نكسة يونيو67 : ألم مزمن في قلب السينما المصرية والعربية

2021-07-09

كمال القاضي*


لم تستطع السينما المصرية والعربية تجاوز محنة النكسة التي وقعت في عام 1967، فالتاريخ الحزين ظل لسنوات يمثل ألما مبرحا في قلب كُتاب السينما ومخرجيها في مصر والعالم العربي، ولا يزال إلى الآن تاريخ النكسة هو الشارة السوداء في الصورة السينمائية، الغارقة في تفاصيل المرحلة الصعبة من عمر الأمة العربية، تلك التي ترتبت عليها في ما بعد أحداث جسام، كان لوقعها أثر سيئ امتدت تأثيراته السياسية والاجتماعية لعهود وعقود، وربما هناك أثر مُتبقٍ إلى الآن.

«العصفور»

«العصفور» كان واحداً من الأفلام التي قدمها المخرج يوسف شاهين في وقت قريب من الأزمة، وسجّل من خلال الرؤية الواسعة للحدث الجلل محنة الانكسار، محاولاً تغطية الأحزان الواقعية بالصورة التفاؤلية الافتراضية، حيث رفض شاهين النكسة، وجعل يؤكد آيات الانتصار في استشرافه للمستقبل المنظور، مُخففاً من درجات الألم والندم، رغم قتامة الصورة الدرامية وحدة النقد في الخطاب العام للفيلم المهم. ولم يكن فيلم «العصفور» استثناءً في هذا الخصوص، لكن أفلاماً كثيرة تناولت الحرب الخاسرة بالمرارة ذاتها، لكن أغلبها لم يعرض الهزيمة أو النكسة باعتبارها نهاية المطاف، وإنما جعل للأزمة التاريخية خطين متوازيين، وأبقى على خط المقاومة كعنصر واضح في السرد التاريخي والعرض الميلودرامي للأحداث، وبهذا أسهمت السينما في تعزيز الحس النضالي عند الجماهير، حتى لا تفقد الأمل وتُصاب بالإحباط، فتكون العاقبة أشد قسوة من الناحية النفسية، وهو التناول الإيجابي المُسكن للآلام.

«أغنية على الممر»

لقد ترجم فيلم «أغنية على الممر» الصورة الواقعية من كل الجوانب مستعيداً تفاصيل الحرب عبر الجنود الواقفين ببسالة على جبهة القتال والرافضين لفكرة الاستسلام، بل المتمسكين بإحراز النصر الجزئي في نطاق تمركزهم، حسب رؤية قائدهم الجاويش الذي قاد فرقة المقاتلين لوقت طويل، والذي قام بدوره الفنان القدير محمود مرسي مع نخبة كبيرة من كبار النجوم، حمدي أحمد ونور الشريف وسعيد صالح وصلاح السعدني والسيد راضي، وبالقطع كان ذلك إسقاطاً رمزيا على الهزيمة المرفوضة، والنصر المُنتظر ولو بعد حين، وبالفعل حرص المخرج محمد راضي على أن يترك النهاية مفتوحة كناية عن استمرار المعارك ويلوح بقدوم تاريخ آخر يُمحو عار 5 يونيو/حزيران مشيراً لذلك بمشهد رفع العلم واستشهاد آخر جندي في الكتيبة المُقاتلة.

«أحلام صغيرة»

ومن الأفلام المهمة التي وضعت أحزان نكسة يونيو بين قوسين، وكشفت عن مواطن الألم والحسرة في قلب الشخصية المصرية، التي أشير إليها بدور الفنان صلاح السعدني، فيلم «أحلام صغيرة» الذي شارك في بطولته كل من ميرفت أمين وسيف عبد الرحمن، واعتبر من أكثر الأفلام إدانة لما حدث، رغم التوجه الفكري المنحاز للفترة الناصرية، من جانب البطل صلاح السعدني، إلا أنه لم يستطع أن يصرح عبر دورة المحوري بغير الحقيقة، وهي أن الأخطاء السياسية التي أدت للنكسة كانت فادحة، ولا بد من الاعتراف بها، وفي هذا السياق جرت بعض الانتقادات الصريحة لبعض المفاهيم، التي كان من بينها التعامل العاطفي مع الحدث الكبير وإحداث ردود أفعال أخذت كلها الطبيعة العاطفية نفسها، كالتمسك بوجود الرئيس عبد الناصر في السُلطة، ورفض الشعب المصري لفكرة التنحي رفضاً تاماً، والخروج في الشوارع بشكل هيستيري للمُطالبة ببقائه وإثنائه عن قرار التنحي الذي اتخذه في لحظة انفعال حسب الرؤية العامة للفيلم، الذي اختلط فيه مفهوم المحاكمة العادلة للمرحلة بالحنين الجارف للزمن الناصري، ومحاولة تنشيط الذاكرة الوطنية بمشاهد المقاومة والنضال والرفض الشعبي الكامل للهزيمة، واعتبارها مجرد نكسة وفق ما كتبه في حينه الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل في توصيفه لما حدث.
والفيلم يعرض وجهة النظر الخاصة بصُناعه، مع المحافظة على الخيط الرفيع الذي يربطهم بعبد الناصر، كزعيم ورمز والمرحلة التي شهدت إنجازات كثيرة على أصعدة مختلفة، وربما ذلك ما جعل المزج بين مزايا فترة الستينيات ومساوئها مشروعاً ومنطقياً، حيث لا يمكن تجريدها من المحاسن كافة، أخذاً بما جرى في 5 يونيو وحسب، لأن المحاسبة على هذا النحو ستفتقر إلى الإنصاف، وهو ما نأى عنه الفيلم وأبطاله، وأولهم صلاح السعدني الذي مثّل شخصية المُثقف المكلوم، تعبيراً عن حالة الغالبية العظمى من المثقفين الذين عاصروا أحداث النكسة وعاشوا مرارتها.

«الكرنك»

وفي فيلم «الكرنك» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ ناقش المخرج علي بدرخان القضية ذاتها، وأفرد مساحة واسعة لأسباب النكسة، من وجهة نظره، ووجهة نظر كاتب السيناريو ممدوح الليثي، وبالقطع كانت الإدانة هي العنوان العريض للأحداث كافة، بما فيها خلفيات السجن والاعتقال والتعذيب، التي وضعت داخل السياق لتربط بين الهزيمة أو النكسة، والممارسات السياسية الخاطئة حينئذ، ويُمثل «الكرنك» ذروة النقد الإبداعي للسُلطة الناصرية في مرحلة الستينيات، وأجرأ الرؤى السينمائية تناولاً وطرحاً للقضية السياسية الخاصة جداً، وأكثرها رواجاً اعتماداً على عنوان الرواية واسم كاتبها وحيثيته الأدبية الكبرى. وعملاً بحق النقد المُباح عزفت أفلام أخرى على الوتر نفسه، كفيلم «صياد اليمام» المأخوذ عن رواية الكاتب إبراهيم عبد المجيد، الذي كتب له السيناريو السيناريست علاء عزام، وهو أيضاً الذي كتب سيناريو فيلم «خريف آدم» للمخرج الراحل محمد كامل القليوبي بالرؤية ذاتها المجابهة لفترة الحكم الناصري ورموزها.
ولو نظرنا إلى أبعد من هذا المدى سنجد أن هناك أفلاماً مهمة تناولت أحداثا كثيرة لها صلة بالموضوع كفيلم «طائر الليل الحزين» للنجوم الكبار محمود مرسي وعادل أدهم ومحمود عبد العزيز، وكذلك فيلم «اتنين على الطريق» لعادل إمام وشمس البارودي، وفيلم «حافية على جسر الذهب» لحسين فهمي وميرفت أمين، حيث كل هذه الأفلام مُجتمعة تناولت بكثير من الحدة مرحلة الستينيات، وأهالت عليها التراب، دون أن تضع اعتباراً واحداً لأي من الإنجازات ولو من باب المصداقية وتحري الموضوعية.

«ما يطلبه المستمعون»

ومن جانبها قدمت السينما العربية رؤاها أيضاً في نكسة 67 بقدر من التورية أحياناً كفيلم «ما يطلبه المستمعون» للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، الذي أشار بمرارة لوقع النكسة على الحالة العربية، متعمداً تسمية بطل الفيلم جمال، وهو الجندي الذي استُشهد على المدفع وعاد جثمانه من جبهة القتال ملفوفاً بالعلم السوري، في تضمين لمعنى مهم وهو فكرة القتال حتى الموت، دون استعداد حقيقي للحرب، اللهم بالقدر الكافي من الشجاعة والبسالة والفداء، لكن في النهاية لم تسفر الشجاعة عن شيء يُذكر كأنها الانتحار.. هكذا كان المعنى الخفي للأحداث، وهو بمثابة رد فعل للأزمة أراد أن يجسده المخرج الكبير ليكون دالاً على وجهة نظره الشخصية، أو وجهة نظر غيرة من المتفقين معه في الرؤية والرأي.

*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي