وصفة الحرية في سينما سابقة التجهيز لشعوب لا تعترف بالحب!

2022-03-10

من فيلم «الرحلة الكبرى» (تواصل اجتماعي)كمال القاضي *

قبل نحو خمسة عشر عاماً تقريباً، بدأت محاولات الاختراق الثقافي من جانب سينما الاتحاد الأوروبي، بضخ ملايين الدولارات لإنتاج أفلام نوعية تتحدث عن الحريات العامة والشخصية، ومحلها من الإعراب في دول العالم الثالث، وفي محاولة لتدشين الأفكار وترويج الأفلام، عملت المؤسسات الإنتاجية الدعائية على تنظيم ما عُرف في حينه بأسابيع كرافان السينما، ورحب المثقفون من المصريين والعرب بالفتح السينمائي الجديد، الذي يُبشر بسينما مختلفة تهتم بالإنسان وقضاياه الشخصية.
وبناءً عليه لم تتردد النخبة المُثقفة في التجاوب مع الوافد الإبداعي الأوروبي بمقاييسه ومواصفاته التحررية الآتية لتطوير العقلية الرجعية وتخليصها من الجمود الفكري، وآفات التعصب القبلي والإقليمي للعادات والتقاليد القديمة المُتغلغلة في البنية الثقافية والاجتماعية لدول العالم الثالث، ولأن هناك موقفا رافضا للسينما الأمريكية المُباشرة في عدائها للعرب والمُسلمين والثقافة الشرقية على إطلاقها، فقد تم الترحيب بالسينما الأوروبية بوصفها المنافس للسينما الأمريكية، ووفق القاعدة السياسية المعروفة، «عدو عدوي صديقي» جرى التعامل بأمان كامل مع المحتوى الثقافي الأوروبي المُتضمن بالأفلام.
وفُتحت كل الأبواب على مصارعها أمام الإبداع النوعي السينمائي المُغاير والمُختلف، وأقيمت الكرافانات وفُتحت القاعات وتولى كبار السينمائيين المصريين من أهل الثقة والحظوة الإشراف على عمليات تحضير الأفلام وعرضها، وفق البرنامج الجاهز، وتركزت جُرعات الدعاية المُكثفة للمشروع التثقيفي التنويري، وأنفق عليها الكثير من الميزانية المُخصصة، حتى صار كرافان السينما المصرية أشهر من المشروعات القومية في غضون أسابيع قليلة، وهرول القاصي والداني لمشاهدة المُختار من الأفلام وفق ذائقة كبار النقاد، حسب ما تضمنته جداول العروض في القاعات الفخمة.
وحان وقت المُشاهدة فرأى الجمهور من آيات التجديد والتطوير في المفهوم السينمائي ما يلفت النظر، ويُثير الشكوك، حيث ما تصور أنه لغة سينمائية مُناهضة لسياسة هوليوود هو محض تكرار وتنويع مراوغ على فكرة العبث بالهوية العربية، والأفكار والثوابت، فرسائل الأفلام لم تخرج عن سياق التسفيه للقيمة الاجتماعية والإنسانية والدينية بدعوى التحرر والتخلص من العُقد والمُعتقدات البالية! لقد اشتملت الأفلام على مستويات تقنية بديعة ومُبهره، فاستولت على العقول والمشاعر، وأضعفت تحت تأثير جمال المُفردات السينمائية الحس النقدي الفطري لدى المُتلقي، فجعلته مسحوراً بما يراه من براعة التصوير والديكور والإضاءة والموسيقى والأداء التمثيلي، وكان ذلك هو المطلوب فجرأة التناول الدرامي وإحكام السياق الفني بشكل احترافي، لعب دوراً في الإغراء بالأفكار والمضامين البراقة التي تدغدغ مشاعر النازعين إلى الحرية الأوروبية بمواصفاتها المُجتمعية بغير تفرقة دقيقة، ما بين الحرية كمُكتسب إنساني مهم له شروط والفوضى والتحلل.

«قالت ليلي» واحد من الأفلام الفرنسية التي عُرضت ضمن ما عُرض في الكرافان – إنتاج عام 2004 للمخرج والمؤلف زياد دويري، بطولة فاينا جيوكانتي ومو خواص وكريم بن حدو، تدور أحداثه في قالب درامي رومانسي حول مغامرات فتاة جميلة سيئة السمعة، تُقيم علاقة مع مراهق في التاسعة عشرة من عمره فتسيطر عليه تماماً وتشغله عن موهبته في الكتابة، غير أنها تحاول التأثير فيه بأفكارها التحررية، فتُغرقه في عالمها الحسي ليُصبح مُغترباً في عالمه الطبيعي بين أهله وأصدقائه.
جاء فيلم «الرحلة الكبرى» للمخرج المغربي إسماعيل فروخي، بطولة محمد مجد والممثل الفرنسي الجزائري نيكولا كازالي، طارحاً فكرة بالغة الحساسية والدقة وهي، الفجوة التي تفصل بين الأب المُسلم وابنه الذي يعيش في بلاد المهجر، غير مُلم بقواعد دينه الإسلامي، الأمر الذي يؤرق الأب ويجعله يُصمم على اصطحاب ابنه إلى رحلة الحج عن طريق البر عبر أوروبا والبلقان وسوريا والأردن، وصولاً إلى المملكة العربية السعودية. وفي أثناء الرحلة نتعرف على محنة الابن وعدم اعترافه بما يُصر عليه الأب، الذي يقوده على غير إرادته ليصوب أفكاره ويربطه بالفريضة الدينية، التي يراها قواماً أساسياً لشخصيته، بينما لا يجد فيها الشاب الصغير سوى الشقاء والمُكابدة، على حد اعتقاده، لاسيما أنها رحلة طويلة، وكان بإمكان الأب المُسلم أن يوفر الجهد والوقت، ويذهب لأداء الفريضة باستخدام الطائرة كوسيلة أسرع وأكثر راحة من وجهة نظر ابنه، الذي يتجاهل المغزى المقصود من وراء المشقة، وهو تعظيم الأجر والثواب ضاربا عرض الحائط بالتعاليم الدينية التي يُمليها عليه أبيه .

ينتهي الفيلم بنهاية الرحلة وموت الأب وحيرة الابن، ودهشته من إصرار أبيه على خوض التجربة القاسية، في معنى دلالي بالغ الخطورة وهو عدم استيعاب الجيل الجديد من الشباب المُغترب، لماهية الدين وتعاليمه وفرائضه، والعبرة من أداء الفريضة على النحو الشاق من الجهد وبذل الأموال في سبيل الله، لقاء الفوز بالمغفرة وحُسن الخاتمة، وهو ما فعله الأب التقي، ولم يُدركه الابن المتمرد المُتشبع بالثقافة الأخرى.
وعلى مستوى آخر من الأفلام الوثائقية المهمة شهدت بداية الألفية الأولى في مصر عرض فيلم «مسيرة طيور البطريق السنوية» للمخرج الفرنسي لوك جاكيت وهذا الفيلم، رغم أنه وثائقي، إلا أنه عُرض خلال عام واحد في 1800 دار عرض سينمائية وهو شيء غير مُعتاد بالنسبة لهذه النوعية من الأفلام، لذا كان الاهتمام به كبيراً ولافتاً، خاصة أن الممثل الأمريكي الكبير مورغان فريمان قام فيه بالأداء الصوتي.

والفيلم وفق مُعطياته الإنسانية يتتبع مسيرة طيور البطريق السنوية إلى مكان التزاوج، حيث تقطع الطيور مسافات شاسعة بغية الوصول إلى الأماكن التي ولدت فيها، وهنا يكمن الهدف من الفيلم الذي يقدمه مخرجه بكثير من التعاطف مع الطيور الحائرة الباحثة عن موطنها الأصلي وسط الثلوج والأجواء الباردة، ولا تخلو الرحلة من معاناة ومجابهة مع الطبيعة، بيد أن الطيور المُسالمة تمارس المرح والحب، وتُصر على الحياة، رغم صعوبتها وتتحلى بالصبر في مواجهة الكائنات البحرية المُفترسة التي تُريد التهامها بلا ذنب، لمجرد أنها كائنات مُسالمة وتسعى للوصول إلى وطنها الأم ليس إلا.. هذه محنة طيور البطريق التي اعتنى بها الفيلم الوثائقي قبل عدة سنوات، ونالت من الاهتمام الدولي ما لم يتوافر لمحنة البشر وآلامهم في أوطانهم المُحاصرة فعلياً وأسرهم القابضة على جمر المقاومة.

*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي