الشهادات والمهارات
2020-07-21
د. بتول السيد مصطفى
د. بتول السيد مصطفى

وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي أمراً تنفيذياً بتوجيه تعليمات لفروع الحكومة الفيدرالية، بالتركيز على المهارات بدلاً من الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين. وفي السياق ذاته، أكدت الرئيس الشريك في المجلس الاستشاري لسياسة القوى العاملة الأمريكية ومستشار الرئيس إيفانكا ترامب العزم على "تحديث التوظيف الفيدرالي، للعثور على مرشحين يتمتعون بالكفاءات والمعرفة ذات الصلة، بدلاً من مجرد التوظيف بناء على الشهادة". وأضافت في تصريحات إعلامية لها "نحن نشجع أصحاب العمل في كل مكان لمراجعة ممارسات التوظيف لديهم، والتفكير النقدي في كيفية دعم المبادرات الخاصة بتنويع وتعزيز القوى العاملة".
وبحسب التحليلات، فإن التوجه الأمريكي الرسمي يُشجع على إعطاء الأولوية لمهارات الوظيفة، ما يجعل الدرجة العلمية أو الشهادة أقل أهمية. وكانت شركات مثلIBM قد شرعت منذ العام الماضي 2019 في تعيين 15 بالمائة من قواها العاملة على أساس المهارات. وفي العام نفسه، أكد موقع "لينكد إن" إن هناك خمس مهارات "ناعمة" أو شخصية تُعد الأكثر أهمية للحصول على الوظائف، وهي: إدارة الوقت، الاعتمادية، التعاون والتنسيق، الإقناع، والروح الخلاقة. كما أن مجموعة من الشركات الكبرى مثل "جوجل" و"آبل" و"هيلتون" بحسب ما نُشر عنها في العام 2018 لا تشترط شهادة جامعية للتوظيف، بقدر ما تهتم بالموهبة والمهارة والالتزام بأخلاقيات العمل للوظائف العصرية، وتحديدًا تلك التي تندرج تحت مجالات الهندسة الإلكترونية والبرمجة. ويجدر بالذكر أيضاً هنا أن شركة "جوجل" أمضت سنوات عديدة في تحليل سبب نجاح موظفيها، وكانت النتيجة/المفاجأة أن التحصيل العلمي لا علاقة له بالنجاح في بيئة العمل.
إلى ذلك، فإن تلك الفكرة أثارت بعض الجدل، وهو بالمناسبة جدلٌ متجدد، ما بين أمرين مترابطين بشكل وثيق، المهارات والشهادات، وأيهما يُفترض منحه الأولوية في عملية التوظيف، وإن كان من الأجدى بقاءهما في خط متوازٍ، نظراً لأن كلاهما يُكمل ويصقل الآخر، وهذا في الوضع المثالي بالطبع. أما خلاف ذلك، فالأمر يقتضي تحديداً وتدقيقاً، لاسيما وإن كان أحدهما مفقود، الشهادة أو المهارة. وواقع التجارب العملية غالباً وفي العديد من الوظائف يقول أنهما لابد وأن يكونا متلازمين، وإن غياب أحدهما مؤثرٌ بدرجة أو بأخرى، حتى ولو لم تكن نتائج ذلك الغياب جلية أو ظاهرة في الحاضر، حيث ستبقى مُعلقة وتبرز تأثيراتها على المدى البعيد.
وإن تفاوت ذلك بين بيئة عمل أجنبية تقُدر كفاءات على نحو مغاير لما هو حاصل في المنطقة العربية عموماً، يقول "د. فيكتور شيا" أحد خبراء جودة التعليم في كوريا الجنوبية "لا توجد دولة تتحمل إنتاج جيل كامل من دون تعليم جيد، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخلياً لتتفتت وتفقد وجودها، الشرق الأوسط أهمل التعليم، والآن يدفع الثمن".
وبغض النظر عن التوافق مع هذا القول من عدمه لا ضير من المطالبة المستمرة بإصلاح النظام التعليمي وتطوير إستراتيجيات التعليم العالي بشكل خاص، وذلك بغية إنتاج عقولٍ تُفكر وتُبدع وتتميز في مجال تخصصاتها بدل أن تُلَقَن وتَحفظ فحسب، لتصطدم لاحقاً بواقع لا يلائمها أو تعجز عن الانخراط فيه. كما لا ينبغي في هذا الصدد التقليل من شأن التعليم والمهارة معاً، وقد يكون مناسباً هنا التذكير بمدى الاستنكار والاستفزاز الذي يُحيط بالمقولة المُتعارف عليها حول بعض المهن بأنها "مهنة من لا مهنة له"، حيث يُكتفى بمهارة أو موهبة أو حتى مجرد ميلٍ أو خبرة أو معرفة عامة بعمل معين من دون دراسته دراسة أكاديمية، (مهنة الصحافة مثالاً)! غير أن الجمهور الواعي أو أبناء المهنة نفسها من المتعلمين يُدركون الفرق غالباً، فدلالات عدة تؤشر إلى ماهية "الدخيل".

وإن كانت للشهادات أوجاعٌ أخرى لا يمكن إغفالها في هذا المجال، وذلك من ناحية التكسب فيها عبر جامعات وهمية شبيهة بـ "الدكاكين" في دول عربية وغربية، وهذا الأمر لم يعد سراً كما كان، حيث جارٍ تتبعها وفضحها علناً (حساب د. موافق فواز الرويلي @Muwafig على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" مثالاً)، إذ يكاد يكون متخصصاً في هذه المهمة على نطاق واسع داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.
وفي مملكة البحرين، ثمة ثغرة في هذا الجانب، حيث لا يُشترط تصديق/معادلة الشهادات والمؤهلات العلمية لأعضاء هيئة التدريس الأجانب للتحقق من سلامتها من أجل التوظيف في مؤسسات التعليم العالي الخاصة، وإن كانت من جامعات غير مُوصى بها محلياً، تحت تبرير "عامل الخبرة"، وذلك على عكس ما هو مطلوب بالنسبة إلى الأكاديميين البحرينيين.
وفي دولة الكويت مثالٌ آخر ذو صلة، فمع انتشار ظاهرة "الفاشينستات" ومشاهير الإعلام الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، بدأت شكوى المجتمع من انصراف جُملة من الفتية والفتيات عن إكمال التعليم، متساءلين عن جدوى الشهادات العلمية في مقابل ما يمكن أن يجنوه من "ثروة" بمجرد موهبة أو مهارة في الدعاية والإعلان تصنع منهم "نجوماً" في ليلة وضحاها، ما يعني إحداث تحول في تفكير الأجيال القادمة يُلقي بهم على قارعة طريق طويل من التذمر والتخبط والإحباط، علماً بأنه ووفقاً للأنباء والمعلومات التي تسربت/انتشرت حديثاً فإن أكثر من نصف المشاهير متورطون في عمليات مشبوهة كغسيل الأموال (يقول الكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك: وراء كل ثروة عظيمة جريمة كبيرة).
أخيراً .. ثمة مقولة مُتداولة: "كل إنسان لديه موهبة، ولكن إن حكمت على السمكة بالفشل لعدم قدرتها على تسلق شجرة، فقد قتلت موهبة السباحة لديها".. إذاً، فالنجاح يُحالفك في بعض الأحيان نظراً لامتلاكك شهادة، وأحياناً أخرى لامتلاكك مهارة، لا يهم إن كان لذلك علاقة بما يسمونها "ضربة حظ" أو "صدفة استثنائية"، فثمة عمالقة في عالم المال والأعمال الأمريكي، أمثال "بيل غيتس" مؤسس شركة مايكروسوفت و"ستيف جوبز" مؤسس شركة آبل و"مارك زوكربيرغ" مؤسس موقع الفيسبوك لم يتخرجوا من أي جامعة، ورغم ذلك حققوا نجاحات لا مثيل لها، وتركوا بصمات واضحة كلاً في مجاله!

 

*باحثة إعلامية/البحرين



مقالات أخرى للكاتب

  • باجمال .. وداعاً
  • بيروووووووووت
  • عودة الثقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي