سيموني سيبيليو: خريطة إيطالية للشِّعر العربي الحديث والمُعاصر

2023-06-06

باتريتسيا زانيلّي

كان تداوُل الحداثة الواردة من الغرب مركز اهتمام الأدباء في حركة ثقافيّة تجديديّة واسعة، عادة ما يُطلق عليها اسم النّهضة، برزت في العالم العربيّ، انطلاقًا من المنطقة السّوريّة اللّبنانيّة ومن مصر، في منتصف القرن التّاسع عشر، وواصلتْ تطوّرها في القرن العشرين، حتّى الأربعينيات. لكنّها ما زالتْ إلى اليوم مشروعًا يسعى إلى التّحرّر من التّقاليد الظّلاميّة المحلّيّة ومن الاعتماد على القوى الخارجيّة. وبقيتْ نقطة مركزيّة للأصوات التّقدّميّة والتحرّريّة العربيّة في عصر العولمة الرّقميّة.

هذا هو الموضوع الذي يتناوله سيموني سيبيليو في كتابه المعنون "الشِّعر العربيّ الحديث والمعاصر" (إيبوكان، 2022). وهو ثمرة جهود من البحث والدّراسة دامت عشرين سنة، في المادّة التي يتضمّنها العنوان، لتكون الدّراسة الأُولى من نوعها في إيطاليا. إنّها نتاج جديد تحت عدّة أوجه: فهو الكتاب الوحيد من نوعه في إيطاليا، والذي يتناول، بنحو معمّق، موضوعًا شائكًا بحدّ ذاته. إذ يواجه نتاجات شعريّة ذات وفرة، وديناميّات ثقافيّة معاصرة في منطقة ذات تنوّع كبير في العالم، هي مهد الحضارات ونقطة التقائها. وتبرز أهمّيّة هذا التّاريخ المديد من مطلع الكتاب حتّى نهايته، إذ ليس هو بعمل يقوم على جمع المعلومات فقط، بل هو تجديديّ وتحليليّ، ويتفاعل مع الضّرورة الآنيّة للتثاقف.

يقوم سيموني سيبيليو، المترجم والشّاعر، وأستاذ اللّغة والأدب العربيّ في "جامعة كافوسكاري" في فينيسيا، بتقديم معلومة جوهريّة: "الشّعر العربيّ، الذي هو سمة الهويّة التّقليديّة التي يُنظر إليها على أنّها 'أرشيف' تاريخيّ للأمّة (ديوان العرب)، يؤكّد حضوره اليوم ليس فقط كأداة للتعبير الفنّيّ الحامل لقيم جديدة وطُرق تعبير جديدة، بل كممارسة تطبيقيّة وفكريّة ذات أثرٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ كبير".

يسعى الأكاديميّ في هذه الدّراسة إلى تحليل تعقيدات الظّواهر الثّقافيّة الواردة من اللّقاء/ الصِّدام مع الغرب، على الأخصّ مع أوروبّا التي استعمرت العالم العربيّ انطلاقًا من مطلع القرن التّاسع عشر. وقد أدّى هذا إلى تسريع عجلة التّجديد وإنتاج توتّرات ما بين التّقاليد المحلّيّة والحداثة الواردة، إثر حروب الاحتلال الفرنسيّة والبريطانيّة. وقد تحدّدت ملامح النّهضة من صلب هذا التّجاذب مع الغرب. وفي هذا السّياق، يذكر سيبيليو، ظهرتْ نزعتان متناقضان ومتوازيتان: إعادة إحياء التّراث العربيّ، والتّماهي مع النموذج الأوروبي، وفي الحالتيْن نتجتْ نصوص بالعربيّة هي مزيج ثقافي، ولذا فيمكن اعتبارها أصيلة.

ينقسم الكتاب إلى جزأيْن منفصلين. في الجزء الأوّل يركّز سيبيليو على مركزيّة "قضيّة الحداثة" في الشّعر العربيّ في القرن العشرين، مقدّمًا وشارحًا للجدل الذي قام حول هذه القضيّة خلال القرن. ويسعى الباحث، ولم يكن بالأمر الهيّن، إلى التّمييز ما بين "الحديث" و"المُعاصر"، وكذلك ما بين الحداثة وما بعد الحداثة. وظهرتْ ما بين القرن التّاسع عشر والقرن العشرين أولى المظاهر التّطبيقيّة والنّظريّة لضرورة "إحداث ثورة في الرّؤية واللّغة الشّعريّتيْن، دون المساس بالأطر التّقليديّة الرّاسخة".

ويصف سيبيليو، بخطوط عريضة، تطوّر الحركات الكبرى في النّصف الأوّل من القرن العشرين: الكلاسيكيّة الجديدة، الرّومانسيّة والرّمزيّة. شعر الكلاسيكيّة الجديدة، يشرح سيبيليو، يعبّر عن الوطنيّة ويمجّد الانتماء العربيّ ويستعيد تاريخًا مجيدًا "كعامل يصحّح الحاضر، ويناضل ضدّ الاستعمار". ولكن، مع ما لهذه الحركة من مظاهر تجديديّة، وعملها في استثارة الصّور المؤثّرة، مثل استعادة مصر، ووادي النّيل والعظمة الفرعونيّة، أو العراق بدجلته وفراته، وبغداد المشرقة في عصرها الذّهبيّ في الخلافة العبّاسيّة، إلّا أنّ شعر هذه المرحلة بدا غير مؤهّل للتعبير عن الحسّ الثّقافيّ الجديد، في مرحلة تمرّ بتغيّرات عميقة.

وقد كان إسهام أدب المهجر كبيرًا جدًّا، كما يذكر سيبيليو، وهو عهد افتتحه شعراء هاجروا إلى الولايات المتّحدة، مثل اللّبنانيّ أمين الرّيحاني (1876 - 1940)، إذ يُعدّ من الرّواد الذين ألهمتهم الأصوات الإنكليزيّة، وعلى الأخصّ والت ويتمان (1819 - 1892). ومن شعراء المهجر جبران خليل جبران (1883 - 1831)، الذي استلهم أعماله من ويليام بلاك (1757 - 1827)، وفريدريك نيتشه (1844 – 1900)، ومن الصّوفيّة الشّرقيّة. ثمّ ميخائيل نعيمة (1889 - 1988)، الشّاعر القلق الحميميّ. هؤلاء الشّعراء أثّروا في الحركات الرّومانسيّة المصريّة والشّاميّة التي اتّجهت صوب قلب القوانين الجماليّة القائمة على اتّباع الأساليب الكلاسيكيّة.

وكانتْ مصر مهد هذه الحركة، حيث سيلاحظ بوضوح تأثير الرّومانسيّة الإنكليزيّة. وقد نشأت في القاهرة، عاصمة النّهضة، "مدرسة أبولو"، التي أحدثتْ تجديدات مهمّة، واستطاعتْ أنْ تؤثّر حتّى في أبرز شعراء الكلاسيكيّة الجديدة في مصر، من أمثال أحمد شوقي (1869 - 1932)، وحافظ إبراهيم (1871 - 1932). وفي الثلاثينيات، يشير سيبيليو، ازدهرت في لبنان وسورية نزعة جديدة للبحث عن الجماليّات الشّعريّة. ووُلدتْ حركتان من جذور فرنسيّة: الرّمزيّة والسّرياليّة، وكانتا تلتقيان، أحيانًا، مع الصّوفيّة، الأمر الذي سيتطوّر أكثر في وقت لاحق. في تلك المرحلة يبدأ المزج ما بين عناصر رومانسيّة ورمزيّة وسرياليّة في العمل ذاته.

ثمّ يتناول سيبيليو في البحث التّحوّل من الشّعر الحديث إلى الشّعر المُعاصر. والصّوت الرّائد في هذه المرحلة هو صوت الشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة (1923 - 2007)، التي انتهجتْ طريق شعر التّفعيلة في قصيدتها "الكوليرا" (1947)، المستوحاة من انتشار الوباء في مصر ذلك العام. فضلًا عن بعض النّصوص في مجموعتها "شظايا ورماد" (1949). ونظرًا لقناعتها في النّأي عن الأساليب القديمة، من أجل التّعبير عن نبض شعريٍّ جديد، فقد قامت بمساهمات على المستوى النّظري، بصفتها أستاذة جامعيّة، من أجل بثّ هذه الرّوح الجديدة.

وكان قد سلك الطّريق ذاته اثنان من بلدها: بدر شاكر السّيّاب (1926 - 1964)، في قصيدته "هل كان حبًّا؟" وبلند الحيدري (1926 - 1996)، في "خفقة الطّين" الصّادر عام 1946. ويلاحظ سيبيليو أنّ بعض النّقّاد يعتبرون "بلوتولاند وقصائد أُخرى" (1947) للمصري لويس عوض (1915 - 1990)، أوّل تجربة حقيقيّة للشعر الحر، وأوّل من تحرّر من الأساليب التّقليديّة واستخدَم اللّهجة. أمّا الخطوة التّالية في الثّورة النظريّة والتّطبيقيّة التي وعدت بها الحركات الحديثة، فهي تلك التي برزت في الخمسينيات، على الأخصّ في بغداد وبيروت، والتي ستطرح الشّعر النّثري في المشهد الأدبيّ العربيّ.

والحقيقة، فإنّ الانتقال إلى الشّعر المُعاصر قد بدأ منذ حقبة ما بعد الاستعماريّة. وكما يشير سيبيليو، فإنّ الخمسينيات تعتبر اللّحظة التي تفجّرت فيها التجديدات الشعريّة. كان العالم العربيّ، في ذلك العقد، يمرّ بمرحلة من الحيرة وخيبة الأمل، سبّبتها تبعات الحرب العالميّة، والتّغيرات المتلاحقة في الأنظمة الحاكمة، وعدم وجود حلول للفوضى السّياسيّة، في بلدان نالت منذ وقت قريب استقلاليّتها، "وعلى الأخصّ بفعل الصّدمة المدمّرة للنكبة، التي حلّت بالشّعب الفلسطينيّ، بعد تأسيس إسرائيل (1948)"، وما ترتّب عليها من فوضى في النّظام الجيوساسيّ في المنطقة. هذا الحدث الكارثيّ، يلاحظ سيبيليو، كان في الحقيقة "الحافز للتّغيير"، والعامل الأساسيّ الذي نبعت منه رؤية جديدة للكتابة الإبداعيّة التي يجب أنْ تعبّر، خطوةً بخطوة، عن ضرورات المرحلة وتكون وسيلة فاعلة للتّغييرات الاجتماعيّة والسّياسيّة. ويبدأ فيها، بنحو عموميّ، بحث العلاقة ما بين المثقّف والسّلطة، ووضع الأمر موضع النّقاش. وفي ما يخصّ الشّعر، ففضلًا عن الحداثة التي عبّر عنها عزرا باوند (1885 - 1972)، وإليوت (1888 - 1965)، فقد شاع أيضًا الأدب الملتزم والوجوديّة والواقعيّة الاجتماعيّة أو الاشتراكيّة والرّوحانيّة وبعض ملامح الشّعريّة ما بعد الحداثيّة.

وفي الخمسينيات، يذكر سيبيليو، تظهر واحدة من أبرز الشّخصيّات في المشهد الثّقافي العربيّ، والتي ستبلغ شهرة عالميّة: الشّاعر الحداثويّ السّوريّ علي أحمد سعيد إسبر (1930)، المعروف بالاسم المستعار أدونيس. وهو شاعر مهمّ بأعماله الشّعريّة ومساهماته النّظريّة في الحوار حول الحداثة. ويَعتبر أنّها "عمليّة دائمة الحركة، ترفض السّكون والتّقيّد بالنّظام الزّمنيّ". أدونيس، كما الشّاعر الحداثيّ المغربيّ محمد بنيس (1948)، ينظران إلى فكرة الحداثة "في قيمتها الزّمنيّة وينسبونها إلى تجارب مختلفة وممارسات نصّيّة في حقب مختلفة". فالثّقافة العربيّة قد شهدت، منذ فجرها، محاولات جماليّة تجديديّة، يمكن ملاحظتها في شعراء يمكن اعتبارهم حديثين، في العهد الأمويّ، ومجدّدين، في العهد العبّاسي. والعصر العبّاسيّ، بحسب أدونيس، "هو ما يجب استعادته من أجل اكتشاف الذّات".

شاعر حداثيّ آخر ظهر في نهاية الخمسينيات، وبلغ شهرة عالميّة، هو محمود درويش (1941 - 2008). وهو أيقونة فلسطين، وسفير دوليّ للمطالبة بحقوق شعبها. لكنّه أيضًا أديب عظيم، ومستكشف لعالم الإنسانيّة الشّاسع. ويوضح سيبيليو محدوديّة بعض التّسميات وتقادُمها، مع أنّها إلى اليوم مستخدمة في وصف بعض الحركات بعينها أو بعض النزعات، أطلقها بعضهم على أنفسهم أو أُطلقتْ عليهم، بفعل تجاربهم أو مسارهم الأدبيّ. وتعمد هذه التّسميات، أحيانًا، إلى إبعادهم عن المحيط الأدبيّ البحت، مثل تسمية "شعر المقاومة"، الذي يشير إلى شعر القضيّة الفلسطينيّة. أو النّزعة "الرّوحيّة – الكونيّة" التي شاعت في تونس في الثمانينيات. أو مصطلح "الطليعة" المستخدم في سياقات مختلفة من بعض المجاميع التي ترفض القوانين والأساليب التّقليديّة في التّعبير.

من المهم النّظر في السّيرة الذّاتيّة لكلّ شاعر، والعلاقة التي تربطه بأرضه. أمّا الشّعراء ذوو النَّفَس العالمي، كما يؤكّد سيبيليو، فهم السّيّاب وأدونيس وكذلك الشّاعر السّوريّ الشّهير نزار قبّاني (1917 - 1998)، ومحمود درويش، وقد احتفى كلّ منهم ببلده: العراق، سورية وفلسطين. ويسري هذا أيضًا على الشّاعرة الفلسطينيّة فدوى طوقان (1917 - 2003)، وعلى المصريّ أمل دنقل (1940 - 1983)، وعلى اليمني عبد العزيز المقالح (1937 - 2022)، وهذه بعض الأسماء الكثيرة التي يمكن ذكرها.

وفي القسم الثّاني من الكتاب، وقد قُسّم إلى ثمانية فصول – تناولتْ بالشّرح مسألة الموضوع والشّكل، مدعّمة ببعض المقاطع الشّعريّة المترجمة إلى اللّغة الإيطاليّة – يركّز سيبيليو على الأصوات المعاصرة الأكثر تأثيرًا، وعلى شعريّتها. ويمضي الباحث في مسار يتناول فيه الشّعراء العرب في القارّة الآسيويّة وشعراء شمال أفريقيا. يقدّم تسعة عشر واقعًا جيوسياسيًّا مختلفًا، رغم أنّها متّصلة مع بعضها، ومئات الأصوات، لكلٍّ أسلوبه الخاص.

ويُعدّ الفصل الخامس من أهمّ الفصول التي يمكن من خلالها فهم تطوّر النّزعات الشّعريّة في النّصف الثّاني من القرن العشرين، وقد ركّز فيه سيبيليو على حقل اختصاصه، ألا وهو "القضيّة الفلسطينيّة". ويشير الباحث إلى التّجارب في فلسطين إبّان حقبة الانتداب، "عندما كان بعض المثقّفين، الذين أدركوا التّهديدات المتمثّلة بضبابيّة السّياسة البريطانيّة، يستخدمون الشّعر كوسيلة للاحتجاج من أجل توعية الشّعب بالتّحركات الخفيّة آنذاك، وقد تنبّأوا بالمأساة التي كانت على وشك أنْ تضرب الشّعب". الشّاعر الأشهر في هذا المضمار، وأحد روّاد النّهضة في فلسطين، هو إبراهيم طوقان (1905 - 1941)، صاحب الشّعر الوطنيّ، لكنّه شعر خالٍ من النّبرات الاحتفائيّة والصّور البطوليّة التي تميّزتْ بها حركة الكلاسيكيّة الجديدة. وقد لجأ أيضًا إلى استخدام السّخريّة، وهو أسلوب نادر، يبكّت فيه لندن والمسؤولين العرب من القوميّين، المتّهمين بالعجز. شاعر آخر برز في تلك الحقبة هو عبد الكريم الكرمي (1909 - 1980)، المعروف بأبي سلمى، والذي نشر عام 1936 "لهب القصيد"، عن الثّورة الكبرى التي استمرّت حتّى عام 1939.

ثمّ يتناول سيبيليو بالتّحليل شعر النّكبة، أو ما بعد 1948، إذ ركّز على "الحال النّفسيّة والمادّيّة لشعب هُجّر من أرضه، وتجاهله العالم أجمع". إنّه كمّ من الشّعر شاهد على ذلك العهد، رغم اختلافه، ويوضح مصاعب اللّاجئين، ويعبّر عن الألم والحنين والغضب، ولكن أيضًا عن أمل العودة واسترجاع الحقوق. ويقدّم سيبيليو شخصيّتيْن مهمّتيْن ظهرتا في الخمسينيات من القرن الماضي، الشّاعرة فدوى طوقان، تلميذة أخيها إبراهيم طوقان، التي نأتْ عن الحميميّة في أوّل أشعارها، بما فيها من رومانسيّة، في تعبيرها عن الحياة الخانقة التي تعيشها ما بين أربعة جدران، لتصبّ اهتمامها الشّعريّ على الكارثة الجماعيّة. تبنّت استخدام الشّعر الحرّ، واستثمرتْ قوّة الحركة الرّمزيّة والواقعيّة الاجتماعيّة، من أجل تأليف أشعار محمّلة بالمعاني والكثافة العاطفيّة، وهي تركّز في نصوصها على مأساة الشّعب الفلسطيني. وبقيتِ الشّاعرة في مدينتها، نابلس، تحت الاحتلال الإسرائيليّ، واستخدمتْ مفردات سياسيّة في أعمالها، لتصبح الصّوت الأبرز في القضيّة الفلسطينيّة.

وفي العودة إلى الخمسينيّات، يذكر سيبيليو بروز جبرا إبراهيم جبرا (1929 - 1994)، في هذا العقد. وهو أديب ومترجم ورسّام عاش في مهجره في بغداد منذ عام 1948، وقد قام بترجمة جزء من (the Golden Bough) "الغصن الذّهبيّ" لمؤلّفه جيمس فريزر (1854 - 1941)، وقد تأثّر به كثيرًا. يبتكر جبرا مصطلح (التمّوزيّ)، (إشارة إلى الإله الرّافديني تموز) من أجل تعريف التيّار الشّعريّ الذي عادة ما "يلجأ إلى استخدام أساطير الولادة والخصوبة"، وكان هو أبرز شخصيّاتها. في مجموعته الشّعريّة "تموز في المدينة" (1959)، والتي تُعدّ رائدة في الحداثة العربيّة، يحتفي الشّاعر بفلسطين الخضراء، المترسّخة في ذاكرة المهاجرين، ويبحث في حالتهم الوجوديّة، فيما يقدّم في قصائد أُخرى تأمّلاته الشّخصيّة عن وحدة الإنسان في المجتمع المعاصر.

واستنادًا إلى مقال نقديّ للكاتب الشّهير غسان كنفاني (1946 - 1972)، يقوم سيبيليو بتحليل شعر المقاومة الفلسطينيّة. وكما يشرح الباحث فإنّه "نوع من التّعبير على المستوى الوطني، وهو من صلب نضال الشّعب". وعلى المستوى العالمي فإنّ هذا الشّعر يدخل في صنف الشّعر المدنيّ والشّعر الملتزم السّياسيّ في القرن العشرين، ويرتبط بالتّجربة المناهضة للاستعمار والإمبرياليّة من أفريقيا إلى كوبا، ومن فيتنام إلى أميركا الجنوبيّة. ومن أبرز روّاد هذه الطّبقة الأدبيّة: سميح القاسم (1939 - 2014)، وكذلك محمود درويش، لكنّ سيبيليو يؤكّد أنّ أعمال هذا الشّاعر الكبير، ذي الشّهرة العالميّة، "قد جاوزت حدود القضيّة الوطنيّة، لتهتمّ بهموم الإنسان الكونيّ، مثل أيّ تجربة فنّيّة سامية قُدّر لها الخلود".

وعلى أيّ حال، كما يشرح الباحث، فإنّ الشّاعريْن كليهما، كما الشّعراء الآخرين في هذا المضمار، انتهجا أساليب جديدة مع مرور الوقت. وعلى خلاف ما قد يُتوقّع، فإنّ النّضال الذي تبنّاه الفدائيّون لمْ يكن المحور المركزيّ للمشهد الشّعريّ في شعر المقاومة الفلسطينيّة. "إذا ما نظرنا إليها بنحو إجماليّ" يوضح سيبيليو، "فإنّ العلاقة مع الأرض المفقودة/ المحتلّة يُستكشف عبر جملة من الأبعاد الرّمزيّة التي تخبّئ في طيّاتها مسألة الهويّة: فهم ينظرون إلى المحيط الزّاهر، ويحتفون بما تجود به الأرض. يستندون إلى الخزين الأسطوريّ، وأيضًا إلى الخزين الفلكلوريّ الشّعبيّ. يعيدون اكتشاف الرّمزيّة الدّينيّة، في الكتاب المقدّس وفي القرآن، حيث يُتّخذ التّماهي مع استشهاد المسيح كقيمة سامية ومشتركة، وأيضًا كتمهيد للعودة إلى الحياة. يلجأون إلى الأبعاد التّاريخيّة لكي يؤكّدوا على انتمائهم للمكان، ولكي يقاوموا تهديدات محوهم، تلك التي تلوّح بها الصّهيونيّة، والنّظم السّياسيّة الإسرائيليّة".

أمّا النّتاج الشّعريّ في عقد السّبعينيات وعقد الثّمانينيات، فيتمثّل على الأخص بمريد البرغوثي (1944 - 2022)، وزكريّا محمد (1950)، وإبراهيم نصر الله (1954)، وغسان زقطان (1954). وقد شهدوا الانحطاط الأيديولوجيّ الموحِّد، وكذلك نزعة الوحدة العربيّة، ثمّ خابت آمالهم من "اتّفاق السّلام" في أوسلو، الذي ما زالتْ آثاره شاخصة إلى اليوم. عاشوا في الشتات أو في الضّفّة الغربيّة المحتلّة، كما يشرح سيبيليو، يتمتّعون بتنوّع فنّيّ، وقد سعوا إلى انتهاج أساليب جديدة في التّعبير، بحثًا عن الفرادة، وهم يمزجون ما بين الشّكل التّقليديّ والتّجريب، ويمحون الحدود ما بين الشّعر الحرّ والقصيدة النّثريّة، ما بين ثقافة مكتوبة وثقافة مرئيّة، وما بين أصناف مختلفة من النّتاج الأدبيّ. يميلون إلى البعد الشّخصيّ، على حساب "السّرديّة الكبرى".

ويقدّم الباحث واحدًا من شعراء الجيل الجديد الأساسيين، نجوان درويش (1978)، الذي يمزج ما بين التّقاليد والحداثة، وما بين الحنين إلى الماضي والضّرورة الملحّة للحاضر. يلجأ إلى السّخرية أو إلى القدح السّياسيّ، بأسلوب تأمّليّ، أو بأسلوب يكاد في أحيان يكون صحافياً من أجل كشف التّناقضات في الواقع الفلسطينيّ.

وكما أسلفنا، فإنّ كتاب سيموني سيبيليو الجديد هو دراسة معمّقة للنتاج الأدبيّ في الشّعر الحديث والمعاصر، في مختلف أنحاء العالم العربيّ. ويثبت ذلك أنّ الشّعر ما زال الفنّ الأبرز، والعامل الموحّد، تمامًا مثل اللّغة، بالنّسبة لمجتمعات إقليم بالغ التّعقيد، على المستوى التّاريخيّ والثّقافيّ، لذا فهو ثريّ بالحكايات. لا شكّ أنّ الكتاب هو أداة علميّة مهمّة لمن يشتغل بهذه المواضيع، فضلًا عن كونه شيّقًا بالنّسبة للقارئ غير المختصّ، من أجل إشباع فضوله في الاطّلاع على هذهِ المواضيع.

ترجمة عن الإيطالية: كاصد محمد، قراءة المقال باللغة الإيطالية في مجلة Pagine Esteri.

سيموني سيبيليو Simone Sibilio باحث ومترجم وشاعر وأكاديمي إيطالي. يهتمّ خصوصاً بالشعر العربي الحديث والمعاصر وترجمته وبالقضية الفلسطينية. ترجم إلى الإيطالية أعمالاً لشعراء من مختلف أنحاء العالم العربي. وإضافةً إلى كتابه "الشِّعر العربيّ الحديث والمعاصر"، أصدر في النقد مؤلفات، من بينها: "الذاكرة الأدبية للنكبة الفلسطينية" (2012).

باتريتسيا زانيلّي Patrizia Zanelli مترجمة وأكاديمية إيطالية، نقلت من العربية إلى الإيطالية عدّة أعمال، من بينها: "مذكّرات دجاجة" (2021) لإسحق موسى الحسيني، و"وردة" (2005) لصنع الله إبراهيم. شاركت، مع كلّ من باولو برانكا وباربارا دي بولي، في تأليف "ابتسامة الهلال: الفكاهة والتهكّم والهجاء في الثقافة العربية" (2011).







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي