"موت أنيلا" لإبراهيم قدريو: جَمالُ أن نعود أحراراً

2023-09-13

سومر شحادة

رواية الكاتب الكوسوفي إبراهيم قدريو (1945) "موت أنيلا"، الصادرة حديثاً بترجمة عدنان محمد عن "دار الحوار"؛ تتحدّث عن أقلّية ألبانية تتعرّض للمُلاحقة والاضطهاد من الصرب، وهذا عنوان عريض لقراءة النص، ينطوي ضمنه عنوان آخر. وهو النموذج الجاسوسي الذي تزرعه السلطات داخل حزب الأقلّية، وتُزوّده بما يحتاج إليه من أدوات للخديعة، مثل الكتب الممنوعة التي يُوقع من خلالها بضحاياه، والتغطية على خطابه الذي يتبدَّى خطاباً مُعارضاً، ومن ثمَّ تجنيده كي يواصل عملياته بصفته منفيّاً خارج الحدود.

 ببساطة، وبالقليل من التأمّل في النصّ وإسقاطاته داخل المجتمعات العربية، نرى نموذجاً سائداً من "المثقّف اليساري" العربي في أكثر صورهِ وضوحاً وفجاجةً (طبعاً ليس لهذا من اليسارية سوى قشورها). حتى يُمكنني المبالغة بالقول، إنَّ النص يروي حكاية نموذج قبيح، قد أهرق بمعاركه الصغيرة قضيّة شعبه. وما يجعلها رواية فارقة، هو ذلك الكشف الصاعق لهذا النموذج الأشبه بالمرض المتفشّي في البيئات المقموعة. الرواية تترك قارئها عرضة لتساؤلات جوهرية، أحدثها الكشف القاسي لجوهر الإنسان تحت القمع.

إذاً، الرواية تقصّ حكايةً ليست بعيدة عنَّا بالقدر الذي يتوقّعه القارئ. على العكس، ربما تُساعدنا في فهم ما يفعله القمع السياسي بالمجتمعات، وكيف يحكم الخناق على الأصوات الأصيلة عن طريق تطويقها بالحُثالة، وهي تفسِّر إلى درجة بعيدة الارتيابَ الذي يُصيب البشر الخاضعين لأنظمة بوليسيَّة؛ الأمر الذي نراه لدى شقيق ذلك النموذج، الذي يستمع خِفية إلى وشاية أخيه بهِ، بأنَّ لديه سلاحاً. ويُتيح له الضابط الصربي سماع الوشاية كي يقول له؛ انظر، تأمّل، كن يقظاً؛ لهذا السبب يخسر الألبان، فالأخ يشي بأخيه.

أما عن تفاصيل الرواية، فهي عن شابٍّ، يُدعى غني شيتي، أو هذا اسمه في بداية الرواية، وسوف يتغيّر مع تغيير الدور الذي يسنده إليه النظام. وقد أُعدَّ من قبل الشرطة كي يكون أداةً. إذ كان ينشر الكتب الممنوعة بين الطلاب، ويتسبّب باعتقالهم، أمرٌ استمرّ بالقيام بهِ إلى أن أُعْجِب بفتاة، وقام بتوريطها. وعندما همَّ بإصلاح خطئه، قتلها، كي يدرأ عنه تهمة الاغتصاب، ومن ثمَّ ألقى خطاباً حماسيّاً ومناقبيّاً في المتوفّاة، حدّاً أثار فيهِ المتظاهرين، واعتقل مع آخرين.

في السجن، يُعزَل عن رفاقه، ويجلس مع رئيس فرع الأمن، إذ يخطّطون لاختفائه والذهاب إلى مدينة أُخرى، على أن يظهر لاحقاً كمناضل مُبعَد. لكن، ما يحدث، أنَّ رسالة مجهولةً تروي ما حدث مع الفتاة، مع أنيلا، تغير خطط جهاز الأمن الذي يستمرّ باستثمار غني شيتي بإجراء تغييرات على شكله، ومنحه اسماً جديداً، وإرساله إلى ألمانيا، ليُنفِّذ اغتيالاً لأحد المعارضين. هذا هو الجزء الأساسي من الحبكة، ونقرأ في أبعاده، قدرة النظام على تصنيع معارضيه. أمرٌ يذكّر- ولو عرضاً - بديستوبيا جورج أورويل الشهيرة "1984"، إذ تبدو معاندة النظام أمراً من غير طائل، لأنَّ النظام بنفسه مَن يَصنّع خصومه.

إلى الآن، يظهر الجانب الفاسد من الحكاية. وعلى المقلب الآخر، يعرض قدريو التغيّر المفاجئ الذي طرأ على غني شيتي، وقد صار اسمه جينك بليبي. وما إن وصل إلى ألمانيا والتقى بالألبان؛ حتى داخَلَه ندمٌ ما، حتى داخلته شكوك عن حقيقة دوره. وقد عاد الحبّ الذي قتله، أنيلا، ليعذّبه ويضرب داخل وجدانه ضرباً مريراً. إلى جانب تساؤلاته عن مستقبله، عن حاجته كي يتعلّم ويدخل الكلّية، ويصير لديه شهادة جامعية. أمرٌ ينتبه إلى صعوبته ما إن ينبّهه مشغّلوه إلى حقيقة أنَّ غني شخص غيره، شخص مات، ودُفن بالنيابة عنه لاجئ أفغاني، شخص ساءت سمعته في بلدته، ولم يعد ثمة إمكانية للعودة إليهِ.

وفي هذا الحيز من فَقْد الاسم، يبدأ جينك بمُقَاساة منفاه الذي صنعه له النظام. هنا، يصنع قدريو اختراقاً في سرده؛ إذ يقرّر جينك الانقلاب على مشغليه. وكان قد قرأ بعض الكتب الممنوعة التي زُوّد بها؛ الكتب غيّرته، والألبان الذين قابلوه باللطف والودّ بصفته ألبانياً غريباً في ألمانيا وهارباً من نظام بلده؛ كلّها تفاصيل قادت إلى تحوّل جينك بليبي، وقد اكتشف أنَّه حتى في الشقّة التي استؤجرت من أجله يخضع للمراقبة. وهكذا يضع جينك المسدّس أمام المعارض الذي طُلب منه اغتياله، ويقرّر أن يتوب، يواجه ماضيه، ويقرّر أن يصنع مصيره بالصورة التي أرادها منذ البداية، قبل أن يكبّله نظام بلده بالمؤامرات الخسيسة.

تشهد الرواية هذا التحوّل الجذري في الشخصية، وهو تحوّل يُعيد النموذج إلى براءته، كما لو أنَّ الخسّة التي كان يتبدّى بها، هي خسّة القمع السياسي، وخسّة الأنظمة التي تقسر البشر على أدوارٍ تُنافي طبيعتهم. هذا تأويل. ربّما أراده قدريو. وقد يكون أُتيح للنموذج الذي يعرضه قدريو أن ينظر، عن قرب، إلى حقيقة مَن يُلحق بهم الأذى، إلى جانب التكاتُف الذي أظهره أهل بلدته، عندما احترق منزل أخيه، من غير أن يكون قادراً على التواصل مع أخيه بهويته الجديدة. والرواية بحبكتها البوليسية التي تُظهِر تجنيد البشر ضدَّ أنفسهم، وضدَّ أهلهم، إلا أنَّ فيها بُعداً وجدانياً يقلب الحكاية عند المحكّ الختامي. وكأنَّما أقصى جهد الرواية المناداة بأن نكون، أو نعودَ بشراً. أمرٌ يتأكّد منه القارئ، وهو يُعاين ويلتمس تغيّرات الشخصية في مراحلها الأخيرة؛ ازدياد حساسيّته لما يَراه وما يسمعه، وما يدور من حوله. وكأنما دخل طوراً أدبياً يدفعه لأن يصير إنساناً جديداً، أو أن يتبرّأ من جزء من حياته، كي يعود إنساناً حُرّاً. وهذا تحوُّل ينتمي بكليّته إلى الدارما الأدبية، من الشاقّ أن نراه في الواقع. إنَّها آمال الأدب، لا مآلات الحياة.

 روائي من سورية

بطاقة

Ibrahim Kadriu كاتب وروائي كوسوفي من مواليد عام 1945. يعمل في الصحافة منذ عام 1968، وقد أصدر أكثر من 60 عملاً تتوزّع بين الرواية والمجموعات الشعرية. من رواياته: "حمّى الشتاء" (1983)، و"الطيور تُحلّق وحدها" (1986)، و"بيت الأشباح (2004)، و"كريمي" (2014)، و"عبر الدروب" (2016)، و"موت أنيلا" الصادرة ترجمتها حديثاً وقد سبقتها إلى العربية روايته "خارج السكة" عام 2021. له أيضاً في أدب الرحلة "المسافات القريبة" (2011)، وفي الشعر "مسرح كوسوفو" (2016).








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي