توماس سواريز... في التأسيس الإرهابي لـ"إسرائيل"

2023-11-02

أنس الأسعد

لا يُمكن فهم السيرورة التاريخية التي أقامت من خلالها الحركة الصهيونية كيانها على أرض فلسطين التاريخية، دون الرجوع إلى مفهوم مركزي؛ ألا وهو الإرهاب. وهذا الأخير ليس مجرّد توصيف نطلقه على عدو فاشيّ فحسب، بل دينامية عنفٍ توجّهت ضد العرب، وتجاوزتهم إلى اليهود وكذلك البريطانيين، حين كانت تلمس من بعضهم أنهم سيعرقلون مشروعها. هذا ما يشتغل عليه الموسيقي والباحث الأميركي توماس سواريز في كتابه "دولة الإرهاب: كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب" (518 صفحة)، الذي صدرت ترجمته عن "عالم المعرفة"، عام 2018، بتوقيع المُترجِم محمد عصفور.

"أراضي شعب آخر" عنوان الجزء الأول من الكتاب، وينقسم إلى ثلاثة فصول، هي: "الهيكل الثالث"، و"الصهيونية والانتداب البريطاني حتى عام 1938"، و"بينما كانت الحرب تستعر: 1939 ـ 1944". في هذا الجزء يُشرّح الكاتب العلاقة الجدلية بين السماء والأرض، بمعنى توليف العقيدة الدينية (السماوية) للسطو على أراضي الشعب الفلسطيني. ويوضّح كيف أن بن غوريون، ظلّ يرجع في خطبه دائماً إلى الكتاب المقدّس، ليؤكّد أن ما دفعت إليه الوكالة اليهودية هو "العودة". وبهذا يصبح الواقع السياسي مُطوّعاً للمخيال الديني، ومن هنا نفهم أي قيمة (لا عِلمية)، بات يقوم عليها عِلم الآثار الصهيوني، الذي تحوّل إلى مجرّد أداة أيديولوجية غَيبيّة سعَت الصهيونية من خلاله إلى "قومنة" الدين.

كذلك يتناول الباحث في هذا القسم "وعد بلفور" (2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917)، حيث حرص فيه زعماء الصهاينة على عدم ورود صياغة "التأسيس"، بل "إعادة التأسيس"، وبذلك يضمنون المحافظة فيه على البُعد الديني. وحتى عام 1936، تاريخ اندلاع الثورة الفلسطينية، ظلّت الأنشطة الصهيونية تتنامى، لا بدعم من الاحتلال البريطاني فقط، إنما من ألمانيا النازية أيضاً، حيث رعت الأخيرة من خلال "اتفاقية هافارا" (1933) تسفير اليهود من ألمانيا على أن يستعيدوا بعض أموالهم بشراء المنتجات الألمانية التي يمكنهم بيعها بعد ذلك. وقد جُرّبت هذه الفكرة لأول مرّة في أيار/ مايو 1933، أي بعد تولّي هتلر منصب المستشارية بأربعة أشهُر.

لكنّ التوحّش الإرهابي الصهيوني، أشد ما تكشّف، بعد عام 1939، حيث استغلّت عصابات "هاغاناه" و"أرغون" و"شتيرن" (أو "ليهي" حسب الاسم الرسمي) انشغال الدول الكبرى بالحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تنسج تحالفات مع الفاشيين والنازيين، على عكس ما تروّج له الدعاية الغربية، اليوم، من أنّ اليهود (كل اليهود) كانوا مجرّد ضحايا للنازيين، ولنزعات شريرة عند الأخيرين فقط. ويذهب سواريز إلى أن هذه المرحلة كانت حاسمة من حيث تكثيف العمليات الإرهابية، كتفجير المقاهي العربية، واستهداف الناس في الشوارع، وقطع الطرق، وسوى ذلك من الإجرام المنظّم الذي مهّد الطريق إلى نكبة عام 1948.

"سقوط الفاشية ونهوضها" عنوان الجزء الثاني، وينقسم أيضاً إلى ثلاثة فصول، هي: "انتصار الحلفاء 1945"، و"السباق نحو التعصب 1946"، و"حامية محاصرة 1947". أهمية هذا الجزء أنه يُعيدنا إلى التمثيلات الأولى، في السياق الفلسطيني، لازدواجية المعايير. ففي الوقت الذي كانت تحارب به الدول الكبرى الفاشية في أوروبا، كانت تُطلق يدها في فلسطين، وتغضّ النظر عمّا ترتكبه العصابات الصهيونية من جرائم. وفي هذه الأجواء، بدأ العالم يشهد انزياح السيادة الإمبريالية (القديمة) من بريطانيا، إلى مركز جديد هو الولايات المتحدة الأميركية، التي ترأسها هاري ترومان بين عامَي 1945 و1953، والذي دعم بشكل مُطلق، على عكس خلفه روزفلت، المشروع الصهيوني في فلسطين، الأمر الذي حشّد اليهود في أميركا بقوّة من أجل الهجرة إلى "الوطن القومي الموعود".

مع ذلك، فإن الدفع باليهود إلى فلسطين لم يكن سهلاً، وهنا لجأت الصهيونية، وفقاً للكاتب، إلى استخدام أسلوب الإرهاب ضد الأقلية المعارضة للهجرة، فلم تتورّع عن شن هجمات مسلّحة في أوروبا ضدّ اليهود المُعارضين، وفي بعض الحالات تم خطف الأطفال. حتى أن صحيفة "نيويورك تايمز" كتبت في توصيف هذه الحالة: "قد تحوّل اليهود الذين يعيشون في مخيمات المهجّرين في أوروبا إلى رهائن لا يفديهم إلا إنشاء دولة إسرائيل". واللافت في هذا الجزء أنه يبيّن مدى كثافة العمليات الإرهابية التي نفّذتها عصابات صهيونية في أوروبا، ضدّ يهود أو/ وضدّ مصالح حكومية، وتكاد تقرب ممّا ارتكبته ضدّ الفلسطينيين، أو تتكامل سياسياً معها. وبالتالي فإنّ موظّفي ما يُسمّى "الإدارة المدنية"، التي فرضتها قوات الانتداب البريطاني على فلسطين، قد وجدوا أنفسهم مجرّد "حامية مُحاصَرة"، أمام ضغط الصهاينة وعنفهم الديني/ الطائفي.

"موطئ قدم" عنوان الجزء الثالث، ويتألّف من فصلَين: "التقسيم: الإجراء المؤقّت 1947 - 1948"، و"إسرائيل بلا حدود". حيث ينطلق من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (181)، والذي صدر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، ويقرّ بانتهاء الانتداب (الاحتلال) البريطاني، وتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق؛ دولة عربية تمثّل مساحتها 42.3 بالمائة من فلسطين، ودولة يهودية تمثّل 57.7 بالمائة، ووضع القدس وبيت لحم تحت إدارة دولية. مع ذلك فإن القرار في جوهره لم يكن سوى خطوة أولى نحو "إسرائيل التوراتية"، وبالتالي لم يعدُ كونه "إجراء مؤقتاً" ضمن حركة استراتيجية أكبر، شأنه شأن وعد بلفور، حسب سواريز.

دولياً كما فلسطينياً، مُهِّدت الطريق بعد هذا، إلى نكبة أيار/ مايو 1948، حيث لم "تتأسّس الدولة اليهودية"، إلا بعد حملات تهجير عرقي كبرى، شملت أكثر من سبعمائة وخمسين ألف عربي (وهو أقل من الرقم الحقيقي، كما يُنبّه الكاتب)، ومحْوِ أربعمائة قرية فلسطينية من الوجود، وبدأ بناء مستعمرات استيطانية فوق أنقاضها، والتي راحت تستقبل مستوطنين جاؤوا من مختلف أرجاء العالَم، ومن بينهم يهود عرب أُجبروا على ترك مواطنهم الأصلية، والالتحاق بـ"الدولة" الجديدة التي لا يعرفون عنها شيئاً.

إعلان إقامة دولة الكيان، وتجميع اليهود في "وطن قومي"، لم يكن ليضع حدّاً للممارسات العنصرية، فـ"الهدف" الصهيوني لم يتحقّق بعد، إنما بدأ تنفيذه من خلال تعزيز الإبادة تجاه العرب، وتأكيد العداء بالضد من هذا المحيط، وليس فقط فلسطين. ومن ثم الانتقال إلى عزل عناصر هذا المجتمع المُلفّق، وتوزيعها وفقاً لتراتبية نفعية تقوم على الأصول والأعراق. حيث استبدّ الأوروبيون بمراكز السلطة والحُكم، في حين أُبعد الأفارقة والمنحدرِين من أعراق أُخرى إلى خطوط المواجهة العسكرية المباشرة. كما احتفظ الجيش الإسرائيلي بتكتيكات العصابات المُشكِّلة له، وفقاً للكاتب، ومن هنا، تزايدت جرائم السطو والاغتصاب. ولم نصل إلى حزيران/ يونيو 1967، إلّا وانفجرت عدوانية الكيان مجدّداً، وعاد لينتهج التطهير العرقي، ويطرد أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني من أراضيهم.

يختم الباحث الأميركي كتابَه بمقاربة لافتة، وتُحيل إلى الراهن، حيث يعود إلى عملية "الرصاص المصبوب" (كانون الأول/ ديسمبر 2008 - كانون الثاني/ يناير 2009)، عندما شنّت قوات الاحتلال عدواناً مُماثلاً لما يحدث، اليوم، ضد قطاع غزة. وكيف يُنبّه الكيان دول العالم حين يتعرّض لأي هجوم، وكيف يُبادره العالَم، أيضاً، بالاستنفار وبتحشيد خطاب الإرهاب، دون أن يُمعن أحدٌ النظر في مصير سكّان غزة المُحاصَرين داخل شريط ساحلي ضيّق منذ عام 2007.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي