الرهينة لزيد مطيع دماج..قراءة سوسيونقدية - عبد المغني دهوان

خاص - شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-08-24

- مدخل سوسيولغوي:
    أنجز زيد مطيع دماج روايته (الرهينة) في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي, في ظل وضع شهدت خلاله اللغة وأنظمة القيم تحولات واضحة عايشها المؤلف والكتاب الآخرون الذين عايشهم أو تأثر بهم, وبرزت تجلياتها على مستوى البنى الدلالية والسردية للنصوص على هيئة ازدواجية قيمية ودلالية(1),  فقد برزت بقوة في المجتمع اليمني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قيم السوق وثقافة الاستهلاك والسعي وراء اقتناء السلع الثمينة المستوردة عن غير حاجة ماسة إليها, وكان ذلك نتيجة للتأثر بوسائل الإعلام والاحتكاك المباشر بثقافة المناطق التي شهدت الطفرة النفطية, فنشطت حركة التجارة وأحدثت خلخلة ملحوظة في البنى الاجتماعية التقليدية, غير أن البنى الاجتماعية والأسس الاقتصادية التقليدية التي ظلت مهيمنة لم تسمح بظهور فئة اجتماعية مستقلة تمتهن التجارة(برجوازية) وتكون لها أيديولوجيتها الخاصة, كما هي الحال في البلدان الأكثر تقدما, وعلى الرغم من هذا الوضع فقد ترسخت ثقافة وقيم السوق على حساب النظام القيمي الذي كان سائداً, وكان ذلك بمباركة بعض الجماعات المهيمنة بصفتها المستفيد الأول من هيمنة قيم السوق رغم ادعائها الأيديولوجي بحماية النظام القيمي, وقد كان من نتائج هذا التحول تعزيز الازدواج القيمي والدلالي واغتراب الذات الفردية والجماعية, اغتراباً مادياً واقتصادياً بحكم عدم قدرة الأغلبية من الناس على تلبية رغباتهم الاستهلاكية . وفي وضع كهذا تنشطر الذات وتتمزق وتفقد كل مقومات هويتها, وعوضاً عن التصميم والطموح تستسلم لتأثير قيم غير أصيلة تصبح بمقتضاها القدرة على اقتناء كل ما هو جديد وثمين مقياساً للاحترام والمركز الاجتماعي, ودليلاً على الذوق السليم المساير للعصر(2), ومما لاريب فيه أن الذات التي تفقد هويتها تتكلم بالضرورة لغة غير لغتها: لغة السوق التي لا تعترف بالمعنى مثلما لا تعترف بالقيم, لذلك تظهر الذات متشككة وحائرة,وفريسة للواقع المزدوج, إذ بفعل صراع الأيديولوجيات والقيم لا يبقى أي معنى يمكن أن يوفر أساساً صلباً لعملية بحث من أجل استعادة الهوية.

     إن الازدواج الذي يجمع قيماً دلالية وثقافية متعارضة يؤدي إما إلى لامبالاة تشكك في كل القيم وتساوي بينها, بحيث يصبح التمييز بين القيم في المجالات الأخلاقية والجمالية والسياسية مستحيلاً, وهو ما أدى الى ظهور اللامبالاة الدلالية والقيمية في نتاج بعض كتاب هذه المرحلة, حيث أن معارضة الازدواجية القيمية باللامبالاة يعد نقداً لها وللأيديولوجيات التي تسببت بها, وبهذا الخصوص كتب محمد مثنى في مقدمة روايته (ربيع الجبال)-1983 - عبارة ينتقد فيها إصرار بعض الأيديولوجيين على تكريس أنماط لغوية معينة لا تتناسب مع وضع البطل الروائي والواقع الذي يعبر عنه, قائلا: " فقد تركت له[البطل] قدراً من الحرية والانسيابية اللغوية في كلماته وجمله ورواياته معتقداً في قرارة نفسي أن ما من شيء يفسد العمل الفني [مثل] تلك التنطعات اللغوية القاموسية بالنصب والجر والرفع والمثنى, ليتحول القروي البسيط إلى مثقف وعالم لغوي بقدرة الكاتب ونيابته المخبولة, أويصبح الإنسان المسحوق العادي أزهرياً.."(3) إن مثنى يبحث عن لغة تعبر عن الواقع كما هو دون تواطؤ أوخضوع للأيديولوجيات, إنه يبحث عن رؤية موضوعية من خلال تخليص الخطاب من كل القوالب اللغوية التي تقيد الحرية وتزيف الواقع, فمثل هذا التدهور والتزييف ليسا إلا نتاجاً لتدهور القيم واللغة بفعل هيمنة قيم السوق  وصراع الأيديولوجيات, وهو ما رأى فيه الجاوي سبباً في ظهور العبارات الفائضة عن الحاجة " وفي جو من العبارات الفائضة عن الحاجة لا يجد الوطن اهتماماً جماعياً به كوطن "(4). نجد في وصف العبارات السائدة بأنها فائضة عن الحاجة دلالةً على استبداد سلطة السياسة والمال باللغة, إلى حد تصبح به آلية لأنتاج اللامعنى والتفكك الدلالي, ومثل هذا الخطاب لا يمكن أن يستند على أساس صلب لأنه يعاني من التمزق بين واقع مزدوج وطموح لا سبيل إلى تحقيقه, وهذه هي سمات الوضع السوسيولغوي الذي عاشه زيد مطيع دماج وانجز في ظله روايته(الرهينة).                                                                       
 
2- ازدواج دلالي:-
    تظهر الجماعة المهيمنة في رواية (الرهينة)-في ظل الوضع السوسيولغوي الذي حددناه سابقا- متمسكةً ,نظرياً, بالتصديق الدلالي للمفردات التي تميز لغتها عن لغات الجماعات الأخرى, بينما هي تمارس سلوكاً يقوض مصداقية تلك اللغة وينفي عنها دلالاتها, فتصبح المفردات مثل: (الصدق, الإخلاص, الشرف, الحب, الخيانة) عرضة لتفسيرات مختلفة تضفي عليها طابعاً مزدوجاً قيمياً ودلالياً, يتحول إلى وضع عام يسم مجتمع الرواية بأكمله, وفي ظل وضع كهذا يجد الراوي نفسه عاجزاً عن فهم كثير من الأشياءالتي تتعلق بوضعه في المستقبل: "الشيء الذي لم أكن أعرفه هو معنى (الدويدار) وماهو عمله"(ص4), وحين حاول فقيه القلعة تفسير كلمة (الدويدار) لم يزدها إلا غموضاً من وجهة نظر الراوي/ الرهينة, ذلك لأن التفسير لم يركز على طبيعة الكلمة(الوظيفة) وإنما على أحد احتمالاتها الدلالية وهو الاحتمال السلبي "يقوم الدويدار حالياً بعمل الطواشي [...] والطواشي هم العبيد المخصيون [...] والخصي هو من تضرب خصيته [...] لكي لا يمارس عملاً مشيناً وجنسياً,  كمضاجعته نساء القصور..أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقداً لرجولته" (ص4-5), إن هذا التفسير لمفردة الدويدار يتطابق تماماً مع الشفرة الدلالية للغة الجماعة المهيمنة (سادة القصر), وسيلعب هذا التفسير دوراً مهماً في البناء الدلالي للنص, فالخطاب المهيمن سيتعامل مع هذه المفردة وغيرها من المفردات والقيم, وفق شفرة دلالية كامنة تناقض تلك التي يصدر عنها في الظاهر, فيظهر للراوي كخطاب مزدوج يناقض نفسه دائماً, بينما هو لا يفهم إلا المعنى الأحادي للكلمات والقيم, لذلك لا يستطيع التطابق مع الخطاب السائد الذي يجد أثره في كلام صديقيه الدويدار عبادي والبورزان, إذ كلما سألهما عن طبيعة وظيفته الجديدة, يردان دائماً:(ستعرف ذلك مستقبلاً), وأمام هذا الوضع المزدوج وعدم الوضوح يتصرف أحياناً-الراوي- بلامبالاة تتطور إلى ازدواجية مماثلة لازدواجية الوضع القائم وتعارضها(5), فبعد أن كان متقبلاً لوضعه في القلعة حيث كانت تكتسب كلمة الرهينة وضوحها الدلالي بوصفها تعبيراً عن وضع سياسي معين وجدت الذات نفسها فيه دون رغبة منها, سيجد نفسه في القصر إزاء وضع ملتبس,  كذات ملتبسة – توصف من الخطاب الرسمي بالتعبير المزدوج (الرهينة الدويدار)- خاضعة لبرنامج سردي إجباري لم تحدد ملامحه هي, وبالتالي لايعبر عن طموحاتها,  ويمكن تمثيل هذا البرنامج بالهيكل الفاعلي الآتي:
- الذات.................الرهينة
- الموضوع...........وظيفة الدويدار
- المرسل.............النظام السياسي
- المساعد............الدويدار عبادي وآخرون
- الخصم..............النظام القيمي,والتكوين النفسي والثقافي للشخصية
    تتطلب ثقافة القصر من الرهينة الالتزام بهذا البرنامج, أي أن يؤدي وظيفته كدويدار, وأن يتخلى عن صفة الرهينة التي كانت لصيقة به في القلعة, بما تمثله من دلالة تناقض دلالة الدويدار التي من معانيها الامتثال المطلق للغة القصر بازدواجها وتناقضاتها, أما في حال عدم التطابق أو الامتثال فسيكون عرضة للعقاب وهو ما حدث فعلاً أكثر من مرة,  فقد تمت معاقبته بالسجن لأنه لم يستجب للشريفة حفصة في نقل رسائلها الغرامية إلى شاعر الإمام (ص47), وسُجن مرة أخرى لأنه حاول الهرب عندما سخرت منه بعض النسوة. بإمكاننا النظر إلى هاتين الواقعتين كتجسيد مكثف لوضع الرهينة في النص بعامة, فقد تمت معاقبته لأنه يتصرف بطريقة مختلفة عن الدويدار العادي (المألوف) الذي يجسد وضعه الدويدار (عبادي) الذي يطلق عليه (الدويدار الحالي) فهذا - الحالي - يدرك تماماً تعارضات الشفرة الدلالية للغة سادة القصر ويمتثل لها, أي أنه يجسد مثالاً نمطياً لموقف –المقصود هنا موقف كلامي- أنسب تعبير عنه قول (فان ديك): " يكون للمتحدث فيه سلطة محددة تجاه السامع, وهو مايمكن أن تتضمنه جزاءات ممكنة حين يخالف الأمر"(6), غير أن الراوي(الرهينة) يرفض أن يخضع لشروط هذه اللعبة, ويرفض الالتزام بالقواعد ودلالاتها, لأنه يدرك ازدواجيتها ومن ثم يقابلها بازدواجية مماثلة, فهو يعرف أن الامتثال لتلك التعارضات سيجعل منه دويداراً (حالي) كصديقه عبادي, وفي هذه الحال (الامتثال) لا يستطيع أن يتصور علاقة حب تربطه بسيدته (الشريفة حفصة), لذا لم يجد إلا وضع اللاامتثال واللارفض في الوقت نفسه, حيث قبل بشيء من تلك الازدواجية القيمية والدلالية – لا كتعارضات مطلقة-
 
وتصرف على أساسها, فهو من جهة يرفضها وينتقدها, ومن جهة أخرى يعزز من خلالها وضعه كطرف معادل في علاقته بالشريفة.
     تظهر تلك الازدواجية على هيئة تعارض واضح بين ما يتلفظ به الرهينة وما يفعله, فهو يريد ولا يريد, ويحب ولا يحب, يتمسك بالحب تارة ويرغب بنسيانه تارة أخرى, "كنت أطرد صورتها من خيالي بقوة أثناء نومي أو يقظتي...دون جدوى !وكنت أحاول أن أنساها بتذكري لأبي وأمي وإخوتي وأسرتي عسى أن تقوم صورهم بطرد صورتها...لكن دون جدوى"(ص54), تظهر أيضاً الازدواجية القيمية والدلالية بصورة ازدواج كرنفالي في النص, فوصف البغلة زعفرانة بـ"الشريفة زعفرانة" يجسد من خلال المشابهة المقصودة بين الشريفة حفصة والبغلة الازدواج القيمي كازدواج كرنفالي يجمع بين الشرف والحيوانية, ليكشف النقاب عن أيديولوجية الشريفة واظهارها بشكل ساخر, وتنعكس هذه الازدواجية على وصف الراوي لمعظم الشخصيات مصحوبةً بسخرية لاذعة,مثل: (الطبشي الذي فدغت رأسه البغلة) و(والبورزان المتصابي الذي ليس لديه إلا حكاية هزيمة الانسحاب) و(ابن النائب الذي يشبه الضفدع) و(النائب المتكئ بكرشه المنفوخ وبعينيه الجاحظتين وشفتيه المتدليتين كأن ورماً خبيثا أصابهما)...الخ, تؤدي هذه السخرية والازدواجية الكرنفالية وظيفةً نقديةً تنال من الثقافة السائدة, وتحاول تفكيك التصديقات الدلالية التي تميل إلى فرضها بالقوة من دون أن تدرك ما يكتنفها من ازدواج وتناقض, فحين يأمر النائب بخياطة فرج البغلة بعد أن عاشرها الطبشي وشاع خبره في القصر, يعلق الدويدار بسخرية "كان على النائب أن يأمر بخياطة فروج نساء القصر" (ص74),  ففي منظور هذه اللغة يتساوى الحيواني بالإنساني,والسامي بالسوقي "تأملتها أعني (الزعفرانة)..نافرة ومغرية فعلاً رغم ذلك كأنها الشريفة حفصة " (ص75) .

   من المهم أن نلاحظ أن النبرة النقدية لخطاب الراوي تكف عن تأدية وظيفتها كلما اتجهت الرواية نحو نهايتها, وذلك بفعل وقوعه فريسة للازدواجية التي كان يرفضها من قبل, ثم أصبح يمارس خطاباً مزدوجاً لا يختلف عن الخطاب الرسمي, وبحسب ما يقوله, فقد صار مندمجاً في عالم صديقه الدويدار الخالي من المعنى حتى كاد أن ينافسه   "مارست مع صاحبي جميع هواياته القذرة, واندمجت في عالمه الغريب حتى كاد يغار مني" (ص 76),  ليس ذلك فحسب, بل إنه صار خاضعاً لخطاب القصر المزدوج نتيجة لخضوعه لرغباته الجنسية بفعل هيمنة الجمال الجسدي الذي تتمتع به الشريفة حفصة, حيث أن مقاومة تأثير ذلك الجمال لم تعد ممكنة بالنسبة له, وبالمقابل تظهر الشريفة بوضع مخالف لما يفرضه الخطاب الأيديولوجي للجماعة التي تنتمي إليها, من حيث التشديد على الفوارق الطبقية بين الجماعات المختلفة التي تسكن القصر, فهي تتخلى عن هذا المبدأ لصالح حرصها على العلاقة التي تربطها بالرهينة من دون التفات منها إلى وضعه الاجتماعي, وإذا ما نظرنا إلى الرواية من خلال علاقة الراوي بالشريفة بعيداً عن الإيهام المرجعي المتمثل بالتفاصيل الدقيقة للأماكن والأحداث الصغيرة, فإنها تبدو- الرواية- تجسيداً خطابياً لصراع تتمزق فيه الذوات بين قيم فردية منبعها الذات (الرهينة - الشريفة) وبين قيم مزدوجة يفرضها وضع اجتماعي وسياسي ولغوي مزدوج, وهذا الصراع هو السمة الأساسية التي تحكم علاقة الراوي بالشريفة وبقية الشخصيات, إذ تبدأ هذه العلاقة (الرهينة الشريفة) محكومة بشروط الوضع  الاجتماعي الذي يحدد وضع كل طرف فيها,  فالرهينة  الذي يعمل خادماً للسيدة يجد نفسه في احتكاك معها يتطور من جانبه إلى رغبة في امتلاك سيدته

,  مدفوعاً بعاطفة الحب من جهة, ومن جهة أخرى بسبب وضع الشريفة كسيدة مطلقة ذات جمال جسدي مثير يسيطر على جميع حواسه وتصرفاته,  لذلك يجد نفسه في حالة من الازدواج تخلق خطاباً غير ملتصق دلالياً, يجسد وضعاً جديداً لا يتلاءم مع قيمه الفردية ولا مع القيم التي يفرضها نظام القصر, بل يتصادم معها جميعاً, فيظهر الرهينة/الراوي كذات لاامتثالية تشذ عن النموذج المألوف للدويدار. أما الشريفة فإنها بفعل وضعها الاجتماعي (أخت النائب) ترى أنها قد امتلكت الرهينة منذ أن تم توظيفه في خدمتها, غير أن هذا  الامتلاك ليس تاماً مادام الرهينة اللاامتثالي يقاوم رغبتها, و دائماً ما تخلق مقاومته نوعاً من التوتر في هذه العلاقة, ففي حين تسعى الشريفة إلى إثبات سلطتها على الرهينة من خلال الإمعان في إيذائه كلما حاول أن يقاوم تلك السلطة, فإنها تُواجه بتحديه وعناده أحيانا, والخضوع في أحيان أخرى, مما يدل على وضعه كذات مجزاة بين الرغبة في امتلاك الإرادة الحرة بما تعنيه من رفض لمنطق الشريفة وبالتالي الابتعاد عنها,  وبين الامتثال لها والانطواء في محيط نفوذها وجمالها الذي يسحره, وفي كلتا الحالتين تبدو أية موافقة يبديها الرهينة متعارضة مع نظامٍ قيمي: في حالة اللاامتثال تتعارض مع نظام القصر, وفي حالة الامتثال تتعارض مع قيم الرهينة ذاته, وهذا يجعل منه ذاتا مزدوجة في ظل نظام قيمي ودلالي مزدوج,  والوضع نفسه أيضاً, يحكم الشريفة حفصة إذ تجد نفسها ذاتاً منشطـرة بين دوافع وقيم فـردية (الحــب) وبين قيم اجـتماعية ولغـوية جماعـية مفروضة عليها فرضـاً ولهذا السبب كان خطابها مزدوجاً ومتناقضاً, وكثيراً ما يقع في شرك الانزلاق اللغوي بقصد أوبغير قصد, فهي أمام الرهينة السيدة ذات السلطة والنفوذ,  وبعيداً عنه لا توفر دموعها في سبيل الدفاع عنه, غير أنها في المشهد الأخير من الرواية تستطيع التخلص من تلك الازدواجية وتعلن رفضها الصريح لها (خطاب القصر ونظامه القيمي) حيث ترفض أن يناديها الرهينة  "سيدتي" لأن هذا اللقب لم يعد له معنى بالنسبة لها فطالما كان حاجزا يمنعها من اكتشاف ذاتها كما يظهر من هذا المقطع من الحوار الذي دار بينهما قبل هروب الرهينة: " قلت بترو وبعقل:
- سيدتي.
-  وقاطعتني بنرفزة:
-   لا تخاطبني هكذا !.
- عزيزتي!
- كن رجلا وحدد موقفك. "
لقد حالت ازدواجية الرهينة دون قدرته على تحديد موقف تجاه مطلب سيدته (مطلبه من قبل)  فكلمة (حب) لم تعد تمتلك تلك الدلالة التي كانت لها في البداية, فهي الآن -بالنسبة له- لا تختلف عن كلمة الدويدار في غموضها وتعصيها على الفهم.
       إن الوضع المزدوج الذي يحكم تصرفات الذوات الفاعلة في الرواية يمكن شرحه في إطار العلاقة بين النظام الجماعي المهيمن (السلطة) والذات الفردية, إذ تريد الجماعة المهيمنة إذابة الذات الفردية في محيطها ونظامها القيمي المزدوج بينما ترغب الذات في الاتصال بذلك النظام دون أن تفقد استقلاليتها ومرجعيتها القيمية والدلالية,  وعلى هذا النحو تظهر الرواية بصورة ازدواج دلالي يحاول أن يخلق نوعا من التشابه أو التطابق بين العناصر التي يجمع بينها, مع الإلحاح على تنافرها الجذري من البداية,  أي أننا أمام إلحاح شديد على الحوار بين عنصرين مطلقين في الاختلاف لكنهما متشابهان, وقد أشار أحد النقاد إلى المظهر المزدوج للرواية دون أن يسميه صراحةً لأن مقاربته استندت على خصائص نوعية بحتة, استنتج من خلالها أن نص الرهينة تتداخل فيه الخصائص النوعية للسيرة والرواية بفعل هيمنة ضمير المتكلم, يقول بهذا الصدد "حتى كأن النص أصبح ترجمة خالصة برغم انتمائه الأصلي إلى الروائية"(7), ومن ثم يغدو-في رأيه- ما يراه ميلاً للنص نحو السيرية سبباً في عدم احتفاظ الراوي باسم علم أو كنية(8),  إن هذا الاستنتاج يفقد إمكانية صحته لأنه يستند على معطى سردي وآخر بيوجرافي, وهما في الأصل نتيجة وليسا سبباً, إذ إن ذات الخطاب حين قبلت المشاركة في لعبة الازدواج القيمي والدلالي, جبراً أو اختيارا أو الاثنين معا, لم يكن يمثِّل الاسم بالنسبة لها قيمةً تهتم بها, بقدر اهتمامها بتحـديد وضعها في اللعبة: الامتثال أو عدم الامتثال -وهو الأمر نفسـه الـذي عايشه أبطال محمد عبد الولي ومحمد مثنى, كما رأينا من قبل – وأمام ذلك الوضع لم يكن بمقدور الذات إلا محاولة التوفيق بين مقتضيات الرغبة الفردية ومقتضيات الضرورة التي يفرضها الواقع السائد, ولهذا السبب صارت ذات الخطاب فاعلة ومنفعلة في وقت واحد, بحيث لم يغير امتياز حصولها على وضع الذات الساردة من وضعها الدلالي شيئاً, ونقول أخيراً إن هذا الوضع المزدوج للفاعلين الأساسيين في الرواية (الراوي بوجه خاص) كان وراء ظهور بنية سردية شبه متسقة (سرد خطي) يوحي مظهرها العام بالانسجام والتناسق, بينما تميل على مستوى الوحدات الصغرى إلى التحرر عبر الاهتمام اللافت بالحوار والوصف الدقيق للأشياء وتناوب الصيغ, والرواية من هذه الناحية تختلف اختلافاً كبيراً عن روايات محمد عبد الولي ومحمد مثنى, حيث لامبالاة الأبطال وتمردهم كانا وراء ظهور بنى سردية متخلخلة إلى حد ما.

3- لهجات جماعية وخطابات/تناص :
                   تتفاعل رواية الرهينة مع لهجة جماعية تخص الجماعة المهيمنة على السلطة,وتواجهها بازدواجية مماثلة عبر لهجة مزدوجة ومتناقضة يجسدها الراوي (الرهينة) الذي وقع في الوقت نفسه ضحيةً لازدواج اللهجة الأولى والوضع السوسيولغوي المزدوج, وهو في ذلك يتصرف كفرد يعيش حالة من التناقض والازدواج, حيث يعمل من جهة على رفض الخطاب الأيديولوجي المهيمن عبر التأكيد على القيم الفردية المناقضة لهذه الأيديولوجيا, ومن جهة ثانية يحاول الاستفادة من الإمكانات المادية والمكانة الاجتماعية التي قد يوفرها له اندماجه في الخطاب الأيديولوجي للسلطة أوالتطابق الظاهر مع شفرته الدلالية المعلنة, غير أنه حين يكون المبرر لهذا الأندماج مادياً بحتاً أويكون الأندماج ذاته مفروضاً أوناتجاً عن حاجة ملحة من دون وجود للتطابق القيمي, فإن الفرد – كما هي حال الرهينة – يجد نفسه في وضع شديد التناقض, فهو من جهة يرغب في التطابق مع الخطاب المهيمن, ومن جهة ثانية لا يقبل كثيراً من التعارضات التي تفرضها اللهجة الجماعية لذلك الخطاب, لأنها تتناقض مع التعارضات القيمية والدلالية الخاصة باللهجة الجماعية التي يمثلها هو,وهذا هو الوضع الذي يجد الرهينة نفسه فيه.
      تتناص الرواية عبر خطاب الراوي مع اللهجة الجماعية للجماعة المهيمنة (السلطة), ونرى بعض المقومات الأيديولوجية لهذه اللهجة مجسدةً خطابياً في الملفوظات القليلة للنائب وشاعر الإمام, وبصورة أوضح في ملفوظات الشريفة حفصة, ونستطيع عن طريق المعطيات الإمبريقية لهذه الملفوظات أن نتبين لهجة جماعية غير إنسانية تتميز بنبرة استحواذية ونزوع برجماتي لتوظيف اللغة, إذ على الرغم من تظاهر جماعة السلطة بفرض بعض التعارضات القيمية والدلالية أحادية المعنى لتحمي بواسطتها نظامها القيمي, إلا أنها تؤسس خطابها الأيديولوجي على شفرة غير معلنة تسعى من خلالها إلى تحقيق مصالح مادية وسياسية تتعارض مع نظامها القيمي وخطابها المعلن, لذا نجد أننا بصدد خطاب مزدوج لا يكاد يختلف عن لغة السوق التي تحدثنا عنها في رواية (مدينة المياه المعلقة) لمحمد مثنى.

      يعمل الخطاب المزدوج لممثلي السلطة على تحويل الأفراد إلى أشياء أوأدوات تدخل في عداد الملكية (ما يملك) وهو بذلك يسلبهم حريتهم الفردية وصفاتهم الإنسانية التي تحقق استقلالهم, ويتضح هذا الفعل في شرح فقيه القلعة للمعنى الرسمي لوظيفة الدويدار التي تتطلب أن يكون الفرد مخصياً "أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقدا لرجولته..أي بمعنى آخر عاجزا" (ص 5), ونجد أن هذه الصفة للدويدار كثيراً ما تتكرر بسخرية على لسان النائب والشريفة حفصة عند مخاطبتهم للرهينة (أنت رهينة ودويدار حالي), وهم بهذا التكرار يؤكدون على عدم امتلاكه حرية الاختيار أوالفعل, ويتأكد هذا المعنى بطريقة ضمنية في أحاديث أصدقاء الرهينة, حين يستفسرهم عن طبيعة عمل الدويدار, فكلما سألهم عن ذلك يردون عليه بالقول: "ستعرف ذلك مستقبلا" وهم بذلك يتطابقون مع لهجة سادتهم دون أن يصرحوا. وإذا تمعنَّا أكثر في لهجة الجماعة المهيمنة في الرواية وعلاقتها بالوضع السوسيولغوي المعيش –حددنا معالمه من قبل-  نجد أنها تجمع في تجسيدها الخطابي بين تعارضات واختلافات تفصل بينها حدود واضحة,وتختزل طرفيها إلى ثنائية تجمع المصالح الفردية والأيديولوجيا (أيديولوجياالسلطة), وهي بذلك تخلق وضعاً مزدوجاً وتعمل على تفكيك التعارضات الدلالية التي تحاول فرضها على الآخرين بالقوة, فهي في الوقت الذي تدعي فيه حماية النظام القيمي (سياسي وأخلاقي) - نظام جمهوري في الواقع-  تؤكد بممارساتها الميل نحو قيم المجتمع الإقطاعي, لأنها تتيح لنفسها ما لا تتيحه للآخرين بحكم تصورها أنها صاحبة الحق في امتلاك السلطة المطلقة, وهو ما يتجلى في الرواية في أقوال الشريفة حفصة للرهينة, مثل: "أنت رهينة ودويدار حالي ووو خادم سيدي النائب"(ص139), وتضيف في بعض الأحيان -بقصد المقارنة- الإشارة إلى مكانتها الاجتماعية, وتريد بذلك أن يعرف الرهينة أن عليه الاستجابة والامتثال لكل ما تطلبه منه بوصفها صاحبة سلطة ينبغي عدم معارضتها, حتى لو تعلق الأمر برغبتها في امتلاك جسده, كما هي حال صديقه الدويدار (عبادي) مع نساء القصر الأخريات, أي أنه في هذه الحالة ليس أكثر من أي شيء آخر تمتلكه الشريفة وتسخره لمتعتها وإن تعارض ذلك مع قيمة الشرف التي يصر عليها الخطاب الرسمي, لذلك يجد الرهينة نفسه فاقداً لذاتيته, في وضع ملتبس تفقد فيه الاختلافات والتعارضات مصداقيتها أمام هيمنة الرغبة وقيمة التملك التي تعبر عنها ثنائية (الجنس والسلطة) والقوانين المفروضة بطريقة مناقضة للشفرة الدلالية المعلنة من قبل السلطة.  

    لا يمكن شرح إلحاح الشريفة حفصة على انتهاك النظام القيمي للجماعة التي تنتمي إليها -عن طريق إصرارها على الاحتفاظ بالرهينة لنفسها رغم إعلانه عن بلوغه الحلم- إلا في ضوء قيمة الاستحواذ وقيمة التبادل, فالشريفة تتصرف في ظل هيمنة قيم السوق, وتسعى مثل أفراد الجماعة المهيمنة إلى امتلاك كل ما هو نادر وفريد في نوعه لكي تتميز عن الآخرين, والنادر بالنسبة لها هو الرهينة لأنه يتميز بالشباب والحيوية والمواصفات الجسدية المرغوبة من قبل المرأة, وهو لذلك يلبي رغبتها في الاقتناء وليس الحاجة, لأنها بوضعها الاجتماعي تستطيع أن تجد ما تطلبه, فالقصر مليء بالرجال من كل شكل ولون, وهي لا تكف عن المغامرات الليلية التي تنتفي معها الحاجة إلى الإشباع الجنسي, وتظهر بوضوح هيمنةُ قيمة التملك لدى الشريفة من خلال مباهاتها بالرهينة أمام نساء القصر في مشهد زيارة قصر ولي العهد, وفي سؤالها للرهينة أكثرمن مرة عن العمر وتاريخ الميلاد والانتماء, بالطريقة نفسها التي يتم بها التأكد من قيمة-صلاحية- سلعة أوتحفة فنية يُرغب في اقتنائها, وهوما يثير دهشة الراوي (الرهينة) واستغرابه, "وبدا لي كأن السؤال عن العمر وتاريخ المولد شيء مهم في حياة أعيان هذا القصر وملحقاته.."(ص37), ويبدو هذا بوضوح أكثر في تنافس الشريفة مع النساء الأخريات حول الرهينة, وقولها: "حسدتموني عليه لجلوسه بجواري ولم أحسدكن عليه وهو في فراشكن كل ليلة"(ص98), وأيضا في قولها للرهينة: "أنت رهينة مهم! ودويدار خاص بي  قبل أن يستولي عليك النائب"(ص123), وفي هذا السياق يبرز موضوع الجنس كقيمة مرادفة لقيمة الاستحواذ لامبالية بالعواطف ولا بمصداقية الثقافة, لذا لا يتعارض الجمع بين الجنس والسلطة مع القيم الثقافية في خطابٍ فقد أنظمة التصديق الخاصة به, وهو ما لا يمكن قبوله إلا في ظل الوضع السوسيو لغوي لسبعينات وثمانينات القرن الماضي حيث صعدت إلى مراكز النفوذ قوى وجماعات لا تقيم وزناً للتعارضات القيمية والثقافية في ظل اهتمامها المطلق بقيمة التبادل وقيم السوق عامة, وتمسكها بالسلطة كقيمة وحيدة ومطلقة. ولا بد أن نشير هنا إلى أن النظر إلى موضوعة العلاقة الجنسية في (الرهينة) من منظور يتجاهل علاقة الرواية بالوضع السوسيولغوي ويغفل اللهجة الجماعية التي تستوعبها وتنتقدها, قد أدى ببعضهم إلى مطابقة الرواية مع الوضع السوسيوتاريخي  لنهاية الأربعينات, انطلاقاً من دلالة  العنوان وبعض الإشارات الحدثية لثورة 1948م,

وقد أدت هذه المطابقة إلى الحكم بعدم تعبير الرهينة عن المضمون الاجتماعي والتاريخي لتلك المرحلة, وترتب عن ذلك أيضاً الحـكم بعـدم خبرة الـروائي بالقصر الملكي وبالشارع الشعبي معاً(9), ومن الواضح أن مثل هذه القراءة تتعامل مع الرواية بوصفها وثيقة اجتماعية وتاريخية من دون النظر إلى البنى السردية والدلالية, ونتيجة لذلك أدركت عدم تعبير الرواية عن الواقع الاجتماعي والتأريخي الذي تضمنت الإشارة إليه لكنها لم تستطع تعليل ذلك ولم تستوعبه, لأنها اتبعت مدخلاً غير ملائماً لمعرفة علاقة النص بسياقه الاجتماعي وذهبت للبحث عن علاقة للنص مع واقع يشير إليه على مستوى التخييل وأهملت الواقع الذي أنتج فيه. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن القراءة التي استنتجت أن الشريفة حفصة رمز للانعتاق, عبر وصفها على هذا النحو "من هي هذه المرأة التي تتحدث عن التاريخ بمثل هذه الثقة؟ المرأة التي تنتظر الانقاذ وترفض الحرب[...] إنها رمز الانعتاق, التعبير عن الرغبة إلى الخروج من الأسر العام."(10), إن حديث الشريفة عن التأريخ – لم يكن ذلك إلا إشارة إلى كتب التاريخ بجملة واحدة- ورغبتها في الهرب من حياة القصر,لا يمكن تفسيرهما إلا من خلال اللهجة الجماعية للجماعة المهيمنة التي تنتمي إليها الشريفة, إذ إن من خصوصيات هذه اللهجة أنها تتجسد في خطاب يستند على أنظمة تصديق ذات مرجعيات تأريخية ودينية واخلاقية, تبرر من خلاله الجماعة المهيمنة عملية احتكارها للسلطة, غير أنها- في الوقت نفسه- لا تبدي أي التزام أيديولوجي بما تعلنه, بل تعمل وفق شفرة دلالية غير معلنة تمارس بواسطتها ازدواجاً قيمياً ودلالياً قد يشعر تجاهه بعض أفراد هذه الجماعة بعدم الرضأ, كما هي حال الشريفة في حديثها مع الرهينة في المقطع الأخير من الرواية.                

       بالعودة إلى اللهجة الجماعية التي تستوعبها الرواية نجد أن الراوي (الرهينة) يكتشف التباس وازدواجية اللهجة الجماعية الخاصة بسادة القصر, فيرفض أن يتطابق مع التعارضات الدلالية (سيد/خادم)و(مالك/مملوك) التي تحاول فرضها على الجماعات الأخرى بالقوة, إذ يرى أن الامتثال لهذه التعارضات أوالتطابق معها لن يجعل منه أكثر من مجرد سلعة ذات مدة صلاحية محدودة, كما هي حال صديقه الدويدار(عبادي) الذي تم استهلاكه ثم رمي وحيداً يعاني آلام مرضه, لقد أدرك الراوي مبكراً النتيجة الحتمية للامتثال للثقافة السائدة, كما أدرك وجوده في واقع مزدوج يسلبه حريته وقدرته على رفض الامتثال أومقاومته, لذا أخذ يتصرف بازدواجية مماثلة للازدواجية التي تسم الخطاب الرسمي, لكي يخلق نوعاًمن التوافق بين متطلباته الفردية وواقعه المزدوج, ونلاحظ أن ازدواجية الرهينة (الراوي) كانت العامل الرئيس وراء عدم قدرة الشريفة والنائب على إدانته عما ارتكبه في قصر ولي العهد, وعلى محاولته الهرب أكثر من مرة, ولأنهما لم يستطيعا -بسبب ازدواجهما- وضع ترابط سببي بين مسؤوليته ولغته فقد زاد تعلق الشريفة به, وأشفق عليه النائب فوضعه في مجلسه, وتبعاً لتصريحه أمامهما أكثر من مرة بالقول: "فقد بلغت الحلم [...] وأعراض ذلك واضحة على جسمي" (ص111), كان ينبغي أن يخصى أوأن تتم إعادته إلى القلعة واستبداله بآخر لم يبلغ الحلم حسب العرف السائد , إلا أنهما لم يعيرا كلامه أي اهتمام بسبب وضعهما المزدوج الذي يضع الأولوية للرغبة والمصالح الخاصة فحسب, وإذا كانت ازدواجية الرهينة قد حققت له بعض النجاح, من جهة أشعره بتميُّزعن الأفراد الآخرين (البورزان والدويدار) ومكنه لأول مرة من معرفة معلومات سياسية سرية لا يسمح لأحد بمعرفتها, ومن جهة أخرى صار أكيدا لديه اهتمام الشريفة حفصة به, غير أن هذا النجاح المؤقت لم يحرره من وضع الدويدار, ولم يحقق رغبته بالعودة إلى القلعة, كما أن مواجهة الازدواج بازدواج مماثل جعل الراوي غير قدر على فهم المواقف والأحداث التي تحيط به, كموقف النائب من الأحداث السياسية المستجدة, وظهر صديقه الدويدار –الامتثالي- أكثر دراية منه "النائب ملكي أكثر من الملك"(ص137), وبفعل الازدواج أيضاً صار الرهينة غير قادر على التمييز بين القيم والدلالات المختلفة, إذ لم يكن يعرف ما الذي يريده بالضبط من علاقته بالشريفة حفصة, فكلمة الحب التي سمعها منها في آخر الرواية لم تعد إلا "مجرد كلام "(ص151)

بينما كان من قبل يتلهف لسماعها مقابل أي ثمن, لأنها كانت ذات معنى واضح بالنسبة له, أي أن ازدواجيته وازدواجية الآخرين جعلته يشكك في أي معنى ممكن, فحين تنطق الشريفة حفصة بكلمة الحب تصبح هذه الكلمة في نظره مشكوكاً فيها مثل كثير من التعارضات القيمية والدلالية التي فقدت معانيها في وضع سوسيولغوي تحكمه الازدواجية واللامبالاة, وفي هذا السياق فقط يمكن شرح لامبالاة الراوي تجاه موت صديقه الدويدار, وهي لامبالاة لم يكن يتوقعها أبداً "كنت من قبل أتوقع أن أصاب بالجنون إذا ما مات صاحبي..لكني تقبلت الأمر الواقع بانفعالات صامتة وهادئة"(ص143). إذن, نلاحظ أن الازدواجية واللامبالاة القيمية والدلالية لم تعد سمة مقصورة على خطاب السلطة (الجماعة المهيمنة), بل امتدت إلى خطاب الراوي وأصبحت سمة عامة للمجتمع ككل, نرى مثلاً في مشهد جنازة الدويدار كيف تمتزج تراتيل الموت بأهازيج اللهو وزامل العسكر, وكيف يتحدث الراوي عن لامبالاة الآخرين بالموت إلى حد أن أحداً لم يعد يبحث عن أجر المشاركة في حمل الجنازة, وعلى الرغم من قولنا إن الازدواجية صارت سمة عامة للمجتمع في الرواية فإننا نميز بين ازدواجيتين نشأت عنهما البنية الدلالية والسردية للرواية: ازدواجية خطاب الجماعة المهيمنة, وازدواجية خطاب الراوي (الرهينة), فالخطاب الأول رغم ازدواجيته ظل يحتفظ ببنية أيديولوجية ينظر من خلالها إلى بعض الثنائيات والتعارضات على أنها طبيعية ومطلقة ويرفض التفكير في نشأتها التاريخية الخاصة وفي وظيفتها في وضع سوسيولغوي خاص, مثل تعارضات (الحاكم/المحكوم) و(السيد/الخادم) و(الخير/الشر) و(الحب/الكراهية). أما الخطاب الثاني فإنه يتبنى الازدواجية ليواجه بها الخطاب الأول وينتقده, غير أنه ينتهي إلى تبنِّيها كمنهج, فيتخلى تدريجياً عن المعنى (التعارضات الدلالية الخاصة به) عن طريق اللامبالاة والسخرية, لذا يمكننا القول إن رواية الرهينة تحاكي وتنتقد اللهجة الجماعية الخاصة بالجماعات المهيمنة بوصفها لهجة مزدوجة ومتناقضة, وتنتقد أيضا الازدواجية الفردية التي لم تستطع التوفيق بين نظامها القيمي وحاجاتها المادية.

الهوامش:
1-ينبني حديثنا هنا على مفهوم (بيير زيما) للنص والكيفية التي يتفاعل بها مع السياق الذي أنتج فيه, إذ يرى أن النص يستوعب اللهجات الجماعية والخطابات ويحولها ويتاثر بها, فيظهر المجتمع في النص كبنى لغوية (دلالية وسردية) وفي الوقت نفسه ينبغي النظر إلى السرد والدلالة بوصفها بنى لغوية واجتماعية معاً.للمزيد من المعلومات يمكن العودة إلى كتاب زيما- النقد الاجتماعي: نحو علم اجتماع للنص الأدبي.ترجمة, عائدة لطفي دار الفكر للدراسات , القاهرة 1991. 
2-حمود العودي. التراث الشعبي وعلاقته بالتنمية,دار العودة,بيروت, 1986, ص353.
3- محمد مثنى , ربيع الجبال, دار الهمداني ,عدن,1983.
4-كتاب الحكمة (3)اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين,1989, ص 203.
5-لاحظ أحد الباحثين أن الازدواجية تظهر بوضوح في أعمال زيد دماج القصصية.جونتر أورت,دراسات في القصة اليمنية القصيرة, مركز عبادي ,صنعاء,2004, ص59.
6- فانديك , علم النص مدخل متداخل الاختصاصات, ترجمة ,سعيد بحيري, دار القاهرة , القاهرة, 2005,ص364.
7-محمد عبد المطلب,بلاغة السرد , الهيئة العامة لقصور الثقافة, القاهرة,2001, ص53.
8-المرجع نفسه,ص55.
9- عبد الله البردوني ,الثقافة والثورة في اليمن,مطبعة الكاتب العربي , دمشق,1991, ص232.
10- عبد العزيز المقالح,دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن,المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر,بيروت,1999,ص25.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي