عودة الثقة
2020-07-11
د. بتول السيد مصطفى
د. بتول السيد مصطفى

خلص التقرير السنوي حول الأخبار الرقمية لمعهد "رويترز" لدراسة الصحافة التابع لجامعة أوكسفورد البريطانية؛ الصادر حديثاً في يونيو/حزيران الماضي إلى نتيجة لافتة مفادها عودة ثقة الجمهور بوسائل الإعلام التقليدية، وبشكل خاص التلفاز "القنوات التلفزيونية"، والاعتماد عليها كمصدر مهم ورئيس للأخبار، وذلك بالتزامن مع جائحة "كورونا"، وهذه النتيجة مُستخلصة من استبانة شملت ست دول حول العالم (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، ألمانيا، كوريا الجنوبية، اسبانيا، والأرجنتين)، علماً بأن تقرير المعهد نفسه للعام الماضي 2019 كان يشير إلى أن المؤسسات الإخبارية تواجه تحديات من شركات التكنولوجيا العملاقة ويُربكها غياب الثقة على مستوى جمهورها، فيما نوه تقرير العام 2018 إلى زيادة شعبية شبكات التواصل الاجتماعي مثل "الواتس آب" في مجال مشاركة واستهلاك الأخبار وأشار إلى نسبة محدودة للثقة بوسائل الإعلام، أما تقرير العام 2017 فقد أكد على أن الجمهور يُغير عادات المشاهدة بحثاً عن وسائل الإعلام الموثوقة.
ولعل الغرابة في نتائج التقرير الأخير مقارنة بتقارير السنوات الثلاث الماضية تكمن في قدرة الإعلام التقليدي أخيراً على منافسة الإعلام الجديد أو ما يُعرف تحديداً بمواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، إذ لطالما أبرزت نتائج الدراسات الإعلامية تفوقاً ملحوظاً للإعلام الجديد قبالة التقليدي، وذلك انطلاقاً من معطيات ومميزات عدة تُحسب في الغالب لصالح الأول، مثل سرعة الانتشار متخطياً الحواجز المكانية والزمانية وتحقيق السبق ومواكبة الأحداث والمستجدات أولاً بأول ومجانية الاستخدام والحرية شبه المُطلقة، ناهيك عن التفاعلية والتي تكاد تكون العنصر الأهم في العملية الاتصالية بين الجمهور المُرسل والمُستقبل على السواء، لاسيما في ظل تماهي الأدوار بينهما في عصر الثورة المعلوماتية.
ولكن على الرغم من ذلك، كانت المصداقية تمثل المحك الأبرز الفاصل بين الإعلام الجديد والتقليدي، حيث الغلبة في هذه الصفة عادة ما تكون لصالح الأخير، فالميزات سالفة الذكر قد تتمخض عنها في المقابل بعض السلبيات، والتي من أبرزها انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة/الزائفة أو ممارسة التضليل بشكل عام، وبالطبع فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى تعزيزها لـ "صحافة المواطن" والذي صار ينشر أحياناً بلا قيد أو شرط وبعيداً عن الالتزام الأخلاقي والمسؤولية المجتمعية، مُستغلاً الهوية الوهمية والتي تعطيه بدورها أماناً وهمياً، ما مهد الطريق أمام "أزمة ثقة"، بخلاف الإعلام التقليدي الذي لا يزال ملتزماً بسلسلة من القيود، فضلاً عن غربلة ما يُنشر من معلومات ومواد إعلامية عبر ما يُسمى بـ "حراس البوابة"، وهي نظرية إعلامية معروفة بموجبها يلتزم القائم بالاتصال بمجموعة من الضوابط والمعايير المهنية المرتبطة بالجمهور المستهدف وقيم المجتمع، وهذا طبعاً ينطبق على الإعلام المستقل بعيداً عن سطوة السلطة واحتكارها للمعلومة "الإعلام السلطوي".
وما عودة الجمهور إلى الإعلام التقليدي في زمن "الكورونا" وبعد سنوات من حالة شبيهة بالاحتضار والتقاط أنفسٍ أخيرة إثر بروز الإعلام الجديد، إلا برهاناً على إعادة ترتيب الأولويات لديه فيما يخص مصادر الحصول على المعلومات التي تتمتع بالمصداقية والثقة، وذلك في الغالب يأتي لكونها مُستقاة من مصادر رسمية أو جهات مختصة "حقائق"، وإن كان ذلك يتم بنسب متفاوتة، أخذاً في الاعتبار عوامل أخرى مُؤثرة، بعضها مرتبط بالوسيلة الإعلامية كسياستها، أجندتها، وما إذا كان لذلك علاقة بمصادر تمويلها، ناهيك عن التشريعات التي تعمل في ظلها ومساحة الحرية والبنية التحتية التقنية المُتاحة لها. وبعضها الآخر مرتبط بالجمهور نفسه كالمستوى التعليمي، الثقافي، الاجتماعي، والاقتصادي، فضلاً عن الخبرة المتراكمة وتأثيرات ذلك على قراراته وتعاطيه مع ما تبثه وسائل الإعلام عموماً، فالنُخب على سبيل المثال تختلف عن فئات الجمهور العادي أو العام.
وعليه، فإن طبيعة المعالجة الإعلامية للمعلومات التي تتدفق إلى الجمهور سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو التفاعلية الجديدة لها دور في تحديد آلية التعاطي معها، ولعل ذلك ما منح الغلبة للأولى في وقت أزمة صحية مفاجئة تشتد فيها الحاجة إلى معلومات مُؤكدة وموثوقة، بعيداً عن الاستمالات والإثارة العاطفية المرتكزة على التخويف والترهيب، ولو كانت بغرض الإقناع أو التحذير (تصريحات منظمة الصحة العالمية مثالاً)، حيث من الممكن أن يترتب على التعرض إليها آثار عكسية سلبية كنتاج لـ "تحصين" الجمهور.
في اليمن، البلد الذي لم يُعلن عن وصول "كورونا" إليه إلا في وقت متأخر عن العالم، ولا تزال البيانات الإحصائية فيه تقتضي المزيد من التثبت والتأكد والتدقيق، حيث للاستقطابات السياسية تأثير على المحتوى الإعلامي المُقدم إلى الجمهور، أصدر مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي في أبريل/نيسان الماضي دليلاً للتغطية الصحفية الجيدة لفيروس "كورونا" يضم توجيهات وإرشادات للصحافيين، ليكون بمثابة مرجع أخلاقي ومهني في مقابل موجة الشائعات والأخبار المضللة التي انتشرت ولا تزال عبر الإعلام الجديد ممثلاً في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. ويشتمل الدليل على عدة محاور قَيِّمَة ومهمة: مدخل مفاهيمي، التعامل مع المصادر واستقاء المعلومات، الكتابة المسؤولة لمحتوى القصص، أخلاقيات التعامل مع المصابين وتصويرهم، السلامة المهنية والأمن الرقمي، فضلاً عن استعراض نماذج تغطية إعلامية بغرض تصحيح مسارها. ولاشك في أن هذا الدليل نتاج جهد متميز ومطلوب في ظل تعاطٍ إعلامي غير حصيف مع أزمة صحية شرسة وغير مسبوقة تلقي بظلالها على شتى مناحي الحياة، ولذا يُنصح بالإطلاع عليه عبر الرابط الالكتروني:

https://bit.ly/38gvHxT.

 


*(باحثة إعلامية/البحرين)



مقالات أخرى للكاتب

  • باجمال .. وداعاً
  • بيروووووووووت
  • الشهادات والمهارات





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي