييز والاضطهاد الممارسة على الفلسطينيين في المعابر الأمنية. يشكل هذا الفصل جزءا من كتاب «مرحبا بكم في فلسطين» الذي يصدر قريبا.

7 يناير

ذهبنا في ساعة مبكرة الى غزة دون ان نكون متأكدين من إمكانية العبور. ورغم الدعم الذي قدمته القنصلية الفرنسية التي أرسلت فاكسا الى السلطات الإسرائيلية لتخبرهم باننا مدعوتان الى المركز الثقافي الفرنسي في غزة. يستلزم العبور بسيارة اجرة خاصة من قلندية الى ايريز ساعتين على الأقل بما في ذلك ازدحام فترة الصباح بضواحي القدس. وصلنا في التاسعة والربع. كان معبرا حدوديا حقيقيا يتوفر على حامية عسكرية كبيرة. لم يكن معبر ايريز يحتفظ باي شبه بمعابر الضفة الغربية. كان الأجانب والصحافيون والشخصيات الهامة يمرون من بناية مسبقة الصنع مضاءة وتتمتع بنظام التدفئة وتتوفر على مقاعد للجلوس وجهاز الي لتوزيع المشروبات. اما الفلسطينيون فيسلكون ممرا مقفرا ومعزولا نراه من بعيد ويفتقر الى كل هاته الميزات. وكان يفضي الى موقف كبير صمم خصيصا لاستقبال العشرات من الحافلات وكان في هذا الصباح فارغا.

اما فيما يخص الجانب المخصص للشخصيات الكبيرة فنلاحظ علاوة على خلوه النسبي جنودا بمستوى معقول من اللباقة. كانت حركة الدخول والخروج محصورة جدا. وكان السرجان بلومبيرغ وكان اسمه مكتوبا على بزته العسكرية شابا اسمر طويل القامة في الثلاثين من عمره يحتج بمسطرة قانونية بدا العمل بها منذ فاتح يناير كي يحول بين الناس وبين المرور. صبرنا ساعتين ثم نادينا على الناطق الرسمي باسم الجيش والتمسنا مجددا تدخل القنصلية. وتصادف ان ظهر القنصل ذاته. كان على عجلة من امره وبدا محرجا بشدة. قال: فعلنا ما هو ضروري. لكن ليس هو من يقرر بطبيعة الحال وانما «الأصدقاء الإسرائيليون». موظفو الصليب الأحمر والأمم المتحدة وبعض الدبلوماسيين وبعض الأجانب. صحافية صينية تغادر غزة وهي تسحب خلفها حقيبة كبيرة ذات عجلات. اربع او خمس فلسطينيين يستفيدون من وضع استثنائي يمرون بدورهم من هذا المكتب الذي يتحتم عليك حين تكون الأمور على ما يرام ان تنتظر عشرين دقيقة. علقت صديقتي: الامر اسوا وأفظع من شباك سجن. وفي تمام الساعة الحادية عشرة تم تأكيد الرفض. عدنا ادراجنا وعبرنا الساحة المقفرة. قادنا سائق شاحنة في شارع اشكيلون الى موقف الحافلة. مطر وريح. عشرات من الشباب بالبزة العسكرية وضمنهم العديد من الفتيات وكن يحملن بنادقهم الرشاشة فوق أكتافهم يتزاحمون تحت موقف الحافلة. فكرنا بانهم اهداف مثالية لعملية انتحارية. غيرنا الحافلة وهو ما يعني الانتظار من جديد في غمرة الريح وسط حشدجديد من الجنود. يخيل اليك انهم المستعمرون الرئيسيون لوسائل النقل العمومية في هذه البلاد. والحقيقة انهم يسافرون مجانا.

تفتيش قانوني عند مدخل المحطة الطرقية للقدس. يطلق على كلمة ٠امن» بالعبرية بيطاخون وهو ما حملني على الضحك باعتباط وعصبية. وفي المراحيض قبالة المرايا تحاول المجندات الشابات تسوية وترتيب بزاتهن بطريقة مغرية وجذابة. وكانت مؤخراتهن الممتلئة تمطط أسفل سراويلهن الخضراء.

كانت الحافلة المكتظة بالركاب تعبر شارع يافا قبل ان تصل الى المدينة القديمة. كان الجميع يتفحصون بعضهم البعض والخوف في الاحشاء. كثير من الكيبات وباروكات الشعر والقبعات من كل الأصناف. رجال متشحون بالسواد بقبعات عريضة يحملون كتب صلواتهم. جلست امرأة بدينة جدا بجوارنا وكانت تضع فوق باروكة شعرها غطاء بلاستيكيا شفافا مغمورا بماء المطر وكانت بأكياسهاالكبيرة الثلاث المكتظة بكرات الصوف تشغل مقعدين على الأقل. وكان ان التصقتا بالنافذة المغمورة بالبخار. ما الذي تفعله بكل هذا الصوف؟ هل تحيك لكل الحي؟ اكتظت الحافلة باناس مبللين وذوي سحن متعبة وينوءون بثقل ما يحملونه. كان من السهل التعرف للوهلة الأولى على النساء الروسيات. طريقة هندام تعود الى فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي. شعر مصبوغ باللونين الأشقر او الأحمر وعيون صافية وعظام وجنات مرتفعة. قررت امراة شابة ذات جسد ممتليء ان تجلس فوق المقعد وان تضع كيس الصوف فوق ركبتيها. وكان ان امعنا في الالتصاق أكثر بالنافذة. وقد بدأت الحافلة تفرغ تدريجيا من ركابها مع اقترابها من المدينة القديمة.

8 يناير

وصلنا الى قلقيلية في الحادية عشرة صباحا. وهي مدينة محاطة كلية بالأسوار. احسسنا بضالتنا ونحن اسفل السور الاسمنتي الرمادي الذي يصل ارتفاعه ألى ثمانية امتار والذي يمتد الى ما لا نهاية. تخطيطات ملونة بكل اللغات: سوف ينهار هذا الجدار، كلنا فلسطينيون، فلسطين حرة. ومن اعلى برج المراقبة الرمادي المستدير والمحشور داخل السور صوب الجنود أسلحتهم في اتجاهنا وأمرونا بان نخرج أيدينا من جيوبنا وان نمدها أمامنا. سرنا حذاء السور وفي غمرة المراقبة الدقيقة لكاميرات المراقبة المبثوثة على كل خمس وعشرين مترا. كان المطر يتساقط وكنا نغوص باقدامنا في الشقوق والأخاديد التي خلفتها الات الورش. مررنا بحقول مزروعة مغطاة بزرع تحتها الخضر والفواكه وتقع على بعد خمسة امتار من السور. وبعيدا عن هاته الحقول يبدا شارع رصت على جانبيه فيلات جديدة وأنيقة تطل شرفاتها على السهل المترامي الأطراف. ولن يكون ممكنا من الان فصاعدا ان تنظر من اية بناية عربية على الجانب اليهودي.

تموت مدينة قلقيلية وقد فقدت زبائنها من الإسرائيليين الذين كانوا ياتون كل نهاية أسبوع ليشتروا الفواكه والخضر ويصلحوا سياراتهم ويأكلوا في المطاعم الرخيصة ويعالجوا أسنانهم. وقد هاجر الآلاف من السكان. مشهد غير مالوف في ظهيرة يوم الخميس ويتمثل في متاجر وورشات مغلفة على امتداد شوارع مقفرة. علامة اشهارية تمثل ضرسا ضخما. التقينا بوفد من المناضلين الأجانب يتقدمون تحت المطريات خلف ممثل للبلدية. اصبح سُور قلقيلية مكانا للسياحة المناضلة. كانت ماريا تسعل اكثر فأكثر وكان الصيدلي يبيع شرابا ضد السعال. وقد دعانا أيضا الى كأس شاي وكانت فرصة للحديث معه.

كانت المرسيدس التي تصل قلقيلية بطولكرم تسير على امتداد عشر كيلومترات بجوار ورش الجدار الحديدي وتسلك أحيانًا بعض الطرق غير المعبدة والمغمورة بالحجارة بطريقة فظيعة. التلال هنا اكثر اخضرارا مما عط عليه في محيط رام الله أو بيت لحم. ولأنها محصورة بين الخط الأخضر (حدود ١٩٦٧) والسود فان القرى العربية آخذة في الاحتضار كما اخبرنا أحد الركاب.

كان هذا الأربعيني ذا قامة فارعة وكان من الضخامة الى درجة كان فيها راسه يرتطم باستمرار بسقف المرسيدس يقترح علينا وسيلة سهلة توصلنا الى جنين. وسوف تسافر زوجته وابنائه في غضون نصف ساعة. وقد قام بحجز سيارة الأجرة. قادنا الى حيث يقيم. كان منزلا من طابق واحد ويبدو كما لو بني على عجل ويفضي الى بستان يحوي أشجار الليمون والبرتقال. كانت ربة البيت واسمها ألفة أستاذة للغة الإنجليزية وهو ما جعل الحديث بيننا ميسورا. كانت شديدة الحيوية واللطف والفضول. كان مظهرها حديثا جدا بلباسها الرياضي الذي يحيل الى ماركة أمريكية. كانت اما لثلاثة أبناء اكبرهم في التاسعة عشرة وقد ورث بنية أبيه. ولن يكون في مستطاعه الذهاب لزيارة أبناء خالته في جنين لالتزامه بامتحان في الرياضيات يوم السبت، وبنت صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها رقيقة وذات شعر طويل وعينين واسعتين غامقتي اللون، واصغرهم طفل نحيل. قالت امه « قتل رفيقه في السنة الفارطة على مراى ومسمع منه في طريق المدرسة». اردف ابوه قائلا: اصبح منذ ذلك الحين نهبًا للكوابيس وبطلب دائما ان ينام في سريرنا». يبيع خالد ويصلح أجهزة الحاسوب. ليس ثمة وجود لرمز ديني على جدران البيت وانما صور وديكورات وطنية. أزاحت الفة الستارة لتطلعنا على صورة لخالد وهو يصافح عرفات. قالت: نحن نخفيها؛ اذ لو حدث ورآها الجنود الإسرائيليون فسيقومون بتدمير وتكسير كل شيء. صورة أخرى تبين عرفات وهو يقبل يد اصغر الأبناء. وقد ظلت موضوعة بشكل جلي فوق الطاولة المستديرة. في غرفة الأبناء عشر نسخ من صورة احد الشهداء: « انه ابن عم زوجي وقد قتل في السنة الماضية».

كانت صورة الشهيد الذي يحمل الكلاشينكوف ملصقة على القميص الذي ترتديه البنت والميدالية التي يحملها الطفل الصغير حول عنقه. قامت ألفة بتقريب جهاز تدفئة كي ننشف أقدامنا. كان احد جوربي الذي وضع لصق الجهاز قد تفحم.أحضرت الشاي والقهوة والحلوى واقترحت ان نتقاسم غذاء زوجها وكان عبارة عن دجاج بالأرز، لكننا شكرناها واعتذرنا بكوننا تناولنا الطعام في قلقيلية. قمنا صحبة الأبناء بجولة في المنزل. قالت الينت ان جدار غرفتي قد دمر في السنة الفارطة بسبب مدرعة كانت تسير الى الخلف. وقد استغللنا الفرصة لتوسيعها بعض الشيء. صور مغنين تملأ كل الجدران بالإضافة ألى صورة ابن العم الشهيد.

حان وقت المغادرة. وقبل الخروج عمدت ألفة الى تغطية رأسها بحجاب واستعاضت عن بنطلونها بتنورة جينز طويلة غذتها بمعطف طويل. غطت ابنتها أيضا رأسها. التحقت بنا اخت الزوج وابنتها وكاننا راغبتين في الاستمتاع بهذه الرحلة؛ اذ ان فرص التنقل نادرة. لم تر ألفة أسرتها منذ سنتين. قالت: اسرتي آل الرشيد في جنين مهمة جدا. سوف ترين.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي