لرسمِ شيءٍ ما عليك أن تغمض عينيك وتدندن

2023-08-22

كونستانتين سيفيرين

في 25 قصيدة تشكّل متن كتابه "حيوات الرسامين"، يستنطق الفنان والشاعر الروماني تجارب فنانين عالميين عبر مونولوغات تكثّف حياة كل منهم.

بول كلي

غالباً ما اعتدتُ العزف على الكمان في شبابي أمام مسند اللوحة

محاوِلاً رَسمَ الموسيقى وتوليد الأصوات والألوان

إلى أن لامست بروحي أوتار النور في دمي

لم أكن أرسم خطوطًا ولكني كنت أحاول التقاط نبضات الخطوط

كانت حياتي رقصة متواصلة بكلّ ما لديّ من موسيقيين

ومن كلمات مصوّرة وهجاء موسيقي يلامس لُبَّ الماورائي

لطالما حلمت بفن متعدد الألحان ينبع من القوى الأصلية.

استحوذ عليَّ اللون منذ عام 1914، بعد رحلتي إلى تونس

وقتها، ارتشفتُ على مهل جوهر الليالي العربية

وبدأت أقرأ الحقيقة بأحاسيس الأضواء الليلية،

مع طلاب مدرسة باوهاوس، أردت مغايرة السائد

لأشعر بنفسي مولوداً جديداً وسط العالم الهائج

الذي صنّف فني "المنحط" لاحقاً في صدارة الخزي

كان فني كلما ازدادَ العالم فظاعة، يصبح أكثر تجريدية.

حميميّتي مع الموت فكرة اعتيادية في حياتي

كما صديقَيَّ الفنانَين أوغست ماكي وفرانز مارك،

لكنني ضحّيتُ بها بلا هوادة في الحرب العالمية الأولى.

حينَها، احتفظت بخنجر توليدو الخاص بجدي في صندوق الكمان

كان يعكس وجهي المتورّم من المرض وأنا وحيد

والموسيقى والموت يصبحان أكثر حيويةً من أي وقت مضى حينما ينصهران

في الجسد ذاتِه الذي تعضّه المعاناة بعمق على هسيس البرق.

في العام الأخير من حياتي أنقذت 1200 لوحةً من براثن الموت

بالكاد استطعت حمل الفرشاة في يدي ببشرةٍ سميكة

كان لدي احتباس سوائل في جميع أنحاء جلدي

وآلام في المفاصل وارتفاع في ضغط الدم

كنت أشعر أحياناً بالدوار عند التحديق إلى وجهي المصاب بالكدمات في المرآة.

بشرة لامعة وممتدّة بخطوط كثيفة من الجلد المتصلّب

لكنني ظللت أبحثُ بجديّة عن مكان اللّون في الدماغ

والكون يحتضن كلَّ آلام العالم من الأعلى.

تعلمتُ من آينشتاين أنَّ كل لحظة هي بذرة لكون جديد

وفهمت أنَّ الفن لا يكمن في المرئي بل ينسجه

من ثنايا العوالم غير المرئية والأساطير القديمة

كنت أرغب في إعادة كتابة القصص الخيالية

التي لطالما راودتني في أحلام طفولتي

بحثاً عن تلك البساطة المثيرة عند تلوين الخطوط والإيقاعات في الفضاء

حيث يُسمَعُ للعينين صوتُ قرقرة

ولكن، يوماً ما، سوف أجلسُ في اللامكان وَملاكٌ إلى جواري.

سوتشافا، 20 يناير 2021

■ ■ ■

بابلو بيكاسو

أخبرتني أمي أنَّ أوّل كلمة نطقتُ بها كانت: قلم رصاص.

لرسم شيء ما يجب عليك أن تغمض عينيك وتدندن

ثم تحرّك يدك على القماش بشكل انسيابي تماماً مثل الطيور أثناء تحليقِها.

لطالما رسمت الأشياء بطريقة مغايرة لتلك التي أراها بها

لم أرسم بحكم الطبيعة، بل أمام الطبيعة بآلاف الوجوه والنسخ

مُنَوَّماً مِن قوى اللاوعي التي تشكّل جوهر الحياة

ومنجرفاً مع سَيلِ العالم بحثت عن الرجل البدائي وراء الأقنعة.

إبان طفولتي في مالقة، علّمني والدي الاستعاضة بالرسم عن الّلعب

لم أستطع سماع نعيق طيور النورس وهي تحلق في دوائر بيضاء حول منزلنا

كان الأمر كما لو أنَّ قلبي كان مسمّراً على الإطار الخشبي للوحة.

كنت أرسم مثل رافائيل في عمر الثانية عشرة

واستغرقني العمر كلّه لأرسم كطفل.

سرعان ما مارست فن رؤية العالم من عدّة زوايا في وقتٍ واحدٍ

ودسست الديناميت في قلوب الأشياء الشفافة والمتجانسة.

من الرسومات ذات الألوان الزاهية،

أعدت بناء واقع جديد بعناية تحليلية.

لقد منحني إلغريكو وسيزان وَماتيس وبراك الرؤية والطاقة والشجاعة

لإدراك أنّه لا خلفية في الفن الحقيقي،

كلُّ شيء في المقدّمة

لقد نحت الأفكار في صمتٍ يحاكي صرخة مونك

وشربت من قدح الجنّية الخضراء في المقاهي الدنيئة حتّى آخر قطرة.

عشت الفقر واليأس في باريس مع ماكس جاكوب

وألقيت بالمئات من لوحات المرحلة الزرقاء في النار للتدفئة

أحرقت كثورٍ هائج المومسات البهلوانيات اللواتي اعتدن تسوّل الفرح.

خدّرت نفسي بجوهر الأنوثة وسجّيتُ عشيقاتي على القماش

في كل لمسة مرسومة بعد ممارسة الحب كانت تندلع زوابع الطبيعة.

عندما تبدأ العمل فأنت تُترك بمفردك

كل ما يتبقّى لنا هو أنفسنا.

شمس بألف شعاع تخترق بطنك وأحلامك

ثم تصبح آلهة النساء أو مماسح أبوابهنّ مجرد ملاحظات نمطية

مجلّدات موسيقية عن الجنس والخصوبة والولادة والموت والحب والعنف

تستنبط منها الأشكال والألوان بريقها وجمالها.

الشروع في تنفيذ عمل فني هو إعادة إنشاء عالَم متحلّل

الناس من حولي بعيون بلا ذاكرة يحدقون دون أن يروا

بالنسبة للأصدقاء والجمهور، كان فيلم "Les Demoiselles d'Avignon" بمثابة كارثة.

في بعض الأحيان كنت ميناتوراً غاضبًا جرى ترويضه فقط في عيون صديقاتي

مظهر الابن كلود بعد أن قمت بدمج بعض ألعابه في المنحوتات الجديدة

المظهر المُلّح والغريب للفراغ الداخلي في نهاية اللوحة

النظرة وراء كل شيء تقضم نظرتي الدائخة برائحة الأفسنتين

سوتشافا 24 مارس 2021

ترجمة: مريم جنجلو

بطاقة

Constantin Severin شاعر ورسام روماني من مواليد 1952. يعدّ مؤسس حركة التعبيرية النموذجية، وهي حركة فنية عالمية أسّسها عام 2001، وتدعو إلى استكشاف القديم والخالد من خلال الذاكرة الجماعية. أصدر أكثر من عشرة كتب بين الشعر والمقالات والقصص. تُرجمت كتبه الشعرية ونشرت في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ومقدونيا والهند. القصائد التالية مترجمة من كتابه "حيوات الفنانين".








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي