غاياتري سبيفاك: التابع بين العجز عن التمثيل والاستثمار

2023-06-08

رامي أبو شهاب

أثناء إعداد رسالتي للدكتوراه حول خطاب ما بعد الكولونيالية، التي صدرت في كتاب بعنوان «الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية» عام 2013 كانت المصادر التي تتعلق بالنظرية غير مترجم معظمها، وهذا شكّل تحدياً حتى اتصل بتلك المصادر المركزية، ولعل أهمها الدراسة التي وضعتها الباحثة الهندية غاياتري سبيفاك بعنوان «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»، والآن بعد عشر سنوات بدأت الترجمات تطال تلك المصادر، ومنها هذا الكتاب الذي ترجمه خالد حافظي من منشورات صفحة سبعة في المملكة العربية السعودية عام 2020.

الأهمية والمنطلق والتنظيم

تكمن أهمية مقاربة سبيفاك كونها تعدّ مصدراً من المصادر المركزية التي تتصل بدراسات التابع، كما نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، فهي تقدم إضافة محورية فيما يتعلق بالتأطير المعرفي لمفهوم التابع عبر اختبار مركزيات الثقافة الغربية، وقيم خطاب الهيمنة، وعواره لا على مستوى سطحي إنما عميق، حيث تختبر سبيفاك تكون قيم التمثيل للتابع في متتاليات من أعلام الفكر الغربي ومنهم: فوكو، وغرامشي، ودولوز، وماركس، ولاسيما من حيث أشكلة الموضوع، وصولا إلى مسألة كيفية تمثيل العالم الثالث كما تقول.

تنهض المقاربة على نزعة نقدية تتوجه للنهج، أو فلسفة تمثيل الفئات المهمشة، ولاسيما في أعمال المفكرين الغربيين في سياق الإجابة عن سؤال «هل يمكن للمهمشين أن يمثلوا أنفسهم؟ وأن يكون لهم صوت؟ غير أن سبيفاك ترى أن أعلام مراكز الخطاب الغربي، على الرغم من صدق نوايا بعضهم، غير أنهم كانوا في معظم الأحيان يعززون تهميش الطبقات المهشمة، بداعي انقطاع هؤلاء المثقفين الغربيين عن إدراك السياقات الثقافية والحضارية والتاريخية، كما نقص التجربة في ما يتعلق بالمهمشين.

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، إلغاء الاحتفال الهندوسي (الساتي) أو الاحتراق الذاتي للأرامل، إذ يشير هذا إلى عوائق تحول دون القدرة على تمثيل هذه الطبقة، نتيجة عدم القدرة على تمثل الظروف، وهنا تسرد سبيفاك جملة من الحيثيات التي تتعلق بمركب ثقافي شديد التعقيد، على الرغم من أن فعل التمثيل -وإن تحقق- فإن صوت المهمشين يواجه التصفية نتيجة وجود بنية فوقية، ونعني حجبه من خلال أنظمة خطابية تتصل بالنماذج السلطوية المهيمنة.

تعتمد المقاربة في تنظيمها على سؤال يتصل بتمثيل صوت المهشمين، وقدرتهم على التعبير، غير أن عمق المرجعية المعرفية لسبيفاك جعل فعل التنظير معقداً، إذا هي تعتمد بناء الفكرة عبر تطورها، وبذلك فهي لا تقدم أفكارها بصورة مباشرة، إنما تلجأ إلى تقديم مدارات من التحليل للوصول إلى غايتها، التي تتركز على فاعلية تمثيل المهمش الذي يحتاج إلى خلق بنية معرفية، وأساس منطقي من أجل ضبطه بصورة واضحة، سواء أكان على مستوى البنى الطبقية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الجغرافية. تكمن بعض إشكاليات مقاربة سبيفاك إلى خطابها الذي يعتمد أسلوباً مكثفاً ومشفّراً، ولاسيما في اكتناه الأفكار بما في ذلك اللاهوتي، وما بعد الاستعمار والنسوية. وهذا يعكس عملاً نظرياً متقدماً شديد التخصصية، يهدف إلى استثارة الفكر، وتحدي القيم المترسخة لا تقديم إجابات مباشرة فحسب.

معضلة استثمار الآخر

على الرغم من أن المفكرين الغربيين سعوا لأن يقوموا بتقويض نظم التمثيل، وثنائية الحجب والإقصاء عبر فعل التمثيل إلا أنهم ـ من وجهة نظر سبيفاك ـ قد فشلوا في التعبير عن المهمشين، بناء على أن هؤلاء الغربيين ينتمون إلى بنية غربية قامت في الأصل بإنتاج أفكارهم، ومن ثم فإن من الصعوبة تجاوز تلك العوائق التي تتصل بتلك السياقات، فإشكالية خطاب التابع ينطلق من جدلية التعبير عنه بواسطة النخب المثقفة (الغربية)، التي من خلال محاولتها توصيل آراء المهمشين غرقوا في التعبير عن أفكارهم الخاصة، على الرغم من أن ظاهر الفعل يحيل إلى خطاب المهمشين، وهذا يحتمل نوعاً من التضليل ربما -غير المقصود- ولعل هذه المعضلة يمكن نقلها إلى تجارب الشعوب محلياً، حيث يؤدي انفصال المثقف عن الوعي بتجربة الفئات التي يمثلها لانفصاله عن ذاكرتها، وتجربتها. تكمن المعضلة من وجهة نظر سبيفاك في قدرة المهمش على التحدث ضمن إطارات السلطة، وهل يمكن التعامل معه؟ أم تشويه خطابه، بصورة أو بأخرى، ففعل التشويش على قيم التمثيل، يبقى جزءاً من آلية الفعل الذي تحتكره السلطة، ومن هنا فإن على المثقفين أن يكون على وعي بخطاباتهم لئلا تمارس فعلاً معكوساً، وأن تتحول لجزء من معضلة التمثيل. من أجل فهم أعمق للدراسة ينبغي أن نحصر محاورها عبر عدد من النقاط، ومنها نقد بنى السلطة، ونظمها الخطابية بوصفها جزءاً من المعضلة، وهذا يتعضد عبر مقارنة هذه النظم بالسياقات، ومن ذلك فعل تمثيل المرأة عبر منظورات الفكر الغربي ينظر للمرأة في المجتمعات الأخرى، من خلال وعيه القائم على تجربة المرأة الغربية، من دون فهم عميق للتمايز بين كلا المكونين، وربما هذا يعدّ معضلة حقيقية يمكن أن ينسحب على الكثير من توجهات الخطابات الغربية في فعل الإنابة عن تمثيل الآخر نتيجة أخطار التجانس والجوهرية. ففعل التبسيط للتجارب واختزالها على الرغم من تعقيدات السياقات الثقافية، قد يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم لا على مستوى الفكر الغربي، وإنما على المستوى المحلي الوطني، ومن ذلك طقس «الساتي» (إقدام الأرامل على إحراق أنفسهن بعد وفاة أزواجهن في الهند)، حيث يُساء فهمه، أو تمثيله من قبل كلا الطرفين.

إن سعي الإدارة المستعمِرة لإنقاذ النساء دفعت إلى فرض قيمها ومنظورها وتفسيراتها، دون فهم كامل للسياق الثقافي، أو وجهة نظر النساء أنفسهن، ما يقودنا إلى نوع من الاستعمار الثقافي، فوجهة النظر الغربية رأت في هذا الطقس فعلا بربرياً، في حين نظروا إلى حظرهم له على أنه تأكيد لدوره المنقذ، حيث ترى سبيفاك أن ممارسة طقس «الساتي» أعيد تعريفه لا بوصفه خرافة، إنما جريمة، وبذلك فقد استثمر أيديولوجيا على أنه مكافأة، كما استثمرت المهمة الإمبريالية بأنها مهمة اجتماعية. من ناحية أخرى يمكن أن نرى التعامل مع الطقس عينه بوصفه نتاج مجتمع بطريركي، بفعل العادات التقليدية والمعتقدات الدينية، وبهذا فإن المرأة الهندية عانت من تشويه مركب، فنبذ رأيها، كما قدرتها على تكوين منظورها الخاص من قبل كل من المستعمرين والمجتمع الخاص بهن، لقد فقدت صوتها الحقيقي، أمست صامتة، أو تعرّض صوتها للتشويه ضمن خطاب مهيمن ثنائي. تشرح سبيفاك أن فعل التمثيل كان جزءاً من المشكلة، في حين أن البعض ينظر إلى الممارسة عينها، غير أن الأمر الأكثر تعقيداً يكمن في تعقيد البنية الثقافية أو المحيطة بها، فالمفكرون الغربيون تناسوا أن هذه الممارسة تماثل ما كان لدى أوروبا من ممارسات تقوم على حرق الساحرات، وغيرها في العصور الوسطى، وهذا يعني أن البنى الثقافية تتحكم بالممارسة التي تتصل بمرجعيات معقدة لا يمكن أن تختزل فقط بتوظيف من أجل خدمة هدف كولونيالي. وقد يكمن الخلل في التمثيل بداعي القيود الذاتية التي تنتج عن وعي بحضور السلطة ضمن إطار داخلي للأنا، التي تستجيب للأنظمة السلطوية، فتعجر عن تمثيل ذاتها، ومن هنا يمكن تفهم الدور الخطير للمثقفين الذين يعجزون عن إطلاق طاقات التمثيل للمهمشين، ولاسيما حين يعجزون عن نقد فهم الدينامية السلطوية، وربما الاستغراق فيها، دون وعي مما يتطلب تجاوزا شديد الإرهاق ضمن هذا المستوى.

التابع في الفكر الغربي

ينطوي الكتاب على أمثلة الخطاب الغربي المتجانس تجاه تمثيل المهمشين كل من ميشيل فوكو وجيل دولوز، حيث يُختزل الآخر بمجموعة، ولكنهم فعليا غير قادرين على أن يدركوا أن داخل المجموعة ثمة شبكة من التعقيدات القائمة نتيجة غياب التفاصيل، أو بمعنى آخر نقص الأطر المعرفية، ومن ذلك الاختزال المبسط، والساذج القائم على الاعتقاد بأن الطبقات المهمشة قادرة على تمثيل نفسها، بمعنى مقاومة السلطة أو هياكلها عن طريق التعبير المباشر؛ من منطلق يعتمد الحالة الغربية، فهؤلاء المنظرون لا يدركون قدرات السلطات أو أنظمتها على قمع الأصوات عبر إجراءات كثيرة، ومن وجهة نظري الخاصة فإن هذا يعود إلى غياب نماذج قانونية، ووعي حقوقي لدى هذه الفئات، مع نقص في التعليم التثقيفي محلياً.

على الرغم من أن فوكو قد تمكن من سبر أغوار استكشاف ديناميات السلطة، ولاسيما السلطة المتمركزة والمنتشرة بما تحمله هذه الأعمال من قيمة في تاريخ الأفكار الغربي غير أنها سرعان ما تنتقد نموذجه بداعي عجر فوكو عن إدراك عمل البنى السلطوية من حيث تكميم أصوات المهمشين نتيجة المنظور القائم على عدم تحديد التمايز، والاعتماد على التجانس، مما يحول دون فهم خصوصية موقفها. في حين أن كلا من جيل دولوز وفيليكس جواتاري، فإن أفكارهما تروج لمفهوم «التحوّل إلى الأقلية» بوصفه شكلاً من أشكال المقاومة ضد البنى السلوطة السائدة. ومع ذلك، تنتقد سبيفاك هذا مشيرةً إلى أن دولوز لا يأخذ في الاعتبار حقيقة أن القدرة على التحدث والمقاومة في كثير من الأحيان قد يكون حكرا على الأشخاص المهمشين حقا، مثل الطبقة الهامشية. ويمكن أن نحيل في السياق عينه إلى مناقشة سبيفاك لأفكار ماركس، وتأثر نقاد ما بعد الكولونيالية بنظرياته، وبشكل خاص أفكاره حول صراع الطبقات، وتأثيرات الرأسمالية، غير أن سبيفاك تلجأ إلى أفكار ماركس لتدعيم توجهاتها أو الحجج التي تقودها تجاه الطبقة المهمشة انطلاقاً من الأسس التي قدمها المفكر الإيطالي غرامشي، ومنها وصف السكان الذين يكونون خارج الهيكل السلطوي المهيمن، سواء أكان الاستعماري أو الاجتماعي أو الاقتصادي الرأسمالي. لقد كان الرجلان أكثر تركيزا على صراعات الطبقات، غير أن سبيفاك توسع الرؤية كي تشمل الفئات المهمشة لا انطلاقاً من الطبقة المتصلة بالبنى الاقتصادية فحسب، وإنما أيضا بداعي عوامل أخرى: العرق، والجنس، والموقع الجغرافي واللغة.

وهكذا نلاحظ أثر المقاربة على تمكين جدل الهيمنة وتطبيقاته على نماذج متعددة معظمها يتصل بالفكر الغربي، فرؤى ماركس بقيت أسيرة قيود النظرية الماركسية، ذلك أن التمحور حول الصراع الطبقي في الماركسية التقليدية غالبا ما يغفل عن نماذج أخرى من القمع، مثل التمييز الجنسي أو العرقي، وغيرهما. وهكذا نخلص إلى أن مقاربة سبيفاك بدت جزءاً من مركزيات تطوير النماذج الخطابية لآفاق النظرية ما بعد الكولونيالية، كونها اعتمدت نقداً تأملياً بالصياغات الغربية، والادعاءات المحمومة لنقض قيم التمثيل المركزي، الذي كان أسير أفقه الخاص، بمعنى أنه اندرج – بلا وعي- في الأنا الغربية، وتمركزها، مع صعوبات تتعلق بتجاوز آفاق نقص الخبرة، والمعرفة؛ ما جعلها أقرب لإعادة إنتاج نسخ مشوهة، بل إنها ربما كرست قيم الإقصاء، والتجاهل للمهمش.

كاتب فلسطيني أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي