خلوق أورال: ناظم حكمت وزمنُه

2023-05-23

أحمد زكريا

على كثرة الكتب والدراسات التي أُجريت حول حياة ناظم حكمت (1902 - 1963) وشعره، فإنّ هناك ما يشبه الإجماع على أنّ كتاب "رحلة ناظم حكمت" للباحث التركي خلوق أورال له أهمّية خاصّة. صدر العمل في طبعته الأُولى عام 2019 عن دار نشر "إيش بنك"، وصدرت الطبعة الثانية خلال الأيام الماضية، عن دار "إفريست"، بعد إضافة وثائق وصور وفصول جديدة.

وصف الناقد التركي البارز دوغان هيزلان الكتاب بأنّه أركيولوجيا أدبية، لأنّ كلَّ شيء قد بدأ مع ناظم، على حدّ تعبيره. ولا يشبه هذا الكتاب، كثيراً من الكتب التي تصدر عن فنّانين مشاهير، وتُصدَّر بعناوين "كلّ ما تريد معرفته عن فلان"، فهي ليست سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، لكنّ الباحث يتناول العديد من الموضوعات المثيرة للاهتمام، سواء عن حكمت، أو عن السياق الثقافي الذي ظهر فيه، وأثر التحوّلات السياسية والاجتماعية التي عاشها على مسيرته الأدبية. كما يصحّح الباحث خلوق أورال الكثير من المعلومات المتداولة عن شاعر تركيا الأبرز، من خلال وثائق جديدة، ويسلّط الضوء أيضاً على تفاصيل غير معروفة في حياته.

يحكي أورال عن بدايات شغفه بناظم حكمت في الثمانينيات، عندما كانت أشعاره ممنوعة في تركيا. وفي تلك السنوات، التقى أورال بأحد أصدقاء حكمت، وهو يوناني كان يعيش في تركيا، وأهدى للباحث كتاباً موقَّعاً من ناظم حكمت، وقال: "لا أحد يعرف قيمة هذا الكتاب هنا". وبعد عودته إلى تركيا، بدأَت رحلته في جمع كلّ ما يخص حكمت في تركيا حتى تركه لبلاده عام 1951، متّجهاً إلى روسيا.

خَصّص أورال فصلاً كاملاً لشجرة عائلة ناظم حكمت، التي لعب عددٌ كبير من أفرادها أدواراً مهمّة في إدارة الدولة العثمانية، وفي حرب الاستقلال، وإلى جانب أتاتورك بعد ذلك مع بداية الجمهورية. ويذكر أورال أنّ الجدَّ الأكبر لحكمت هو المشير محمد علي باشا، والدُ جدّته لأمّه، وهو ابن عائلة فرنسية هاجرت إلى بروسيا (حيث وُلد) بسبب المضايقات الدينية. وتختلف الروايات حول سبب قدومه إلى الأراضي العثمانية وإسلامه.

ويُبرز الباحث الجانبَ الفنّي لعائلة حكمت، التي عُرف أكثر من شخص فيها بممارسة فنِّ الرسم، مثل والدته جليلة هانم، واهتمامهم بالمسرح والشعر. ويرى أنّ لعائلة حكمت دوراً كبيراً في تشكيله الفنّي. وفي هذا السياق، يتحدّث أورال عن دور محمد ناظم باشا، جدّ حكمت لوالده، والذي سُمِّي على اسمه، في حياته، حيث كان شاعراً مولوياً، وقد استوحى حكمت قصائده الأُولى من القصائد التي استمع إليها من جدّه.

يشير أورال، أيضاً، إلى أنّ كثيراً من القصائد البطولية التي كتبها حكمت في سن الثالثة عشرة، كان بتأثير استشهاد عمّه في معركة جناق قلعة عام 1915، وأنّه عندما ذهب إلى الأناضول للمشاركة في حرب الاستقلال، كان متأثراً بالمشاعر القومية. ويرى الباحث أن التغيُّر الأهم الذي حدث في شعرية حكمت، بدأ بعلاقته مع الشاعر يحيى كمال بياتلي (1884 - 1958)، وأنّ فهمه للشعر قد تغيَّر بسبب هذه العلاقة.

ويرد أورال على الذين يقولون بأنّ حكمت عاش طوال حياته ناقماً على أستاذه الشاعر يحيى كمال، بسبب ما أُشيع عن التقارب العاطفي بين كمال وجليلة هانم والدة حكمت، بصورةٍ لرسالة تُنشر للمرّة الأولى، كتبها حكمت من موسكو إلى زوجته مُنَوَّر، ليُعبَّر فيها عن حزنه وأسفه على وفاة أستاذه الذي يصفه بالشاعر العظيم.  

وعن علاقة ناظم حكمت بمصطفى كمال أتاتورك؛ مؤسّس الجمهورية التركية، يذكر الباحث أن حكمت أراد أن يشارك في النضال الوطني الذي دعمه بقصائده أثناء حرب الاستقلال، وأنّه سافر بالفعل إلى الأناضول مع بعض الشعراء الشباب، ومن خلال أحد أقارب حكمت في الجيش، استطاع أن يلتقي بأتاتورك، وكان حكمت آنذاك قد كتب قصيدة طويلة يدعو فيها الشباب في إسطنبول إلى المشاركة في الكفاح الوطني، وقد نصحه أتاتورك آنذاك بأن يكتب قصائد ذات موضوع محدَّد.

يتناول أورال أيضاً مسألة التغيير الذي أجراه حكمت في الشعر التركي، بكتابته للشعر الحر، وأنّ هذا التغيير لم يُقبل من كبار الشعراء والأدباء آنذاك، وقد استُخدم سياسياً ضدّ حكمت؛ حيث اتُّهم بأنّ قصائده مجرّد دعاية شيوعية. وقد ردَّ حكمت على هذه التهم بمقالين على صفحات مجلة "رَسِمْلِي آي"، بعنوان "نحن نهدُّ الأصنام"، وناقش في المقال الأوّل الشاعر عبد الحق حميد تارهان حول مفهوم الشعر الجديد، وفي المقال الثاني هاجم حكمت الشاعر محمد أمين بسبب تسميته لنفسه بشاعر الوطنية التركية.

وبسبب المقالين تجمَّع حشد كبير من الشباب القوميين حول مقرّ المجلّة، واتهموا حكمت بإساءته لأساتذتهم. وقد ردَّ على هذا الحشد، قائلاً: "إنّ كلّ تغيير اجتماعي يتطلّب تغييرات في بنية الأدب، ولا ينبغي الخلط بين هذا وبين الدعاية الشيوعية". كما يتناول الباحث أيضاً العديد من المعارك الأدبية التي خاضها ناظم حكمت مع أبرز شعراء عصره، وعلى رأسهم الشاعر نجيب فاضل.

من بين الموضوعات المثيرة للاهتمام في كتاب الباحث خلوق أورال، هي عمل حكمت في كتابة سيناريوهات العديد من الأفلام السينمائية لسنوات، ولكن باسم مستعار، بسبب الدعاوى القضائية التي كانت تلاحقه. وفي هذا السياق يتحدث الباحث عن علاقة حكمت بالمخرج الشهير محسن أرطغرل وشركة "إيبك فيلم"، حيث كتب سيناريوهات أفلام كثيرة لهم باسم ممتاز عثمان.

ومن هذه الأفلام: "الحلّاق اللطيف" (1933)، و"لو خانتني زوجتي" (1934)، و"طوسون باشا" (1939). كما أخرج حكمت أيضاً بعض الأفلام، إلى جانب كتابتها، مثل فيلمَي "نحو الشمس" و"ليلة الزفاف" (1937). كما استمرّ، خلال فترة سجنه في بداية الأربعينيات، في كتابة سيناريوهات لأفلام مثل "شوكت الضحية" (1940)، و"الغيرة" (1942).

يوضّح الباحث بعد ذلك أنّ ناظم لم يكن راضياً عن هذه التجربة، وأنّ عدم استخدام اسمه كسيناريست لهذه الأفلام لم يكن بسبب الملاحقات القضائية فقط، حيث أورد أوال رسالة كتبها حكمت إلى صديقه فالا نور الدين بعد مغادرته تركيا عام 1951، يقول فيها إنّهم لم يطلبوا منه كتابة سيناريوهات جادّة وواقعية.

ويلخّص حكمت مشكلة السينما في رسالته على النحو التالي: "إذا لم تكن صناعة الأفلام تتقدّم في بلدنا، فبغضّ النظر عن الأسباب الاجتماعية، فإنّ السبب ليس في النقص التقني، ولا في الممثّلين والمخرجين أو رأس المال. يتعلّق الأمر كلّه بالحفاظ على صورة الأفلام الأميركية والبريطانية والفرنسية كمثال في ذهن الرأسمالي الذي يريد أن يصنع فيلماً".

في العديد من الكتب التي تتناول حياة ناظم حكمت، يُلاحظ أنه يجري التركيز على علاقاته النسائية، إلّا أن أورال ابتعد عن الخوض في تفاصيل هذه العلاقات، ولم يذكرها إلّا في سياقها. وربما فعل ذلك عامداً، وقد علَّق على هذه النقطة في حديثه إلى الصحافة حول الكتاب قائلاً: "بالطبع، الحب موجود في حياة ناظم حكمت وهو مهمّ أيضاً، لكنّني لا أفضّل وصفه من خلال الحبّ. في رأيي، ليس من الصواب محاولة فهم شعر حكمت بالنظر إلى علاقته بالنساء، أو حتى فهم وجهة نظره عن النساء من خلال النظر إلى شعره".

وأخيراً، لعلّ أهم ما يميّز كتاب "رحلة ناظم حكمت" إلى جانب تصحيحه لكثير من المعلومات الخاطئة التي يجري تداولها حول حكمت، هو اعتماد الباحث على أرشيف ثري، يضمّ العديد من الملاحظات والرسومات والرسائل بخطّ يد ناظم حكمت.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي