تعلُّقٌ بغصنٍ مع الحريّة

2023-08-13

ألان غوكوفسكي

الزمنُ الخفيّ

تعيشُ نباتاتُكَ، التي قرَّرتَ زَرْعَها داخلَ بيتِك هذا الأسبوع،

في غمرةِ دِفْءِ أصابِعِ الكتابة،

وراءَ الزُّجاجِ الشَّبحيّ للسنين الخفيّة.

ظلَّتِ الأبوابُ والنوافذُ بعيدةً عن ناظِرَيكَ،

ولكنّها هناكَ في الحقيقةِ راقدةٌ في أفكارِك.

لم تتعمّق في تقديراتِكَ عندما وضعتَها،

ويغمرُكَ الرضى مع أنّك لا تستطيع رؤيتَها أو لمسَها.

آبارُكَ مُترعَةٌ بالسنين الخالدةِ التي تبتَكِرُها.

تشرَبُ بريقَها، ولا تَجرُؤُ على السّباحةِ فيها.

وفجأةً، تملأ السنواتُ التي شكّلتَها العالَمَ من حولك بالدروسِ والعِبَر.

تنداحُ ألوانٌ حرّةٌ من مَساماتِك.

يأخُذُ عالَمُ الزَّمن الصَّعبِ بالتلاشي.

ويحيّي شَكْلا الدقائق المختَلِفَان بعضَهما -

كساكنَيْنِ في بَلَدٍ مُقَسَّم -

يتسلّلانِ بسرعةٍ عبرَ الجدارِ المُتهالِك.

■ ■ ■

ما بين بين

ورقةٌ متمرّدةٌ تُصارعُ

للبقاءِ على الفَرْع.

ترتجفُ من الألمِ والهواء.

ليستْ مادةَ الحياة، بل مُنتجُها 

الذي يقضِمُ ببطءٍ أجزاءَ صغيرةً من السّماء.

الورقةُ مجرَّدُ بيدَقٍ في المشروعِ الكبير

يسعى لقَهرِ الهواءِ الذي يُظلِّه.

ولكنَّها مع ذلك أخذتْ تُفكِّرُ بنفسِها.

تتمسَّكُ خلاياها بالفجوةِ في حَبْلِها السُّرّي.

وُلِدَتْ مجدّداً في دورةٍ قصيرةٍ،

وسوف تنتهي بهزيمةٍ نهائيّة.

زادَ وعيُها بالطبع،

وأدرَكَتْ تماماً أن ولادَتَها طريقُها إلى موتِها.

أصبحتْ أشبهَ بِرَجُلٍ مذعورٍ يتعلّقُ بتلابيبِ

جرفٍ صخريٍّ مشؤوم.

بكل قوّتها تحاولُ أن تبقى متصلةً بالفرع.

ولكنَّ طُغيانَ الرّيحِ يتجاهَلُ أَلَمَها الجَسُور.

وهكذا،

لم تعد الورقةُ نباتاً، بل شخصاً

يدرِكُ جعل إخوته الفطريّ،

الذين استسلموا، والتحقوا بوَهمِ الحُريّة.

التعلّقُ بفرعٍ ما،

مع الحريّة،

أفضلُ من الطيران كعَبدٍ تحتَ رحمةِ الرّيحِ المغرورة.

الهواءُ بحاجةٍ إلى الدُّمى،

الدّمى التي تستبدِلُ حُريَّتَها بسِرابِ أوهامٍ جديدة.

الورقةُ لا تطير، ولكنها تتحرك كجنديٍّ خاضعٍ مطيعٍ للصّدفِة، كرهينةٍ تَجُرُّها النزوة من عُنقِها.

والنوارسُ العابرةُ تراقِبُها بازدراءٍ واضح.

■ ■ ■

مُدُنٌ منكَمِشَة

كلما تمدّدَتْ خلايا النمو في عظام ناطحاتِ السّحاب، تقلّص شيئاً فشيئاً نسيج المدن.

الغسّالاتُ – ماءُ السنين الدافئ- ومسحوقُ الحضارة يقلِّصُ المناظر الطبيعية ويُغيّرُ مفاهيمَنا القديمة عن المساحة. يوميّاً تصغرُ كل المساحات من حولنا. يتغذّى المواليدُ الجُدُد، الأجنّةُ الشّهريّونَ، على الزّجاج والفولاذِ والإسمنت، يُولَدونَ من الأرضِ وتطولُ قاماتُهم فيضحكون على الجسور والشوارع راقدةٌ على عتَباتِ أقدامِهم. يلعبونَ بالسُّحُبِ الكثيفة كزغَبِ بذورِ الحَوْر. تنتصبُ ناطحاتُ السّحابِ المتزايدة بسهولة في العاصفة، مثل مراهقين يعبثون في نهر جبليّ سريعٍ حنون. فيختفي عالمُ الشارِعِ بأكملِهِ وراءَ السُّحُبِ الكثيفة هناك، بعيداً عن أعيُنِهم المُشرِقة. ولكن هذا التحوّل لم يطرأ على المساحة والفضاء وحسب، بل أخَذَ الزّمن أيضاً في التكثّفِ ليغدو زيتاً طائراً خفيفَ الوزن، ناعماً كهمَساتِ السوائل عندما تغمس أصابعك فيها. اسحب يَدَكَ من الزمنِ وسترى: سوف يجفُّ الزّمنُ بلمحِ البَصر. ترتفعُ المباني، فتتقلص مساحاتُ الأُفُق، وتزدادُ وتيرةُ حياتِنا سُرعةً. يسحَبُ الأطفالُ بطّانيّاتِ الأيامِ ليلُفّوا أجسادَهُم الضّخمةَ في الليل، وفي غَمرَةِ نُعاسِهِم، تُشِعُّ خلاياهم بالضّوء وتنقَسِمُ فتتّسِعُ المباني. وهكذا تبدو القريةُ أكبر من جميعِ المُدُن. المدنُ التي تغزو أبنيتُها الشاهقة أفُقَ جميعِ ضواحِيها.

حتى الدّقيقة في الرّيف،

أطولُ من الأيامِ

في ذلكَ البُعدِ المُنكَمِش.

ترجمة عن الإنكليزية: عماد الأحمد

بطاقة

Alan Zhukovski شاعر أوكراني من أصل بولندي، يكتب الشعر والنثر باللغات الإنكليزية والروسية والأوكرانية. كتب عدّة دراسات في الشعر الإنكليزي والأميركي، ونُشرت قصائده في العديد من المجلات، من بينها، "لندن ماغازين"، و"نيو ستيتسمان"، و"ذا فورت نايتلي رفيو"، و"ذا ثري بيني ريفيو"، وهو من أبرز مترجمي الشعر الأوكراني إلى الإنكليزية.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي