غزة في عيون السينما الفلسطينية: حكايات البطولة والانتصار

2021-05-24

 

كمال القاضي*

لم تكن مصادفة أن تنتفض السينما الفلسطينية في السنوات الأخيرة، وتنطلق شرارتها من مدينة غزة، فتستشرف المستقبل في تجارب تراجيدية إنسانية، تعبر عن الواقع المحلي للمدينة المُحاصرة، التي ترفض الانصياع لقوات الاحتلال وتُصر على الحياة، رغم صلف القوة الغاشمة وجبروت الآلة الحربية الجهنمية، التي لا تفرق بين طفل أو شيخ أو امرأة أو مقاتل.

لقد تجاوزت السينما في غزة آلامها وسعت لتوثيق رؤى مغايرة عن ذلك النمط السائد في أفلام المقاومة المعهودة عن النضال الفلسطيني، وبالفعل كان المخزون من المعلومات واليوميات والأحداث كافياً لنقل الصورة الحية بتفاصيلها وعمقها ورتوشها، وربما كان الأجمل في السينما الإنسانية الجديدة، تركيزها على الصور الإيجابية وبعدها عن مشاهد الرثاء والحزن، فقد رأى صُناع الأفلام، أن القيمة الحقيقة للإبداع الفلسطيني المحلي تكمن في ما لا يراه الآخرون من آيات الصمود والقوة داخل الشخصية الفلسطينية الصُلبة، بعنادها وثباتها واستبسالها.

وقد جرى الرهان على تعميم اللغة السينمائية الهادئة في معظم التجارب، لتحمل دلالات القوة التفاعلية المؤثرة كبديل موضوعي ومنطقي لسيناريوهات الاقتتال والدمار، في محاولة لإثبات طمأنينة الشعب واهتمامه بمستقبلة وحياته، وحرصه على العيش بلا عنف، اللهم غير الذود عن نفسه وأرضه وعرضه حين يتعرض للخطر.

وبالفعل بدأ تيار سينمائي قوي في هذا المضمار، وجاءت البشائر بأفلام شديدة الاعتبار، كان من بينها فيلم «غزة هوليوود» للمخرج سعود مهنا، أحد مبدعي غزة الناشطين في مجال التوثيق السينمائي، والحاوية أفلامه لرؤى مُتعددة المستويات والأوجه، حيث يتناول فيلمه المذكور الأزمة الإبداعية، في ظل ضعف الإمكانيات وقلة الموارد الإنتاجية، وضيق المنافذ المتاحة لرواج الفيلم الفلسطيني، كما يسلط الضوء على الحيل المُبتكرة للتغلب على العثرات والمعوقات، ويشير إلى ماهية الإبداع الفلسطيني وتميزه الضمني، بعيداً عن مكونات الأزمة والمشكلة وتأثيراتها السلبية، وبخلاف فيلم «غزة هوليوود» الذي شارك في أكثر من مهرجان دولي وعالمي، وحاز عدداً من الجوائز، قدم سعود مهنا فيلمه التسجيلي المهم «الشجرة المباركة» وقد عرض من خلاله ملامح الحصاد السنوي لمحصول الزيتون، ودواعي الفرح الغامر بالثروة الاقتصادية لثمار الزيتون المذكورة في القرآن الكريم، كناية عن التعظيم والتقدير السماوي للشجرة المُباركة، التي استوحى المخرج منها عنوان فيلمه.

وفي تجربة لاحقة كتب مهنا وأخرج فيلماً آخر عن رسام الكاريكاتير الشهير ناجي العلي، بعنوان «ريشة ورصاصة» استعرض في ثنايا تفاصيله، رحلة كفاح الفنان ونضاله عبر رسومات لخصت الأزمة التاريخية للقضية الفلسطينية، وكشفت عن أوجه القصور والعجز في الأداء السياسي لبعض الزعماء والرؤساء العرب.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر فلا بد من الرجوع عدة سنوات للخلف، للحديث عن الفيلم الوثائقي المهم للمخرج والسيناريست نفسه، «هم في الذاكرة» ذلك الفيلم الذي أرخ بالصوت والصورة لجريمة الكيان الصهيوني إبان حرب 48، حيث قام الجنود الإسرائيليون بأسر وقتل وحرق الجنود المصريين فوق التبة 86، في أبشع عمل إجرامي في التاريخ الحديث، وهو ما أثبتته الوثائق والمستندات، وبعض شهود العيان الذين عاصروا الأحداث وشاهدوا بأعينهم تفاصيل الجريمة الشنعاء، وأدلوا بشهاداتهم قبل رحيلهم.

ولأن خط الإبداع الفلسطيني السينمائي متواصل في غزة، فقد خرجت إبداعات مماثلة في سياقات نوعية، مُعززة لفكرة الصمود والقوة والإصرار على الحياة، رغم المواجهات اليومية المعادية، وبناءً على اعتزام المبدعين توثيق المشاهد والأحداث، واهتمامهم بعمل أرشيف سينمائي إبداعي يحفظ ذاكرة بلادهم وأولادهم، جاء الفيلم الأقصر من حيث المدة الزمنية، والأعمق في جوهره ومعناه، «الإيواء» وهو الأحدث في قائمة التجارب الإنتاجية، وربما الأقوى أيضاً من حيث الأداء التمثيلي الصامت للبطلة حنين الشريف، التي قدمت دور الأم الفلسطينية الصابرة المُحتسبة بإشارات وإيحاءات بلاغية غاية في التأثير، من دون الحاجة لجُملة حوارية واحدة، وهو ما يعد تحدياً صعباً بالنسبة لممثلة هاوية لم تحترف بعد التمثيل.

وعلى مستوى الأفلام ذات الإنتاج المتوسط، التي تناولت بعضاً من أوجه العدوان الصهيوني الصارخ على المدن الفلسطينية في مراحل سابقة، وعرضت صوراً واقعية للقتل والدمار، كان فيلم «القدس أبناء دم» للمخرج مصطفي الشعبي الذي اعتمد لغة تعبيرية غير مباشرة في عرضه للأحداث واستخدم الإسقاطات الرمزية في المعالجة الدرامية، وإيضاح الرؤية اللازمة والحتمية لإدانة المحتل الغاصب والمُتعنت.

من جانبها ساهمت المخرجة امتياز المغربي بفيلمها «اعتقال» ليكون وثيقة مُضافة لوثائق الجرائم الحية، التي اقترفها العدو الصهيوني في حق الفلسطينيين الآمنين، لكن ثمة اختلاف في فيلم «اعتقال» يجعله مغايراً لبقية الأفلام السابق ذكرها، كونه يصور بانوراما القتل والتدمير بشكل مباشر وبلا مواربة، ليُصبح الدليل جلياً لا محل للجدل أو الشك فيه، ويعد هذا النوع السينمائي هو الأكثر استيعاباً في لغة التشهير والفضح لنوازع الصهاينة الدموية.

وتأتي نوعيات السينما الفلسطينية الجامعة بين الخط الوثائقي والخط الروائي، مهمة من حيث المنظور والهدف، فهناك أفلام مثل «عتبة الدار» نراه يؤكد على حيثيات تاريخية ذات صلة وطيدة بالصراع، عمرها أكثر من نصف قرن ترتبط بإشكالية البيع والشراء والملكية الخاصة بالبيوت والأراضي الفلسطينية.

وكذلك فيلم «ستين عام» أو ستون عاماً للمخرجة سرى عباس، وهو أحد الأفلام التي تتضمن رؤية تحليلية تاريخية للنكبة والشتات من خلال شهادات حيه لبعض الشخصيات، تم توثيقها لتكون سندات قوية لإثبات الحقيقة المُغيبة عمداً مع سبق الإصرار والترصد.

وعلى المنوال نفسه تأتي تفاصيل فيلم «القدس من في القدس إلا أنت؟» لترينا أحوال مدينة القدس عبر سنوات كأنها سردية تاريخية على إيقاع الشعر وأبيات القصائد المُقاتلة للشاعر تميم البرغوثي، وهو شكل جديد للفيلم الوثائقي الحامل للمعاني التاريخية والسياسية، في مضامين مُتكاملة ومتوافقة في الرؤية والحدث والبيان.

 

  • كاتب مصري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي