باجمال .. وداعاً
2020-09-08
د. بتول السيد مصطفى
د. بتول السيد مصطفى

"يُشكل الأستاذ عبد القادر باجمال حالة فريدة من حالات العصامية هجرة وتعليماً وثقافة وسلوكاً ونضالاً وقوة إرادة وشوكة أمل غير قابلة للانكسار، وخبرة ومساراً ككادر اقتصادي وكاتب صحافي وخبير تنموي ثم وزيراً ونائباً برلمانياً ونائباً لرئيس الوزراء فرئيساً للوزراء، وفي ذات الوقت نموذج نادر لفهم الواقع اليمني وإفرازاته، فأوتي خيراً كثيراً كَّون منه منظومة متكاملة من الفكر والسياسة والثقافة" ..
(الباحث اليمني لطفي نعمان)
أكتب اليوم عن رجل سياسة مخضرم بعيداً عن السياسة، الإنسان عبد القادر باجمال رئيس الوزراء اليمني الأسبق الذي رحل إلى رحمة الله ومغفرته الاثنين 7 سبتمبر/أيلول، وبالعادة لا أحب الكتابة عن موضوعات تحمل مشاعر خاصة، لكن في قلبي تجاه هذا الرجل موقفان لا أنساهما، جمعتني بباجمال محطات ولقاءات عدة في اليمن، وكنت حينها أزور هذا البلد الغالي مع وفود إعلامية رسمية من شتى الدول لتغطية بعض الفعاليات المهمة غالباً، الموقف الأول حينما طلبت لقاء صحافياً خاصاً للصحيفة التي كنت أعمل بها حينذاك وكنت حديثة التخرج وفي بدايات عملي الصحافي، وقيل حينها بأن كبار المسؤولين لا يلتقون غالباً ولاسيما عند ازدحام مواعيدهم بصحافي عادي أو مبتدئ وليس ذو صيت معروف، ولكن التحدي كان أن أطلب اللقاء وأعيد الطلب، حتى تمت تلبيته لأنني بتول البحرينية التي يُعرفونها بـ "عاشقة اليمن"، والمفاجأة أنه طلب اللقاء في منزله بصنعاء، استقبلني شخصياً بحفاوة بالغة رغم مرضه آنذاك، حيث كان مُتعرضاً إلى جلطة أثرت عليه كثيراً، كان يجيب على أسئلة اللقاء وكنت إضافة إلى الحرج يغمرني حزنٌ بمقدار فرحتي باللقاء، لقد كنت أمام رئيس وزراء بلد ما ولأول مرة، وتلك فرصة صحافية رائعة، ويعرف الصحافيون ما معنى أن تنفرد بلقاء صحافي خاص مع رئيس وزراء وتطرح عليه أسئلة هامة ومهمة، فما بالك إن كنت في بدايات مشوارك مع الصحافة.
مشاعر الحرج والحزن باغتتني لأن الرجل مريض وكان واضحاً عليه التعب، ورغم ذلك لم يُخيب مسعاي وأجرى اللقاء، ولم يكتفِ بذلك بل تجول معي في بعض أركان منزله ليُعرفني على الزوايا الخاصة في البيوت اليمنية وأهمها المجلس "المقيل" وغيرها. والموقف الآخر الذي لا يُنسى أيضاً حينما هَمَّ بأخذ كتاب له من مكتبته، وقد كان بعنوان "نحو ثقافة الحوار"، كتب أحدهم وأظن أنه من وزارة الإعلام أو أحد موظفيه، لا أتذكر بالضبط، كتب على أولى صفحاته (أهدي كتابي هذا إلى الأخت بتول السيد)، والسبب أن باجمال كانت يداه مُتعبتان إثر مرضه، ولم يكن يقوى على إمساك القلم أو الكتابة، واللافت حينها طلب باجمال التوقيع أسفل الإهداء، شرع في الإمساك بقلم الحبر الأسود وبدأ يحاول التوقيع، ويده ترتجف، وهو يُوقع ببطء وبحروف غير واضحة أو مفهومة، نجحت طوال الوقت في الصمود رغم تأثري الشديد بوضعه، ولكنه تلاشى في ختام اللقاء، فلقد أبكاني توقيعه! وسألت معاتبة من معنا قبل الخروج: لماذا فعل ذلك؟! ولِمَ سمحتم له؟ كنت أخشى أن يكون قد أُحرج أيضاً، في المحصلة، لم يكن مجرد توقيع، كان تقديراً لا يُنسى.
قبل حوالي سنتين، كنت في حديث مع أحد الزملاء من الإعلاميين اليمنيين وجاء اسم باجمال في ثنايه، فسبقت اسمه بالمرحوم، كنت أظنه قد توفي، فصحح لي المعلومة وبأنه لايزال مريضاً في إحدى الدول العربية، وقلت متفاجئة الحمد لله. مساء يوم الاثنين 7 سبتمبر وأنا أطالع حالات موقع "الوتساب" لإحدى الصديقات اليمنيات، وجدت خبر رحيله، صورته يعتليها شريط أسود، و"الفاتحة إلى روحه"، أرسلت لها بتعجب، ورحت أتيقن من الخبر في المجموعات الاخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، نعم، الخبر صادق، رحل باجمال، حزنت كثيراً، رحت إلى الذكريات في ألبومات صوري الخاصة برحلات اليمن، نبشت فيها عن صور لقاءات جمعتنا، طالعتها، ومددت يدي إلى مكتبتي لأخرج كتابه وأطالع توقيعه مجدداً، ليبكيني مجدداً، ولكن هذه المرة لخبر رحيله. لم أكتب مقالات منذ مدة، فتحت جهازي المحمول، وكتبت العنوان، ثم بقية القصة "باجمال وداعاً".
لست أنعى باجمال سياسياً فقد ابتعد عنها منذ زمن بسبب المرض ورحل عن اليمن، وفي ذلك مجال للخلاف والاختلاف. كان باجمال إنساناً متواضعاً، وهذه سمة غالبية إن لم يكن جميع كبار المسؤولين في اليمن من أعلى الهرم إلى أدناه، وهذه ميزة لا أنساها مُطلقاً. أعزه كثيراً، كما كنت أعز رئيس مجلس الشورى عبد العزيز عبد الغني، ولأنني لم أكتب عن رحيله قبل سنوات رغم أنني لا أنسى ذكرى يوم رحيله سنوياً، أعيد هنا ذكراه وفي مناسبة أخرى أليمة، فكلاهما زملاء درب وحزب وسياسة، العزيزان عبد العزيز وباجمال وداعاً.

*كاتبة وباحثة إعلامية بحرينية

 



مقالات أخرى للكاتب

  • بيروووووووووت
  • الشهادات والمهارات
  • عودة الثقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي