كيف تحولت السينما الى قوة ناعمة تبسط تأثيرها الواسع على الإنسانية

القدس العربي
2021-08-06

لوس أنجليس – حسام عاصي - منذ نشأتها، سحرتنا السينما بجمالياتها البصرية والسمعية وأبهرتنا بعوالم غريبة وعجيبة وعكست همومنا وأوجاعنا وآلامنا وأحلامنا، وأثارت مشاعرنا وبلورت أفكارنا تجاه أنفسنا والآخرين. فليس عجباً أنها باتت أكثر الفنون شيوعاً في كل المجتمعات والحضارات ووسيلة للتواصل والتعارف بينها وقوة ناعمة تستخدمها الحكومات للترويج لسياساتها والتحريض ضد أعدائها في الداخل والخارج، أو بث ثقافتها ومبادئها إلى دول أخرى. فعلى سبيل المثال، تغلغلت الثقافة الأمريكية في كل مجتعمات الدول الأخرى بفضل هيمنة هوليوود على سوق الأفلام العالمية.
خلافاً للكتب، التي تترك لأذهاننا حرية تخيل أحداثها وشخصيات رواياتها، تطرح السينما عوالم نحسّ بها عبر الشاشة. فالمخرج السينمائي يستبدل القلم بالكاميرا والكلمات بالصور المتحركة والأصوات والجمل باللقطات، والصفحات بمشاهد، يرتبها بخط زمني على شريط فيلم، فيخلق عالماً مادياً حسب تصوره، يكون أحياناً واقعياً مألوفاً وأحياناً خيالياً غريباً.
مثل المخرج الهوليوودي ديفيد فينتشر، الذي قدّم عالماً خيالياً مأهولاً بكائنات فضائية غريبة في فيلمه «آليانس 3» الذي تدور أحداثه في كوكب بعيد، بينما طرح قصص واقعية في أفلام مثل «الشبكة الاجتماعية» الذي سرد فيه قصة تأسيس شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، بالإضافة إلى فيلم مانك، الذي تناول فيه سيرة كاتب السيناريوهات الهوليوودي الكلاسيكي، هيرمان مانكويتش. لكن رغم اختلاف عوالم أفلامه، إلا أنه يضفي عليها كلها طابعاً مظلماً.
«بمجرد أن تخرج الكاميرا من الصندوق وتركب العدسة عليها ويدخل الممثلون غرف المكياج وخزائن الملابس يصبح الأمر شيئاً غير حقيقي بطبيعته» يقول فينشر. «وتبدأ بالبحث عن خصال وأدلة تشتت ما اعتاد المشاهدون عليه، من عرض الأفكار عليهم وإعطائها القليل من الواقعية ليتفاعل معها المشاهد. لكن غايتي ليست صنع سلسلة طويلة من قصص الشر ذات المفاعيل المختلفة، أنا فقط أنجذب إلى كل ما يجري في هذه الحلبة».

رؤية المخرج السينمائية

ذلك الواقع غير حقيقي ومختلق يعكس رؤية المخرج السينمائية، التي تنبع من اختياراته الفنية والتقنية لصياغة رواية ما، كطول العدسة وحجم إطار الصورة وموقع الكاميرا والأضواء والألوان والديكور والموسيقى والملابس وإرشاد الممثلين وترتيب المشاهد في خط زمني. تلك الرؤية تمنح أفلام المخرج هوية تميزها عن أفلام المخرجين الآخرين. وحسب مقولة المخرج الفرنسي العريق، جون رونوار: «المخرج يصنع فيلماً واحداً في حياته، ثم يحطمه ويصنعه من جديد».
مثل أفلام المخرج البريطاني داني بويل، التي تتميز بالحركية، بفضل تحرك الكاميرا المستمر وإيقاع التوليف السريع، ما يخلق شعور ركوب سيارة سباق وكل فيلم يبدو كسيارة سباق مختلفة. وحتى إذا توقفت الكاميرا، يضعها بويل في أماكن غير اعتيادية ويستخدم التعليقات الصوتية واللحن الموسيقي ذات الإيقاع السريع لتعزيز الحركية.
«أحب الحيوية» يعلق بويل، الحائز على أوسكار أفضل مخرج عن فيلم «المليونير المتشرد» عام 2008: «بالنسبة لي، الأفلام كالضوء المومض. فيها شيء نابض. أعرف أن بالإمكان استخدامها بغرض التأمل والتفكر لكن هذه الصفة فيها لا تثير اهتمامي أبداً. وأجد أن هذه هي أفضل طريقة للتعبير عن نفسي.»
فعلاً، بويل نفسه مفعهم بالحيوية والحديث معه يبدو مثل مشاهدة أحد أفلامه. «أعتقد أن الأفلام تعكس شخصية المخرج» يقر بويل. «وهذا أمر أدركه أكثر مع الوقت. العاملون في الفيلم يأتون كممثلين أو مع مهارات كمصورين أو مصممين. لكن أياً منهم ليست لديه فكرة عن المنتج النهائي، بل فقط عما يخص مجال عمله، وواجبك كمخرج أن تستخدم الانتقاء أولاً ثم التشجيع والمثابرة لتصنع من كل ذلك الرؤية النهائية، وهي رؤيتك كمخرج.»

صراع بين الخير والشر

يوافق كوينتين تارانتيو بويل الرأي، فهو شاهد ودرس آلاف الأفلام قبل أن يبدأ بالإخراج. لكن رغم أن أفلامه تستحضر أفلاماً سابقة إلا أنها تتميز بنكهة خاصة بها، مبنية على كوميديا سوداء، ممزوجة بعنف دموي مفرط وعبثي وحوارات حادة طريفة.
«إنني كمخرج أقدر أعمالاً سينمائية قائمة بحد ذاتها» يقول تارانتينو «والمخرجون الذين يعجبونني هم سيرجيو ليوني وبرايان دي بالما وسكورسيزي، الذين يقدمون تلك المقاطع السينمائية الضخمة. وأعتقد أنك عندما تخرج مثل هذه المقاطع، تجرب أن تقوم بأمور متعددة فتحاول إبراز العنصر السحري في الفيلم وتتعامل مع الكوميديا أو الإثارة أو كليهما، أو ربما تصل بالأمور إلى مستوى التشويق أو العنف أو مستوى التنفيس عن العواطف.»
فضلاً عن تميزها الشكلي، أفلام تاراتينو ترتكز على روايات تستحضر قصص «أفلام الويسترن» الكلاسيكية المبنية على صراع بين الخير والشر وتنتهي بمعاقبة الشخصيات الشريرة بصورة بشعة. «لطالما كنت شخصاً استفزازياً» يعلق تارانتينو، الحائز على جائزتي أوسكار لأفضل سيناريو أصلي عن سيناريوهات فيلمَيه: «بالب فيكشين» و «دجانغو الحر». «فأنا لا أؤمن بالمساومات المجتمعية. هذه شخصياتي وهذه هي أفعالها بغضّ النظر عن ثناء المجتمع عليها أو رفضه لها أو شيطنتها. أنا لا أعلي من شأنها أو أحط من قدرها. هذه شخصياتي وهذه أفعالها».
أفلام مارتين سكورسيزي أيضاً تتسم بالعنف الدموي وكثيراً ما تدور أحداثها في عالم الإجرام، لكنها لا تصنف شخصياتها كقوى خير أو شر بل كشخصيات رمادية الأخلاقيات، وتمنحها طابعاً انسانياً رغم بشاعة أفعالها، مثل بطل فيلمه الأخير «الإيرلندي» الذي يرتكب جرائم بشعة لكنه مخلص لعائلته وزملائه ولا يقتل الأبرياء.
«هذه هي الحال دوماً» يقول سكورسيزي. «رجل أو امرأة كلاهما شخص جيد، لكن في نهاية المطاف وبسبب الظروف عادة ما يجدون أنفسهم يقومون بأعمال سيئة. أعتقد أن ذلك يعكس الكثير من الحياة نفسها وبمعنى أخر الصراعات الأخلاقية والصراع مع السلطة وقوى الطبيعة البشرية الأكثر ظلمة. كل هذه الأمور هي مواضيع لا يزال ينتابني فضول حولها وأود أن أعرف المزيد عنها وأن اختبرها من خلال الشخصيات والممثلين».
اهتمام المخرجين بمواضيع أو شخصيات معينة وتكرارها في أفلامهم عاطفي وليس فكريا، ينبع من تجارب مؤثرة في حياتهم كثيراً ما تكون خلال طفولتهم. مثل المخرج الهوليوودي تيم برتون، الذي ترعرع كطفل وحيد في حارة فقيرة في لوس انجلس وقضى وقته يحلم بالوحوش والكائنات الغريبة.
تلك الكائنات كثيراً ما شاهدناها في أفلامه، التي تتمحور عادة حول شخصية طفل وحيد ومنبوذ من المجتمع، مثل «أليس في بلاد العجائب» و«فرانكنويني» و»إدوارد ذو الأيدي المقصات» و»منزل الآنسة بيرغرين للأطفال المميزين». لهذا تبدو كل أفلامه كطرح لسيرة حياته.
«هذا وصف صحيح، لكني لا أخطط لذلك بوعي فكري» يعلق برتمان. «وعادة ما أتفاعل مع أمر ما عاطفياً حتى لو كان ذلك موضوعاً تناولته من قبل، وهي رؤية أشياء يمكن أن تكون موجودة أم لا، والشعور بأنك قد تكون مجنوناً، تلك الأنواع من المشاعر الخاصة جداً.»
لكن رغم تشابه الطرح السردي في أفلامه إلا أنها تختلف في أشكالها الفنية، فمنها الذي صُور بالأبيض والأسود مثل «إد وود» ومنها ما صُور بالألوان مثل «عيون كبيرة» ومنها الرسوم المتحركة مثل «فرانكينويني» ومنها أفلام حركة حية مثل «سليبي هولو» ومنها ما يمزج بين أنواع وأساليب مختلفة. «عندما ألقي أول نظرة على مشروع ما، أتساءل هل يكون بالحركة الحية أم الرسوم المتحركة أو الإثنين معاً، إما أبيض وأسود أو ملون. إذا كان بالألوان، ربما السنين التي أمضيتها في دراسة التصميم علمتني إلى أي درجة نتأثر بالألوان وكيف نستخدمها للجو العام أو الحركة في كل مشهد. تفكر بنظام الألوان التي تتماشى مع جوّه لأنه جزء من العاطفة التي تبرز من المشهد وكأنها شخصية أخرى، جزء من نسيج الموقف الذي يتناوله المشهد.»
الوعي العاطفي يتحكم في قرارات المخرج لدرجة أن بعض المخرجين لا يدركون السبب وراء اختياراتهم الفنية والسردية إلى أن يشار لهم إليها. مثل المخرج المكسيكي الفونسو كوارون الحائز على أربع جوائز أوسكار، من ضمنها جائزتان لأفضل إخراج عن فيلمَيه «روما» و»جاذبية». كوارون صنع عام 2001 فيلم «وأمك أيضاً» الذي يحكي قصة نضوج مراهقين في المكسيك خلال التسعينيات. وفي عام 2018 صنع فيلم روما، الذي طرح فيه تجربته كطفل في المكسيك خلال السبعينيات، دون أن يدرك أي علاقة بين الفيلمين.
«لم أفكر في الأمر قط» يقول كوارون. «صحيح، أعتقد أن هناك استمرارية مثالية في المعلومات المعروضة في روما تؤدي إلى البلد الذي تم وصفه في وأمك أيضا، فضلاً عن الرحلة التي يقوم بها الولدان، إذ يمكنك التقدير أن الأولاد في فيلم روما مثل الأولاد في فيلم «وأمك أيضا» وهناك أيضا الشاطىء.»
وأحياناً لا يعرف المخرج السبب وراء تكرار المشاهد ذاتها في أفلامه. مثل المخرج المكسيكي غييرموا ديلتورو، الذي يقدم مشاهد مياه مرارا وتكرارا في أفلامه، مثل «حافة الهادي» و»هيل بوي» و«شكل الماء» الذي حصد أربع جوائز أوسكار. «رغم سمانتي وضخامة جسدي أنا أعشق السباحة، وهذا ربما يفسر اهتمامي بالماء» يضحك ديلتورو ثم يضيف. «لكن ربما لأنني كاثوليكي وتأثرت كثيراً من المعمودية في صغري.»
براعة المخرج السينمائي لا تكمن في سبر أفكار أو قضايا فلسفية معقدة، بل في تقديم رؤية شخصية أصلية يتماهى معها أكبر عدد من الجماهير في العالم وذلك لأن الوعي العاطفي أكثر فعالية من الإدراك العقلاني.

تصوير الحميمية

«عندما تصور الحميمية أنت تمارس عملا ً خصوصياً للغاية» يقول كوارون. «وكلما كنت أكثر تحديداً أصبحت أكثر عالمية. أنا أؤمن أننا نتشارك التجربة الإنسانية ذاتها، فعندما ترى الألوان الخاصة في روما تلاحظ أنها تربطك بمدينة ميكسيكو 1970، بل وتصلك بتجربتك الخاصة مع تلك الألوان وكأن لدى الإنسانية مجموعة من الألوان المختلفة. ففي المكسيك هناك اللون الأخضر الذي ترتبط به لأنك تعرفه فتترجمه إلى تجربتك الخاصة وهذه المشاهد جميعها ليست سوى رموز لذكريات مشتركة، ذكريات يتشاركها كل منا».
إذاً السينما هي وسيط عاطفي بين المخرج والمتلقي، وليست خطاباً فكرياً فلسفياً، ومن هنا ينبع تأثيرها الواسع على الإنسانية. فخلافاً لفنون أخرى، ينبهر كل شخص، بغض النظر عن مستواه الثقافي وقدراته العقلية، بمشاهدة أفلامها ويتفاعل مع أحداثها ويتماهى مع شخصياتها لأنها تعتمد على إثارة مشاعره على مستوى اللاوعي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي