السينما العربية: صورة زائفة للحقيقة

2022-01-03

 عزيز الحدادي

«الفن هو وضع الحقيقة في العمل الفني» هايدغر


ثمة حقيقة واحدة تتحكم في مصير البشرية، تقول إن أنطولوجيا الحاضر تفقد بريقها إذا لم يكن هناك مستقبل أفضل ينتظرها، هكذا يكون الفن منخرطا في بناء هذا المستقبل، وبما أن الفن مثل الإنسان موجود زماني يقذف نفسه نحو إمكانيته، ويعدو داخل دائرة العالم، ولعل هذا هو قدره، أما الإنسان فيجد نفسه في الفن، ومن خلاله يكتشف وجوده، إذ من المستحيل أن يفهم ذاته إلا بدهشة السؤال عن أصل الفن، والسؤال عن الوجود في أفق الزمان.
الفن اكتسى ثوبا وجوديا جديدا، ومن المهم معرفة الهدف الأساسي من الفن، ذلك أن الفن هو الأفق الذي نطل منه على العالم، بيد أنه في أمس الحاجة إلى استقطاب الفلاسفة، وبعبارة جميلة لهايدغر: «هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه، إن لم نسأل أولا عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده؟ السائل ينفرد عن غيره من الكائنات، بأنه الموجود الذي يهتم لوجوده.. الهدف هو معرفة ماهية السائل» أي الفيلسوف الذي يفتح حوارا أبديا مع كينونته، يسعى إلى الانزياح عن الاغتراب في هذا العالم، لأن العالم يغرينا بما نعرفه ونكرره في حياتنا اليومية، لكن كيف يكون ذلك ممكنا؟ هل من خلال تحطيم تاريخ الذات التي يحتضنها التراث؟ أم انطلاقا من هدم التراث نفسه؟
تمزيق الحجاب الذي يضفي زيف التراث والعودة إلى المنابع الأصلية للحقيقة التي شوهها الفقهاء والمتكلمون، ولذلك أهملت السؤال الرئيسي عن الوجود، وأيضا السؤال عن ماهية السائل، ودون هذا التحطيم يصعب انتزاع المعنى من هذا اللامعنى، لأنه يقف على حافة المجهول، ولذلك يصعب بناء العقل، وتشييد الفن، ما يسمح للعدمية بالازدهار، على الرغم من أن الفن عامة، والسينما خاصة، يظلان معرضين للخطر من قبل العدمية، فإنه قد فرض نفسه كأفق يتحرك فيه الإنسان بحرية، الموسيقى والرقص مثلا، باعتبارهما يجسدان الأبدية في الزمنية، ولذلك يعترف دولوز بأن السينما ليست سوى صورة للزمان يخترقها الماضي والحاضر والمستقبل، حيث يقول: «السينما هي الصورة الثانية وغير المباشرة للزمان، هذا الزمان الذي يتشكل من الإثارة والحركة» لأن الصورة حركة وإنارة، فهذه الإشكالية احتفظت بعمقها منذ أفلاطون إلى بيرغسون.

نريد السينما التي تفكر، وليس السينما التي تجتر التراث، هذه السينما التي تحتفل بالفرح المأساوي، الذي يستثمر المتعة الاستيطيقية من أجل بناء الذات الفاعلة استطيقيا.

هكذا قامت السينما بجعل الإنارة في خدمة الحركة، لأن الحركة هي التي تنقل الإنارة من مكان إلى آخر، بيد أن دولوز يتساءل قائلا: هل الحركة هي التي تتحكم في الإنارة؟ أم أن الإنارة هي التي توجه الحركة؟ بل هل السينما باعتبارها صورة ألا تكون مجرد زمان؟ وما علاقة هذا الزمان بالوجود؟ مهما يكن هذا الغموض الملتبس يرمق كالغمامة السوداء التي تحجب الرؤية عن الرؤيا، فإن تحديد السينما بأنها زمان يتوجه من الماضي إلى المستقبل، وبما أن الزمان هو لب الوجود، فإن هذا التحديد سيمنحنا الحجة على انطولوجيا السينما، وليس في الأرض شيء أدعى إلى السرور أكثر من أنطولوجيا الحاضر، لأنها السؤال الجوهري عن وجود الإنسان في الوجود، ولذلك ينبغي أن لا نتركه يمشي على أرجل مريضة، كأرجل هذا العصر المريض فنيا وفلسفيا وسياسيا. ولعل نيتشه كان رائعا عندما قال: «وإذا نحن لم نعش مع الفيلسوف كانت الحياة باطلة لا خير فيها، لماذا لا يجيء إلينا بعد أن أعلن قدومه طويلا؟ أذهب فريسة عزلته؟ أم علينا أن نسعى إليه؟».
نريد السينما التي تفكر، وليس السينما التي تجتر التراث، هذه السينما التي تحتفل بالفرح المأساوي، الذي يستثمر المتعة الاستيطيقية من أجل بناء الذات الفاعلة استطيقيا، لأنه ماذا كانت السينما ستكون دون استطيقا، بل ماذا كان ينتظرها لولا السعي إلى الحقيقة كهدف؟ ولماذا لا تستطيع الهروب من الجميل والحب كالفلسفة؟
مديد هو زمن الأسئلة فمن سؤال إلى سؤال يتحدد مصير الكتابة، إذ لولا السؤال لظلت الفلسفة خرساء، والسينما عمياء. فما يجعل الفيلسوف الفنان يبرز على خشبة الكتابة الأنطولوجية، هو أصل الوجود وأصل الفن، بيد أن الاهتمام بأصل العمل الفني يدخل ضمن اهتمامات الفيلسوف، الذي وهب حياته للبحث عن الحقيقة، والحقيقة لا تنكشف إلا من خلال الجميل والحب، إنهما الشيء نفسه، فليس ثمة شيء أكثر إغراء منهما لروح الفيلسوف، هكذا تجد ذاتها تنمو من خلالهما في مجال الفلسفة والفن، لكن هيغل سيصدمنا بقوله هذا: «لن يوجد في ما بعد لا فلسفة ولا علم ولا تاريخ، ففن الشعر وحده سيعيش أطول» ومن سوء حظ السينما أنها جاءت بعد موت هيغل.

 

*كاتب مغربي

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي