استعادة حديثة لما يفعله العشق بضحاياه

2023-06-26

حسن داوود

«حبّ» هو عنوان رواية الإيطالي دينو بونزاتي.. عنوان من كلمة واحدة، دون أل التعريف حتى، ودون صفة تتبعها أو تسبقها، لم يكن ذلك التعميم اعتباطيا إذن، فالعاشق حتى الضياع والسقوط، أنطونيو روديغو، لم يستطع أن تصل به معاناته إلى ابتداع أسطورة عشق جديدة. فالرواية تتحدثّ عن العشق لا عن عشقه هو، رغم أن الصفحات التي تزيد عن الثلاثمئة لم تتوقف أبدا عن ملاحقة ما يحلّ به، هو المقبل على الخمسين والغارق في ملل حياته الرتيبة، أي أن أنطونيو هذا يمكن أن يُستبدَل بعاشق آخر طالما أن حكايته لم تنطوِ على ما تتميّز به. كل سقوط غرامي يشبه هذا السقوط.. إنها حكاية متكرّرة منذ أن بدأ البشر يلهجون بهذه الثيمة القدَرية يعودون إليها، من أجل أن يؤكّدوا أنها باقية على مرّ الأزمنة.

ولا يفيد كثيرا تخصيص المعشوقة كونها بغيا، تعرّفها أنطونيو في بيت العاهرات الذي سبق له أن ارتاده مرّات، لكن على نحو ما يحدث لدى الوقوع في الحبّ، تراءى للزبون أنطونيو أنه كان قد لمحها مرّة في أحد أزقة تلك المدينة الإيطالية مقدّرا، من شعرها الطويل المنساب سواده على كتفيها، أنها إسبانية. لكن تلك المشابهة بينها وبين ما ظنه عن لمحه إياها، ظلّت كما هي، خالية من أيّ تيقّن. وللمفارقة التي ظن الروائي بوتزاتي أنها قد تحدث فرقا في تحويل بطلته إلى شخصية فريدة، كانت لايدي (وهذا اسمها) تعمل راقصة باليه، وهذا ما يصعب أن تبلغه بنات الهوى العاديّات، الآتيات من قيعان المدينة ومطارح بؤسها.

وها هو يُدخل هذه الميزة في نظرته الجمالية إلى جسد عاهرته. فالرقص، كما راح يتخيّل، «رمز رائع للفعل الجنسي. القاعدة، الانضباط، الصرامة الحديدية التي تفرض غالبا على أعضاء الجسد لأداء الحركات المؤلمة شديدة الصعوبة، ترغم تلك الأجساد على الإفصاح عن الجوانب الخفية فيها، عبر وضعيات بالغة الإثارة والانفتاح» من هذه الوضعيّات: تحرّر السيقان، الجذع، الأذرع المفتوحة عن آخرها.. «كل ذلك لإرضاء الذكر».

هذا الوصف للرقص يجري في دخيلة أنطونيو قبل أن يشاهد لايدي تؤدّيه، لكنه مع ذلك مستوحى من مشاهدته، بل من تعامله مع عري جسدها. لكن هذا التخيّل ليس إلا بداية للنشاط المحموم لمخيّلته، التي تدفعه إلى تصوّر عاهرته تجامع أشخاصا، بل زبائن، كثيرين، ناهيك عن علاقاتها الغرامية الخفيّة، تلك التي كان يوليها غيرةً أفظع بكثير مما تقتضيه ممارستها لمهنتها. وما يزيد حياته صعوبة، بعد تعلّقه بها، هو غياب ثقته بها بما يدفعه إلى محاولة التحقّق بنفسه: أين كانت، ومع مَن، وأين هي الآن، ومن هو ذلك الشاب الذي تقول إنه قريبها، وهل حقّاً أنها تقضي بعض الليالي مؤنسة والدتها في مركز الاعتناء بالمسنّين؟ تلك الأوقات التي تنأى عن اللقاءات القصيرة التي تجمعه بها هناك في منزل العاهرات، أو في لقائهما الذي أمكنه أن ينال موافقتها عليه، هل كانت هي حقّا؟ هي الحقيقية، أو وجودها الحقيقي الذي لم يستطع أن ينال منه إلا قشرته.

أما سقوطه، ذاك الذي لا قرار له، فتشعله الرغبة غير القابلة للاكتفاء والتنازل المستمر من قِبَله. يبدأ ذاك السقوط بالتدريج، بالتأخر في الحضور إلى الموعد مثلا، ثم بعدم الحضور، ثم باتصالها به لتقول له إنها مضطرة للقيام بزيارة لأحد لا تفصح إن كان رجلا أو امرأة، وما تريده منه هو أن يأتي ليوصلها إلى هناك بسيارته، ثم، متابَعة لذاك التدرّج تطلب منه أن يذهب إلى حيث تقيم ليطعم كلبها، الذي لم يأكل شيئا منذ الأمس. وهو، على الدوام، يقوم بما يطلب منه، صاغرا وإن شاعرا، كل مرة، بأن سهما أصاب كرامته.

رواية دينو بوتزاني متوالية سردية لما يمكن أن يصل إليه العاشق الشغوف حتى فقدان كل اعتداد بالنفس واحترام لها. إنه حالة سقوط تامة، إذلال مستمر يقوم به من يشعر بأنه ممسك بزمام شخص آخر يستطيع أن يفعل به ما يشاء. وكل ذلك يجري باستعداد العاشق للهبوط المستمر، بما يذكر بما جرى لليدي كارولاين لامب التي هامت بعشق اللورد بايرن، فأخذها التنازل إلى حد أنها صارت تركض حاملة مشعلا ليضيء الطريق لموكبه.

أنطونيو شخصية نموذجية منقولة عن غرام نموذجي حكته الروايات الكثيرة كما كان منهلا لا ينضب لأكثر القصائد والأغنيات. شخصية متلقية لأفعال وهي غير قادرة على ردّ الفعل أو التحرّك إزاءه. لكن ما قرأناه في تلك الصفحات هو الغرام الحقيقي، الغرام المؤدي إلى الانهيار والصفح عند كل سقوط. الآن فقط، بعد أن استردّ أنطونيو بعضا من أنفاسه ها هو يرثي لحال من أوهنته إرادته وعقله فيقول، إن ظروفها في هذه المدينة الظالمة هي التي صنعتها على هذا النحو المعذِّب.

رواية دينو بوتزاني «حبّ» نقلها إلى العربية رامي طويل وصدرت عن دار الساقي في 320 صفحة – سنة 2022

‏كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي