يوم حطم العفاريت منزلنا

2021-07-11

بسام شمس الدين*

 

نزل علينا أقاربنا ضيوفاً في وقت لم نكن في انتظارهم أن يأتوا، كان زفاف أختي قد أُجل موعده أسبوعين، ولم يكن بالوسع إبلاغهم بهذا الخبر لأنهم يعيشون في ريفٍ ناءٍ ليس فيه خدمات الهاتف ولا مكتب بريد.

أتوا بملابسهم الرثة وأطفالهم وبضع كلابهم الشرسة، ولحسن الحظ أنهم لم يأتوا بأبقارهم وحميرهم لأنهم تركوا أحدهم ليعتني بها حتى يعودوا، وقد اعتادوا أن يأتوا دون دعوة، وكانت آخر مرة أتوا فيها قبل عقد من الزمن، وفي ذلك الحين أتوا قبل عرس أختي الكبرى بيوم واحد، ولم يكن بمعيتهم طفلاً، بل كان غالبية بناتهم وأبنائهم

يافعين وفي طور الشباب، وقد استطعنا أن نستضيفهم دون مشاكل، وأذكر أنهم قضوا مدة أسبوع، وعادوا وفي قلوبنا حسرة على فراقهم.. كانوا يأتون بلا دعوة رسمية، ويرددون أنهم لا يحتاجون إلى قصاصة تافهة من الورق ليلبوا نداء أقاربهم، لكنهم في الحقيقة أقارب من الدرجة الثانية وما يتلوها من الدرجات، ويمكن أن يكونوا

من أبناء عمومتنا، من يدري؟ فقد ولدنا وعشنا في المدينة، بحيث لا نعلم شيئاً عن القرابة التي تربطنا بهم سوى في مثل هذي المناسبات، ولم يكن والداي يتكلمان سوى القليل عنهم، وبعد تأجيل العرس كان على أبي أن يرسل إليهم خبراً بأي طريقة كانت، لأنهم على كل حال لم يكونوا بضعة رجال ونساء، بل بوسعي أن أجزم أنهم كانوا

سكان قرية كاملة، وقد أتوا في خمس سيارات عتيقة من النوع الذي يتحمل صعود الجبال والطرق الوعرة، ما لبثت أن أصدرت هديراً مخيفاً قرب منزلنا، حتى سمعنا وتنبهنا إلى قدومهم، بل أن أمي بعد أن تضوعت رائحة الدخان لطمت وجهها قائلة بفجيعة: "وصلت سيارات القرويين، ألم ينذرهم أحد عن تأجيل العرس"

امتقع وجه أبي، ونهض متحفزاً ماسحاً شاربيه وقال:

"أف، لقد نسيت أن أخبرهم، سأخرج لاستقبالهم، احذروا أن يشعروا بأي جفاء، إنه خطأي"

ردت أمي بسخط:

"بوسعك أن تخطئ، لأنك لن تطبخ أو تغسل الأطباق والملابس، وستذهب وأولئك الرجال إلى المجلس وتنتظروا أن يأتي الطعام إليكم "

"هل بوسعك أن تصرفيهم بطريقة ما؟"

أجابت بصوت خفيض خجول:

"هل جننت؟ أنا لا أجرؤ على صرفهم، بوسعك أن تخبر الرجال، لأنهم أكثر تفهماً"

"سأحاول، هذا أمر محرج فعلاً"

وخرج أبي ليستقبلهم والخجل يطل في وجهه كالشمس، وراقبته من النافذة وهو يفتح باب الفناء باضطراب، وتناهى صوته الخجول وهو يقول ضاحكاً ليخفي حرجه:

"لقد تأجل العرس للأسف، ألم يخبركم أحدٌ بذلك؟"

صدر صوت رجل كبير في السن قائلاً:

"لا يهم، لقد أتينا لزيارتكم وجلبنا الهدايا، ونحن متعبون للغاية من السفر"

"لا بأس، بوسعكم أن تعودوا..."

لم يكمل أبي عبارته مع اندفاع صف عشوائي من الأطفال هرعوا صارخين إلى الفناء مصدرين جلبة شديدة، بحيث دفعوه خلف البوابة، وراحوا يركضون كالعفاريت محطمين كل شيء في طريقهم، وكان مجرد رؤيتهم يثيرون تلك الفوضى الغريبة كافية للاقتناع أن طردهم هو بمثابة دفاع عن النفس والممتلكات، ولا يمكن أن

يلحقنا أي عار أو لوم، لكن أبي وقف مصعوقاً جامداً، حتى دلفت خلف الأطفال فرقة من النساء بملابس القرويات المهلهلة، وأخذن يصافحنه باحترام، واضطر أن ينحني بوقار ويقبل رؤوس ثلاث جدّات قصار يسرن محنيات الظهور كالسلاحف، وما لبث أن دخل الرجال يقودون كبشين ويحملون سلة صغيرة من الفواكه، وشنط،

وأكياس صابون كريستال تحوي على قوارير سمن وقناني لبن وغيرها من منتجات الريف، وما لبثوا أن صافحوا، وساروا باتجاه المجلس الكبير دون أن يحتاجوا مرافقاً أو دليلاً من أهل المنزل، لأنهم يعرفون الطريق من قبل.

وتبسمت أمي بصعوبة، واستقبلتهن بارتباك واضح، ولم تستطع أن تنطق أو تسمع شيئاً بسبب صخب الأطفال وركضهم، وامتزج الضحك بالبكاء والصراخ، وصنعنا للرجال قلة كبيرة من عصير مسحوق البرتقال ما لبثت أن أعيدت فارغة مع طلب بصنع المزيد للمسافرين العطاشى، وقدمت لهم نصف الكمية السابقة، ثم انشغلت

بصنع عصير الضيفات الظامئات، وأخرجت الأكواب الزجاج الجديدة من مخبئها، وسكبت العصير في عشرات الكؤوس، وصببت للأطفال في كؤوس بلاستيكية لأنها لا تتحطم بسهولة، ووضعتها في صحن كبير وحملتها بغباء باتجاه الضيفات، لكن الأطفال صرخوا وهجموا علي، وأسقطوني أرضاً بحيث طارت الكؤوس الجديدة

وتحطمت، وجرحت بشظايا الزجاج بأطرافي وباطن قدمي، وما أغاظني أكثر هو سماعي لأصوات ضحك النساء وصوت إحدى الجدات وهي تقول إن النحس طار من المنزل مع تحطم الزجاج، وما لبثت أختي العروس أن خرجت مضرجة الوجه متذمرة من أسئلة الضيفات المحرجة وتطفلهن، ولم يكد ينتهي اليوم حتى تحطم كل شيء في المنزل، حتى زجاج النوافذ.

كانوا يرمون بعضهم بالأحذية، وأصبت وأمي بأحذية القرويات المتطايرة، حتى العروس رغم أنها لم تساهم بالعمل أصيبت بصداع ودوار شديدين، وبقيت مقرفصة دون دثار قرب

الجدات والنساء الكبيرات اللاتي احتللن غرفتها، ولم تستطع النوم بسبب الشخير والروائح الكريهة، وكنت وشقيقتاي متورمتي الأطراف لفرط العمل والتنظيف، وبالكاد أستطيع السير، أما أمي فقد انهارت مرهقة على أرضية المطبخ بعد وجبة العشاء، ولم تستطع أن تتحرك، كانت جميع البطاطين والأغطية والفُرُش قد ذهبت

للضيوف لاسيما الرجال، فاستلقينا قرب أمي بالمطبخ، وافترشنا قطع كراتين وسجاد ممزق ونمنا متدثرات ببقايا معاطف عسكرية مهملة كان يستخدمها أبي قبل أن يتقاعد برتبة نقيب، وفي وقت مبكر من الصباح لم تستطع أمي النهوض، بدت شاحبة مشلولة لفرط التعب، لكنها مازالت حاضرة الذهن، وتعرف ما يدور، ولم تكن قد

فقدت شجاعتها كما فقدت صوتها الذي اختفى بسبب صراخها على الأطفال المجانين، وكنا مثلها لا نستطيع أن نتكلم بوضوح، والعروس كذلك واقعة في صداع ورأسها مشدود بشال ثقيل، وتبدو شاحبة شبه مجنونة بفعل السهر، وأقبل أبي ليطلب القهوة للرجال الذين اعتادوا أن ينهضوا مبكرين، لحسن الحظ كانت الضيفات مازلن

نائمات، وكذلك أطفالهن العفاريت، ولاح عليه الغضب حين رآنا مستلقيات على أرضية المطبخ، ولم يلحظ أننا مشلولات مرهقات وعاجزات عن النهوض، وكأنه لا يظن أن تصاب أمي النشيطة والكادحة بإعياء، وشرع يقول بصوت غاضب:

"ماذا يجري؟ أين القهوة؟"

ورأى فجأة الدموع تجري في عارضي أمي التي لم تستطع أن ترد عليه، وأثناء ذلك فهم الأمر، وتجمد للحظات يلوح عليه الوجوم، ثم انفجر صارخاً: "فليذهبوا، لقد ألغي العرس" وأخذ يدق أبواب الغرف "لم يعد هناك زفاف"، وبعد لحظات خرجت النساء بملابس السفر، وصدرت ضوضاء الأطفال في الفناء، وغادر الرجال كذلك، وأبي واقف على الفناء يردد عبارته عن إلغاء العرس.

 

  • روائي يمني

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي