فيلم "الأب" للفرنسي فلوريان زيلير .. سوء الفهم كحالة إنسانية

2021-10-06

سليم البيك*

يتوقع أحدنا أثناء المشاهدة، أن يكون متفرجاً من بعيد، مراقباً لما يحصل، ويكون ذلك لأن ما يشاهده هو أحداث أو حكايات تمر على الشاشة أمامه. في هذا الفيلم، «الأب» للفرنسي فلوريان زيلير، قد لا تكون الحالة كذلك، لسبب أولي هو إدراكنا لذهنية الشخصية الرئيسية أنتوني هوبكنز، فنرى بعينيه، وندرك بعقله. ليس الكلام هذا مجازياً، إذ تتداخل الشخوص، صور الشخصيات ببعضها، تعريفات الناس من حوله وملامحهم، تتداخل على الشاشة كما هي في ذهن الأب العجوز، الذي يعاني من ارتباكات ذهنية بسبب تقدمه في العمر.

أداء هوبكنز

للفيلم نقطتان مركزيتان في امتيازه: أداء هوبكنز الذي استحق عنه جوائز منها أوسكار وبافتا، أفضل ممثل، والسيناريو الذي نال الفيلم عنه كذلك أوسكار وبافتا. أما أداء هوبكنز فهو – لنقُل- مُسلم به، مُتوقع. وأما السيناريو فهو وبطريقة تصويره، الأجدر بالكلام، هو ما أدخلنا إلى عوالم الأب الداخلية، إلى ذهنه، وقد تفرجنا مثله على ما يحصل أمام عينيه، نرى ما يراه ولا تراه شخصيات أخرى «سوية» نسمع ما يسمعه، نبرر له غضبه ونزقه لتطابق إدراكنا كمشاهدين مع إدراكه.

تؤدي دور ابنته أكثر من ممثلة، غير متشابهات بالشكل حتى، مرة تقول إنها ستسافر إلى باريس للعمل، ومرة تقول إنها هنا، مرة ستتزوج ومرة متزوجة، والزوج يكون أكثر من ممثل، تتداخل المعرفة والحوادث، لا نعود ندرك، كما هو الأب، إن كان ما نشاهده قد حصل فعلاً؟ أم لا، نتماهى بذلك، أردناه أم لم نرده، مع الأب الذي تقمصنا حالته لنعيش التجربة ذاتها أمام الشاشة وعلى مقاعدنا، يتداخل بذلك سوء فهم مع آخر مع غيرهما، فيزداد الذهن تشوشاً.

إقحام المشاهد

تلك القدرة على إقحام المُشاهد في الحكاية، بل في أذهان شخصيتها الرئيسية، تعود إلى أصل النص، إلى أصل العمل هنا، وهو نص مسرحي بالعنوان ذاته، ولفلوريان زيلير الكاتب والمخرج المسرحي، والمخرج السينمائي هنا، في العمل الأول له وقد اقتبس مسرحيته، نقلَها من المسرح إلى السينما.

يكتب إدوارد بوند المسرحي البريطاني، في كتابه «الحبكة الإنسانية: ملاحظات حول المسرح والدولة» الأهلية للنشر 2020: يفضي الموقف الدراماتيكي إلى تأثيرٍ يولد استجابةً من الجمهور، وإذا ما وُجد التأثير بنفسه فإنه يفرض معناه على الموقف. ومن شأن هذا أن يحرف معنى الموقف، وتكون الاستجابة له عبارة عن سوء فهم».

في الفيلم الذي يروي، ضمن أمكنة محدودة هي غرف المنزل، يوميات الأب مع ابنته، ومحاولاتها للتجاوب مع حالته الذهنية المتدهورة، تكون المواقف الدراماتيكية في حالاتها الإنسانية الهشة، كما تصدر عن الأب غير المدرك لصناعته دراماتيكية المشهد مع ابنته، أو مع من تحضرهن هي للاعتناء به أثناء غيابها. تداخلٌ بين الرقص والعدوانية في سلوك الأب، واحدٌ من هذه المشاهد، ودائماً إرباكه لأفكار وأحاسيس المتقدمات للاعتناء به، ودائماً لابنته التي تبدو مدركةً لحال أبيها، وعاجزة عن التصرف حياله في الوقت ذاته.

أما استجابة الجمهور (حسب بوند) فهي هنا عاطفية تماماً، والسبب تماهي الجمهور مع ذهنيات الأب، من خلال إدراك مساوٍ لإدراكه، كأن نرى ونسمع ما يراه ويسمعه وهو ليس «حقيقياً» ولا»خيالاً» لا حسن فهم ولا سوئه، هو خلط بين هذه وتلك. حتى الابنة، حين تُشاهَد/تُرى، لا نعرف، كما هو حال الأب، إن كانت حقيقيةً أم خيالاً في ذهن أبيها.

هذا الموقف الدراماتيكي إذن، والتأثير الذي يولده في الجمهور المتماهي مع الشخصية، يفرض معنى – لأسمه هنا «إدراكاً»- على الجمهور تجاه الموقف، هو ذاته إدراك الأب، وهو مزيف، دون أن يعي الأب (والجمهور من خلاله) زيفه فهو، لحالته الذهنية المتخلخلة، صادق في ما يقوله ويفعله، لا يدعي ولا يكذب، إنما إدراكه هو المختلف. ويتحرف معنى الموقف (حسب بوند) بسبب ذلك الزيف الصادق، وتكون الاستجابة (حسب بوند دائماً) عبارة عن سوء فهم.

هذا ما وددت الوصول إليه في الحديث عن الفيلم: سوء الفهم. وسوء الفهم عند أناس يكون حسن فهم عند آخرين، يكون تاماً وصحيحاً.

فليس تداخل الصور والأحاديث عن الأب، سوء فهم، إنما هو كذلك لدى ابنته، ولأن المريض منهما هو الأب، يميل المُشاهد إلى تصديقها هي، إنما، المُشاهد ذاته، يرى ويسمع بمدارك الأب ذاته، لأن الصور التي نشاهدها على الشاشة، هي الخارجة من ذهنه، هي ما يشاهده هو، وإن كان زيفاً، أو سوء فهم. فنميل وفي الوقت ذاته، إلى تصديقه هو. ذلك ما يعطي لحسن الفهم وسوئه إحالات إنسانية.

ندرك، كمشاهدين، أن الأب على خطأ، ونستمر في التماهي مع إدراكه لما يحصل، هذا خيار إنساني لمخرج الفيلم وكاتب نصه، لكنه كذلك خيار واعٍ للمُشاهد العارف، من موقعه، بكل ذلك.

 

  • كاتب فلسطيني

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي