الحروب الصامتة: استراتيجيات النزاع في المجتمع المدني

2023-05-08

صالح الرزوق

عن المركز الدولي لدراسة النزاعات غير العنفية صدر حديثا كتاب بعنوان «الإضراب عن الطعام في سجون فلسطين: وجهة نظر استراتيجية» لملكة محمد شويخ والدكتورة ريبيكا روث غولد. يبدأ الكتاب من تعريف معنى الإضراب عن الطعام في السجن الاحتياطي. ويرى أنه «أداة من أدوات المقاومة السلمية ما دام لا يلحق أي ضرر بسلامة الغير». وكانت هذه الطرق معروفة منذ القرون الوسطى في أيرلندا. وسبقها أسلوب «الاعتصام بالمكان حتى الموت». وهي طريقة اتبعها الفلاحون الدائنون في الهند البريطانية، فقد كانوا يجلسون على أعتاب بيوت سادتهم دون طعام لإعادة جدولة ديونهم. وقد تناول موضوع تطبيق العنف الذاتي على الحياة، أو الجسد، عدد من الأعمال الأدبية مثل كتابات وليد الشرفا والمرحوم حسين فاعور الساعدي والمتوكل طه، بالإضافة إلى كتابات مريد البرغوثي في مجال «سيرة العائد». ولا يجوز أن ننسى روايات جيني إيربينبيك Jenny Erpenbeck، مثل «اذهب، ذهب، رحل»، وهي أيضا عن سجن احتياطي لحجز المهاجرين قبل البت بطلباتهم، وتركز على تطور لغة الاحتجاج ضد سوء المعاملة، وهنا يتمايز اتجاهان، أحدهما تغريبي ويتبنى فكرة صدام الذات مع الحضارة الوافدة، والثاني توعوي ويضع الأحاسيس والمواقف عند نقطة حاسمة، ويفرض عليها التصالح مع الذات التاريخية. وكما يقول جين شارب «يتم تحويل مركز القوة بواسطة هذه الأساليب من الطرف الذي يمتلك السلطة إلى الطرف المحروم منها».

تتابع المؤلفتان اثني عشر سجنا لإيداع المتهمين بتهم سياسية وجنائية في الجزء الذي تتحكم فيه إسرائيل فقط، وتثبت الإحصائيات دخول حوالي 700 طفل فلسطيني من الضفة إلى السجون الإسرائيلية سنويا بتهمة إلقاء الحجارة، وهي تهمة يصل حكمها في القانون العسكري إلى 20 عاما. لكن القانون الإسرائيلي يحدد عمر الطفولة بـ18 عاما وأقل. ويخفضه للفلسطينيين إلى 16 عاما وأقل. ويتم التحفظ على الصغار في الحجز حتى تبلغ أعمارهم 16 عاما، ثم تطبق عليهم عقوبة البالغين. و»منذ عام 2000 جرى تطبيق هذه الحيلة على 12000 طفل فلسطيني». ويزيد من المشكلة غموض حدود دولة الاحتلال والنظر لمساحة واسعة منها بمعايير مختلفة. مثلا «هل هي مستعمرة أم أنها محتلة». وحسب مؤسسة بتسليم الإسرائيلية لا يوجد تعريف محدد للحجز الاحتياطي. ويضاف لكل ذلك «الحصار العسكري الذي يطبق تأديبيا، ودون أي برنامج زمني لمنطقة كاملة حتى تتحول ظروف الحياة فيها لما يشبه السجن. وتكرر ذلك منذ عام 2007 عدة مرات في حصار 2 مليون نسمة داخل قطاع غزة».

تنقسم إضرابات الطعام لنوعين، الأول جماعي وتتوقف نتائجه على نوع السجن، بالإضافة إلى وضعية السجناء وشدة أو منطقية مطالبهم. وعليه تتراوح النتائج بين النجاح المؤقت، أو النجاح التام وتنتهي بتحقيق جميع المطالب، أو لتدهور أوضاع السجناء كما حصل في إضراب 15 آب/أغسطس عام 2004 في عدة سجون تديرها إسرائيل وباشتراك 4000 سجين طالبوا بمكالمات خليوية والامتناع عن التفتيش الذاتي، وإزالة الحاجز الزجاجي خلال الزيارات العائلية.

النوع الثاني يشمل الإضرابات الفردية، ولاحظت المؤلفتان وجود فراغات في تسجيل الوقائع. وانتهى أحدها وهو إضراب عوني الشيخ الذي استمر 150 يوما إلى التغذية الإجبارية والحبس الانفرادي، وبعد ذلك إطلاق سراح غير مشروط. وكان يطالب بعدم التلاعب بمنهاج التعليم في المدارس الفلسطينية.

وتلاحظ الباحثتان وجود فروقات نوعية بين الاتجاهين. فالإضراب الفردي يكون في زنزانة واحدة ويحتاج لتحضير واستراتيجية متفق عليها بين المشاركين. ومن الطبيعي أن «يسبب الاختلاف في مستوى المعرفة والوعي اختلافات مماثلة في التحضير والتنسيق». ومن الأمور الحاسمة التي لعبت دورا مهما في تعبئة الرأي العام الأمور التالية:

1- وحدة الكلمة ورص الصفوف، وكانت أقوى في المرحلة السابقة على اتفاقات أوسلو. وفي رأيي إن هذه الاتفاقية لم تؤثر عمليا في طبيعة حياة الفلسطينيين في الداخل، وإنما ساعدت على رؤية الخلاف في وجهات النظر بين الحركات الوطنية المسيسة، التي تنظر لمفهوم الدولة نظرة اجتماعية – تضع الإنسان أولا. والحركات الراديكالية الدينية – التي لديها تناقض وجودي مع الدين الأرضي أو الدين السياسي للاحتلال.

2- القيادة أو الناطق الرسمي باسم الإضراب، وأحيانا يفرز السجن قيادته النوعية أوتوماتيكيا كما حصل في جنوب افريقيا.

3- تواصل الإضراب والحفاظ على أعلى درجة من الانضباط والتنسيق.

4- تكتيك التنظيم في الداخل والاتصال بالعالم الخارجي لضمان مردود إيجابي ومؤثر حتى ولو بعد الموت.

وبالنتيجة تتفق المؤلفتان على أن المقاومة يمكن أن تتشكل وتندلع حتى في أسوأ ظروف الاحتجاز، ويزيد من فعاليتها تضامن العالم الخارجي.

ويضم الكتاب عدة ملحقات ومخططات وعددا من الإحصائيات مع مقابلات ميدانية أجرتها المؤلفتان مع سجناء وناشطين رهن الاعتقال، أو تم الإفراج عنهم في الأراضي المحتلة. تبقى بالنتيجة عدة ملاحظات لا بد منها.

أولا. اعتمد الكتاب على متابعة ظاهرة الإضراب عن الطعام دون الاهتمام بأسبابه.

ثانيا. نفهم من مجمل العرض أن التوقيف عقوبة لها دوافع سياسية.

ثالثا. عدم التنويه بدور الحكومة في حدة الإضراب ونتائجه. ومن المتوقع أن يزداد التعنت في إدارة الأزمة في حال وجود اليمين في الحكم. والسؤال الذي لا يزال يدور في ذهني: لماذا فشلت بعض الإضرابات، بينما تكلل غيرها بالنجاح؟ ولماذا كان عدد السجناء السياسيين في شهر حزيران/يونيو عام 2021 أعلى مقارنة مع عدد الموقوفين بالحجز الاحتياطي للفترة نفسها، بينما انخفض عدد السجناء لأدنى مستوى في أيار/مايو 2021، دون أن يرافقه انخفاض مماثل في عدد الموقوفين. في هذا السياق يبدو لي أن تطبيق الإحصائيات الاجتماعية عامل مهم ومضيء (وكنت أتمنى إضافة معامل الارتباط الخطي ومعامل الانحدار للإحصائيات والأرقام المدرجة).

رابعا وأخيرا. لا توجد إشارة ولو بسيطة للتمييز بين الإضراب بهدف المقاومة والإضراب الناجم عن أزمة نفسية أو شخصية حادة. وانتحار الفلسطيني رائد عبد السلام الجعبري في حمامات سجن إيشل لا يتشابه بالدوافع والأهداف مع انتحار الفنانة سعاد حسني في لندن، أو حتى انتحار الكاتب المعروف إرنست همنغواي. فالموت في سبيل قضية وطنية يختلف عن الموت بسبب الفشل العاطفي أو اليأس الوجودي. والمصيبة أننا لم نسمع بقضية الجعبري، وتمكن السياسيون من وأدها بسرعة، بينما انفجرت مشكلة سعاد حسني، وأصبح لها خلفيات سياسية وأمنية.

ويمكن أن تقول الشيء نفسه عن انتحار مارلين مونرو وإيداع فرانسيس فارمر في مصحة نفسية، لولا الإعلام الأمريكي وعلاقتهما بالبيت الأبيض لما سمع أحد بهما، حتى إن مأساة فارمر تتقاطع من عدة وجوه مع حكاية «الحسناء والوحش». وأعتقد أن رواية «أخطية» بهجائها الساخر لسلطات الاحتلال استلهمت عمود هذه الحكاية الشعبية، ولعبت بجمال المؤنث، وسطوة المذكر، لتعبر عن مجتمع غير متوازن، تتخلله الحواجز والجدران، وهذا سبب إضافي يحدونا لدراسة حالات الإضراب في كل سجن على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار دور الحكومات والمكان والزمان.

صدر في واشنطن في مطلع عام 2023 عن منشورات المركز الدولي للنزاعات غير العنفية. 110صفحات.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي