«كفر قاسم» لبرهان علوية: سياقٌ روائي لأفلام الثورة التسجيلية

2021-09-16

سليم البيك

في السبعينيات، في زمنهم الثوري، كان الفلسطينيون يتكشفون على تجاربهم السينمائية، وكانت لتجريبيتها وثوريتها وتعلقها العضوي بالعمل الكفاحي في زمن صعود الثورة، كانت وثائقية تسجيلية بالدرجة الأولى، وكان الحس الروائي إن وجد، متضمناً في السياق التسجيلي التوثيقي، الكفاحي، الدعائي في شكل منه. وقد كان متأثراً، لأسباب تفوق الفنية، ببواكير السينما السوفييتية، بأسلوب المونتاج المبتكَر في حينه، وبالريادي والمنظر في ذلك سيرغي أيزنشتاين، الذي كان للسياق الروائي في أفلامه الأولى، شكلٌ ومضمونٌ تسجيلي.
أفلام الثورة الفلسطينية لمصطفى أبو علي ورفاقه، فلسطينيين وعرباً وأجانب، كانت أفلام منظمات ثورية، وكان صناعُها فدائيين. ولم يكن للدخول في المجال الروائي، سينمائياً، مساحة آمنة في ضجيج المعارك على الأرض وفي الشاشات.
لكل نوع من الأفلام زمنه الخاص، والمد الثوري يستدعي أفلاماً من وحيه، تكون، لذلك، وثائقية في الدرجة الأولى، تسجل اللحظة، ولا يكون للروائي مساحةً هادئة آنذاك، لأسباب منها ظروف الصناعة المتشابكة في العمل الروائي ومنها، وهو الأهم، دور وضرورة الأفلام اللازم صناعتها في خضم المعارك، أو في زمن الثورة.
دخل الروائي إلى السينما الفلسطينية بحذر، بتناولات جعلت لمساحته مكانة آمنة ضمن الأفلام المصورة والمصورة للشعب، المبنية على مقابلات، في معظمها، يحكي فيها أفراد (هم تمثيل للجماعات) من هذا الشعب عن الكفاح المسلح، عن العنف الثوري ذي «القوة التطهيرية» كما سماها فرانز فانون في «معذبو الأرض» تلك القوة التي «تحرر الشعب من عقدة الدونية، ومن يأسه وخموله، ومن الخوف، وتعيد له احترامه لذاته». مَهمة أفلام الثورة الفلسطينية كانت كذلك، يُضاف إليها تلك التي تصور آثار الوحشية الإسرائيلية المثيرة للحنق، في مونتاجات تجعل من تلك الصور والشهادات محرضاً على الفعل/العنف الثوري.
بموازاة ذلك، دخلت السينما الروائية بخجل، إنما، متخذة لنفسها تناولات من وحي القضية الفلسطينية وإن لم يكن من وحي ثورتها، إذ كانت الأفلام نقلاً حكائياً لما سبق زمن الثورة، كأنها حاجةٌ سياقية لفهم الفعل الثوري الفلسطيني لحظتَها، وإن كان أبناء المخيمات يعيشون السياق ذاته، وامتداده، ولا تزال ذاكرتهم حيال ما مروا به في عامَي 48 و67 حية. كان السياق الحكائي المتتالي المتراتب على بعضه، لزمن الفلسطينيين آنذاك، بحاجة إلى استعادة روائية لما سبق زمن الثورة وأفلامها.

للوقائع أفلامٌ لا بد أن تسجلها، كما هي، في ذلك الزمن تحديداً، وللواقع حكايات سابقة له، لا بد من روايتها ليكون المسجل/الموثق في سياقه. فلا يكون الدخول إلى المجال الروائي خروجاً، آنذاك، من الزمن الراهن، بل شرحاً ضرورياً له.

الدخول فلسطينياً في المجال الروائي، سينمائياً، نجده في أفلام محدودة، أهمها في السبعينيات كان «المخدوعون» للمصري توفيق صالح، و«كفر قاسم» للراحل عنا قبل أيام اللبناني برهان علوية (الصناعة في الفيلمين كانت عربية من حيث الإنتاج وما قبله وما بعده). يليهما «عائد إلى حيفا» للعراقي قاسم حول عام 1981، وفيلم ميشيل خليفي الذي دخلت معه السينما الفلسطينية عام 1987 مرحلةً جديدة، هو «عرس الجليل». وتتالت من بعده الأفلام الروائية التي ينجزها فلسطينيون من خارج تجربة الثورة الفلسطينية، التي أفَلت خلال الثمانينيات، وقد كانت الصناعة السينمائية الفلسطينية في حينها (كما الصحافية والأدبية والقتالية) تقوم على عرب كما على فلسطينيين بالقدر ذاته. تتالت الأفلام، إذن، مع صناع فلسطينيين هم إضافة إلى خليفي (زمانياً) رشيد مشهراوي وإيليا سليمان، في التسعينيات.


يُحسَب للراحل برهان علوية المساهمة في فتح قناة باكرة للمجال الروائي في السينما الفلسطينية، وكان ذلك بقصة المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قرية كفر قاسم في فلسطين عام 1956. للفيلم أهمية تتخطى ذاته كعمل فني بميزاته كتابةً وتصويراً وأداءً، تكمن في – إضافة إلى «القناة الباكرة» – المساهمة في وضع أفلام الثورة الفلسطينية في سياقها لدى متلقي هذه الأفلام (الذاكرة وحدها لن تكفي) كأن الأفلام التسجيلية السبعينية التي حمل صناعُها كاميراتهم كما يحمل الفدائيون بنادقهم، كان لا بد أن تترافق بأفلام تروي ما سبق، لا أقول تبررها بل تضعها في سياقها التاريخي، مانحةً للمُشاهد فرصةً لإدراك متشعب، مكانياً وزمانياً، لا لأفلام الثورة وحسب، بل لحكاية الشعب الذي تصوره هذه الأفلام، ولثورة هذا الشعب التي توثقها هذه الأفلام.
للوقائع أفلامٌ لا بد أن تسجلها، كما هي، في ذلك الزمن تحديداً، وللواقع حكايات سابقة له، لا بد من روايتها ليكون المسجل/الموثق في سياقه. فلا يكون الدخول إلى المجال الروائي خروجاً، آنذاك، من الزمن الراهن، بل شرحاً ضرورياً له.

*كاتب فلسطيني سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي