الواقع العبثي في رواية «الطابور» لفلاديمير سوروكين

2023-06-01

جودت هوشيار

الجدل النقدي حول الأسلوب الفني والقيمة الجمالية والفكرية لأعمال فلاديمير سوروكين – الذي يعتبره الكثيرون الكاتب الروسي البارز في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي ـ يخفت حيناً ويشتد حيناً آخر على مدى العقود الثلاثة الماضية، سواء في روسيا أو في العالم الغربي. ويرى معظم نقاد الأدب ومنظريه في روسيا أن أعماله الأدبية المليئة بالعنف المفرط والاستغلال الجنسي، والمفردات السوقية المبتذلة مربكة وصادمة، وتفوح برائحة الفساد والعطن، ولا تطاق بالنسبة للكثيرين، لكن دور النشر والإشهار الروسية الكبرى التي تتحكم في سوق الكتب، خلقت منه كاتبا شهيراً. ويبرر سوروكين المشاهد العنيفة للغاية في أعماله السردية، في مقابلة مع إحدى الصحف الغربية قائلاً: «كان العنف هو الطاقة الوحشية لبلادنا. وقد ساورني هذا الشعور في وقت جد مبكر، يعود إلى أيام الحضانة والسنوات الأولى في المدرسة. وفي وقت لاحق أردت أن أفهم السر في أن الناس يعجزون عن الاستغناء عن العنف. وهو لغز لم أحله حتى اليوم. نعم إن العنف هو موضوعي الرئيسي». هذا الزعم بطبيعة الحال ليس صحيحا على الإِطلاق، فقد قضيت في موسكو سنين عديدة، ولم ألحظ أي مظهر من مظاهر العنف الذي يتحدث عنه سوروكين. فهو يصرح بما يثلج صدور أولئك النقاد الغربيين، الذين يكيلون المديح لأصحاب الاتجاهات العبثية في الأدب الروسي المعاصر، ولكل كاتب روسي ليبرالي يرسم صورة حالكة السواد للواقع في بلده.

قبل حوالي خمس سنوات، كتبت مقالا حول الأدب الروسي المعاصر، ورد فيه بضع فقرات عن سوروكين، قلت فيه إن قلمي لا يطاوعني على ذكر ما يكتب عنه، وما يصوره في أعماله السردية من مشاهد مقززة، لا وجود لها في المجتمع الروسي الحديث. وقد نشر المقال في صحيفة «إنو سمي» الروسية. وأعاد سوروكين نشر الفقرات التي أتحدث فيها عن أعماله على صفحته الشخصية في «لايف جورنال». وكان ذلك أمراً غريبا، وتبين لي لاحقاً، أن سوروكين يفرح عندما يقال عنه إنه كاتب لا يتورع عن انتهاك كل المحرمات، فهو يثير فضيحة أدبية مع كل كتاب جديد له. ويقول في مقابلة صحافية «لا يهمني محتوى ما يكتب عني وعن أعمالي، المهم هو أن يكتبوا عني».

ويقول الكاتب والناقد الروسي المعروف بافل باسينسكي: «إن مسألة سوروكين قضية جنائية أولاً، وثقافية وأدبية ثانيا. إذا كان المؤلف مريضا فليعالج، وإذا كان بصحة جيدة، علينا مقاضاته بثلاث تهم في الأقل: نشر مواد إباحية شاذة ومنحرفة، والتحريض على الكراهية العرقية، وتدنيس شخصيات تاريخية معينة، التي لها أحفاد على قيد الحياة». رسخ فلاديمير سوروكين نفسه كاتبا ما بعد حداثي. وهو بلا شك يتمتع بمهارة أدبية متميزة، لكنه أساء توظيفها في أعمال لا يمكن قراءتها دون نفور وتقزز، باستثناء روايته الأولى التي تحمل عنوان «الطابور» التي صدرت في فرنسا باللغة الروسية عام 1885، عندما كان سوروكين في الثلاثين من العمر، ولم تنشر في روسيا إلا في عام 1992 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي «الطابور» (أنظف) وأمتع روايات سوروكين، والوحيدة التي تستحق القراءة، وهي هجاء واضح للجوانب غير المنطقية والعبثية للحياة اليومية في المجتمع السوفييتي وتختلف جذرياً عن أعماله اللاحقة، مع ذلك فهي لا تخلو من بعض ملامح التجربة الأدبية اللاحقة للكاتب، الذي استمر في تحطيم الأشكال التقليدية للرواية، حيث جرّب بناء الجملة واختراع الكلمات في رواية «شحم الخنزير الأزرق» (1999) التي أصبحت رائجة على نطاق واسع ورغم غرابة وسخافة هذه المشاهد، إلا أنها أدت إلى محاكمة سوروكين بتهمة توزيع مواد إباحية. وتم إسقاط التهمة في نهاية المطاف، لكن الحادث لفت الأنظار إلى سوروكين، وأدى إلى زيادة الإقبال على قراءة الرواية، وتضاعف أرقام مبيعاتها.

تفكيك سوروكين لقواعد اللغة وبناء الجملة في رواياته، يذكرنا بالاستخدام الاستكشافي للغة في كتابات الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، وهذا واضح بشكل خاص في رواية «المعيار» (1994) التي تتألف من ثمانية أجزاء منفصلة هيكليا، يسرد أحدها ببساطة الأسماء التي تسبقها كلمة عادي. بعد ذلك أصدر سوروكين ثماني روايات أخرى أهمها«ثلاثية الجليد» (2002- 2006) و«تيلوريا» (2013) و«ماناراغا» (2017) و«دكتور غارين» (2021) وله عشر مسرحيات أهمها «الذكرى» و«رحلة دوستويفسكي» و«الثقة» وستة سيناريوهات أفلام. ترجمت أعماله الروائية إلى أكثر من عشرين لغة بينها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية.

رواية «الطابور»

كان نظام الطوابير من أبرز معالم الحياة في العهد السوفييتي، فقد كان هناك نقص في كل شيء: الملابس والأحذية، والأثاث، والأجهزة المنزلية، والآلات الموسيقية،، وحتى بعض المنتجات الغذائية أحياناً، حيث لا يمكنك شراء أي سلعة ضرورية أو كمالية دون الوقوف في طابور الانتظار. وكلما كانت السلعة أكثر ندرة، وقفت في الطابور مدة أطول. وقد تنفد السلعة التي تريدها قبل وصولك إلى شباك البيع. ووفقا للإحصاءات، قضى المواطنون السوفييت ثلث اليوم في طوابير لشراء هذه السلعة أو تلك. وفي الوقت نفسه كانت ثمة متاجر مخصصة للطبقة الحاكمة، يمكن الحصول فيها على جميع أنواع السلع الأجنبية الفاخرة، ويمنع المواطن السوفييتي العادي من الدخول إليها، ومتاجر أخرى مخصصة للأجانب يتم فيها دفع أثمان الفواتير بالعملات الصعبة فقط. تدور أحداث الرواية في أواخر «سنوات الركود» (عهد ليونيد بريجنيف). الآلاف من المواطنين يصطفون من أجل سلعة مجهولة، لكن الشائعات تقول إنها ربما سترات جلدية، أو قطع قماش شامواه، أو جاكيتات، أو سراويل جينز أمريكية أو تركية، أو أحذية سبايك سويدية. لا يهم – إذا كان هناك شيء معروض للبيع، فقد حان الوقت للوقوف في الطابور. طابور طويل للغاية ومتعرج لآلاف الأشخاص المنتظرين، وسريعي الانفعال، والفضوليين، وهم رغم ضجرهم ليسوا أقل تصميماً على الانتظار، ولديهم إرادتهم وحياتهم الخاصة. وينقل سوروكين هذه الحياة من خلال حوارات لا تنتهي بين الواقفين في الطابور. نتعرف على شخصياتهم وهم يمزحون، أو يشتمون، أو يغازلون، أو يتنافسون من أجل مكان في الطابور، يتعارفون أو ينفصلون، يأكلون الآيس كريم أو يحتسون الفودكا. يحجزون أماكنهم في الطابور، ويذهبون للنوم بضع ساعات ويعودون صباحاً للوقوف من جديد في الطابور، الذي يمكن أن يكون طويلاً مثل الحياة وباتساع العالم، يمارس قوته المنومة. من خلال الثرثرة نعلم أن العديد من الأشخاص لن يشتروا سلعا ذات طوابير قصيرة لأنهم يعتقدون أن تلك السلع لن تكون جيدة.

ماذا يقول هؤلاء الرجال والنساء الذين يقفون في الطابور؟ ليس من الواضح تماما ما الذي يتوق الجميع إلى شرائه، فمن المؤكد أن لديهم الكثير للحديث عنه: هل اندس أحد في الطابور هناك؟ ماذا تعمل لكسب عيشك؟ هل تحب احتساء فنجان من القهوة معي؟ اسكت! لا تكن وقحاً. الحديث عن المنتجات الأجنبية المتفوقة، وطلب المساعدة في حل لغز الكلمات المتقاطعة. كبار السن يثرثرون حول أيام ستالين القديمة الجيدة، ويحكون النكات، ويجادلون في السياسة، ويدون ملاحظات بارعة وغير بارعة، ويقارنون حياة الشغيلة السوفييتية مع العمال الأمريكيين، والبعض يعرض آراء حول الطعام، ووضع خطط للخروج من الطابور لاحتساء الفودكا، ثم هناك نداء الأسماء الذي يجريه المنظمون ويشغل في الرواية حوالي ثلاث وثلاثين صفحة. بهذه الطريقة، يحس القارئ كأنه واقف في الطابور فعلاً. هذه هي الواقعية الاشتراكية، على طريقة سوروكين..

بطل الرواية، الشاب الوسيم فاديم الذي ينتمي إلى شريحة المثقفين والواقف في الطابور، يتعرف على لينا الطالبة الجامعية. ينتظران في الطابور معا حتى يدركهما التعب. يحصلان على رقمين في الطابور لليوم التالي. يقضيان الليل في حديقة مع أشخاص آخرين، لكن لينا، لا تبقى في الطابور حتى النهاية، بل تغادره قائلة لفاديم:

ـ أعرف مطعما لطيفاً قرب محطة بوشكين. هناك الآن أيضاً معرض فني للرسام الرائع إدوارد مونك.

ـ ماذاعن الطابور؟

ـ بالنسبة لي. سأحصل على أي سلعة أريدها بأي كمية

– لماذا تقفين في الطابور إذن؟

ـ على الكاتب أن يعرف كل شيء دائما

– ماذا؟

– حسنا، عليه أن يعرف الحشد

– آه، لهذا وقفتِ؟

– أجل

ومرة أخرى تبدأ العملية نفسها؛ يشارك الأشخاص تخميناتهم حول ما هو معروض للبيع، ويحاول الآخرون معرفة مدى سرعة تحرك الطابور، وخلال فترات الاستراحة العرضية في الطابور، يذهبون للحصول على الطعام أو الشراب أو الانتظار في طوابير أخرى. أخيرا، بعد يومين من الانتظار، يبدو أن نهاية الطابور باتت في الأفق، لكن فجأة يبدأ هطول مطر غزير. يلجأ فاديم إلى مدخل إحدى العمارات القريبة ويجد مأوى في منزل ليودميلا، التي تعرف عليها عندما كانت تشرف على حركة الطابور. بعد عشاء بسيط ومحادثة فكرية، يمارس الاثنان الحب وينامان. في صباح اليوم التالي تخبره ليودميلا أنها تعمل في أحد المتاجر الكبرى في موسكو، وإن هذا المتجر هو الذي يزود المتاجر الأخرى بالسلع، وبضمنها المتجر الذي كان يقف فيه في الطابور. لكن لا توجد سلع لتوزيعها، وإن وقوفه في الطابور كان بلا جدوى، لأنها تستطيع الحصول بسهولة على أي سلعة يرغب في شرائها.

الشكل الروائي

رواية «الطابور» محاكاة ساخرة لظاهرة سوفييتية نموذجية، و«تجربة طليعية» في أدب ما بعد الحداثة وتتسم بمسحة من الهراء. سوروكين لا يتبع النمط التقليدي في رواية القصص، بدلاً من ذلك، يتم السرد كله على شكل حوارات بين الواقفين في الطابور. وهذا يجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من الحدث. رواية دون استهلال أو راو أو قصة، وخالية من أي وصف، بدلاً من ذلك، النص مليء فقط بالأصوات: لقطات من المحادثات، والشائعات، والنكات، والصراخ المرح، ونداءات الأسماء، وحتى الأنين الجنسي. يكتب سوروكين روايته من منظور شخص يقف في الطابور ويسمع المحادثات، التي يتبادلها الواقفون من حوله، ويصور بنظرة ثاقبة ومثيرة للاهتمام الواقع الروسي العبثي في العهد السوفييتي. عند قراءة «الطابور» كان لديّ انطباع بأن فلاديمير سوروكين انضم ببساطة إلى رفاقه عبر الطابور بميكروفون مخفٍ لتسجيل محادثاتهم وصراخهم ونكاتهم وشكاواهم ولعناتهم وتواطؤهم وتخميناتهم وهمهماتهم وأنينهم. الحوار طبيعي للغاية، بعيدا عن أي تلكلف. هذا مؤلف، حتى في سن مبكرة نسبيا، كانت لديه أذن رائعة للطريقة التي يتحدث بها الناس. كل عناصر هذه الرواية: الجو والمزاج والإعداد وتنمية الشخصيات، تنبثق من الحوار الذي ليس له سمات شخصية، أي أنه لا يوجد مثلا: قال إيفان، قالت ناتاشا، إلا أننا نتعرف على الشخصيات من خلال أصواتهم المميزة وتفاعلهم مع الآخرين في الطابور. وعلى القارئ التعرف على الاختلافات الدقيقة في الصوت من أجل تحديد المتحدث. كما أن الإعداد لا يتم من خلال الوصف، بل عن طريق الإشارة إلى الطقس أو المكان، والكاتب لا يتدخل أبدا في هذه المحادثات. ثمة عدد من الصفحات الفارغة التي تشير إلى استراحة بين فترات الوقوف للنوم أو الأكل، و هذه الصفحات الفارغة تضفي على الرواية بعض سمات ما بعد الحداثة، «الطابور» وثيقة أدبية واقعية إلى أبعد الحدود، كتبت بطريقة جديدة تماما، وتنتهي باللقاء الحميم بين فاديم وليودميلا..

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي