رسائل حب ملغمة
2020-07-06
 بروين حبيب
بروين حبيب

لم أعرف التمييز بين رسائل الحب الحقيقية والمزيفة، إلا من خلال الأدب. فالحب في الواقع أكثر مادة قابلة للتزييف في عالمنا البشري. تذكروا أن الحيوان مقنع في محبته للإنسان، أكثر من الإنسان نفسه، لكن من يرفض الكلمة الجميلة حين يكون الشخص بحاجة إليها مثل حاجته للرغيف؟ لقد استُخدِم الحب فخا لاصطياد أحدهم، كما استخدم سلاحا قاتلا للانتقام، واعتبره كثيرون في مجتمعنا مادة أخطر من السجائر والكحول والمخدرات، واقتناء الأسلحة وبيع الجنس. شخصيا، كثيرا ما تساءلت ما الهدف من ارتداء قناع الحب، والتقرب من شخص آخر من أجل استغلاله؟ فخراب العاطفة قد تكون عواقبه وخيمة فوق كل التصورات الممكنة.

ينصحنا أندرس إريكسون عالم النفس السويدي أن نتوخى الحذر قبل تحرير عواطفنا والتعبير عن حبنا لأحدهم، بل يذهب بعيدا في تحذيره ذاك، حين يربط بين الحب المزيف والكراهية المدمرة، قبل أن يفتح أعيننا على مُرَكبات الحب على اختلافها، التي غالبا ما نتعامل معها كجُزَيْئات من مشاعرنا المغلوطة، فلا نفرق بينها وبين الحب المكتمل الناضج. يسلط التحليل النفسي الكثير من الضوء على هذا الموضوع المعقد، لكنه يظل بعيدا عن اهتمامات الناس، إلا إذا وقعوا ضحايا نصب عاطفي، أو ضحايا أنفسهم، بعد أن تعذرت عليهم رؤية الحقيقة، كما هي في حينها.

إن الغيرة والحماية المفرطة، أو الشعور بالتملك، والملاحقة ليست سوى أجزاء صغيرة من الحب، وهي في الغالب حين تطغى على سلوك الشخص، فهذا يعني أن ثمة خللا يجب معالجته. لا أذكر أن أحدهم شرح لي هذه الأمور بهذه التفصيلات، لكنني أذكر الروايات التي فتحت عيني على مشاعر الكبار الملغمة. وأذكر في ما أذكر أنني كتبت رسائل حب لصديقة، كنت وسيطا جيدا بينها وبين حبيبها، لكنني بالإطلاع على رسائله لها شعرت بأن الرجل لم يكن صادقا، وقد جعلني ذلك الإحساس أشعر بثقل المهمة التي أوكلت إليّ. كنت أصغرها بعدة سنوات، ومع هذا كانت حاستي السادسة متقدة ويقظة، فقد كنت أتوقف عند كلمات معينة، فيقشعر بدني، إنها لا تدل على الحب، ولكن على شيء آخر غير سوي. كان ذلك الإحساس وإن نبع من ردة فعل طبيعية لمراهقة حذرة، إلا أن ما صقله هو النصوص التي كنت أقرأها، بدءا بنجيب محفوظ، ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، إلى عمالقة الأدب العربي في تلك الحقبة، الذين اجتهدوا في تشريح المجتمع العربي لإبراز عقده.

  هذه الرسائل الثمينة ليست سوى مرآة عكس الوجه الآخر لنموذج لا نعرفه في عالمنا العربي، مع أنني متأكدة أنه موجود

في مجتمع محافظ ومغلق، كان الأدب ولا يزال عيننا الحقيقية على الحياة العميقة، كونه كان محفوظا في صمت الكتب، وبالطبع تعالت أصوات كثيرة لمحاربة صوت الحقيقة المنبعث من داخلها، إلا أن الدراما أخرجت أسرار الكتب للعلن.. ولا أدري إن كانت تلك المرحلة جيدة لمجتمعنا المرعوب دوما من الحب وتوابعه، أم لا، فقد أدت إلى تسارع تطورنا، مثل ثمار الخِيم، والقطعان المحقونة بالهرمونات لتسريع تسويق لحمها، لم نفهم الحب جيدا، من خلال ما قدم لنا من نتاج مصري آنذاك.

تورط جيلنا في علاقات ملغومة، وأحب النماذج المشوهة لقصص الحب الفاشلة، وتعلم طرق الاحتيال العاطفي، وصدق مقولات التشكيك في التغير نحو الأفضل، فقد قُدمت المرأة في أغلب الأعمال الدرامية العربية، ضحية لعواطفها، وقُدم الرجل في صورة «الذئب» المخادع. قلة هم الأبطال الذين رسخوا في ذاكرتنا الجماعية بمعطيات إيجابية.

والمثير حقا هو أن تلك الشخصيات المخادعة، حازت اهتمام فئة أوسع من المتابعين، ولعل ذلك راجع لرسائل الحب الملغمة، التي كانت تُمَرر لنا عبر وجوه أحببناها لوسامتها وقدرتها على التمثيل. ألم يكن الفنان محمود مرسي، رحمه الله، آسرا في دور سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ؟ ألم تكن الثلاثية قصة تروي ما تخفيه أغلب البيوت العربية، إلى أن جاء دور الدراما التلفزيونية لتضع في تصوراتنا ملامح الرجل الجميل، ذي العينين الملونتين وهو في قمة سحره كمصيدة ذكية لقلوب المراهقات، اللواتي ترسخت لديهن صورة فارس الأحلام الوسيم، القاسي، ذي الشخصية القوية، المحترم من طرف الجميع، الذي يخفي وجهه الآخر لمغامرات الليل.

إن إعادة قراءة نجيب محفوظ، وكتاب جيله اليوم مطلب ملح، لمناقشة نصوصهم وطرح أفكارهم، مقارنة مع تطورات واقعنا المعاش، ومع قراءات أخرى لآداب ما بعد تلك المرحلة، وآداب من خارج بيئتنا. لقد عمد ذلك الأدب إلى تكريس أخطائنا وإخفاقاتنا بالتأكيد، وكان أي إخلال بذلك التوازن الوهمي، الذي عشناه آنذاك يُجَابَه من جهةٍ ما بكاتم صوت، لذلك لم نستفد كثيرا من تفادي البشاعات، التي نقلها لنا بصيغة الأدب، لم نكن مهيئين ربما.

وآمل أن أكون مخطئة، كوني انتمي لجيل لديه الكثير من الشكوك تجاه رسائل الحب، والكثير من العقد والريبة تجاه اعترافات الحب، إذ يتبادر إلى أذهاننا أنها قد تكون نهايتنا، أو نهاية من يعترف لنا بمكنونات قلبه. إنها آثار الذين عبّدوا تلك الطريق بشكل خاطئ، وتفننوا في جعله فأل شؤم بدل أن يكون العكس.

قال الكاتب فرناندو بيسوا ذات يوم: «رسائل الحب إذا كان حبا، يجب أن تكون سخيفة»، وأعتقد أن سيمون دي بوفوار اتفقت معه في هذا المفهوم، حين قالت إن الحب الحقيقي يجعلنا نتصرف بسخافة، لكن ماذا نسمي الحب الوقور الذي يرتدي عباءة الرهبنة؟ حب سي السيد لأم العيال، حب اللا لغة، أو الصيغ الكلامية المحترمة؟ في أي خانة نضعه؟ وهو المطلوب دوما في قواميسنا الاجتماعية المتفق عليها؟ هل يمكن الاستغناء عن اللغة في الحب؟ هل يمكن تعويض الحب بالهدايا المادية، أو بمبالغ نقدية؟ وماذا لو كان الحب لا يقدر بثمن؟ هل تذكرون فيلم «اقتراح غير لائق» لروبرت ريدفورد، المأخوذ عن قصة بالعنوان نفسه للكاتب جاك إنغلهارد؟ هل تذكرون تلك الصفقة الغريبة التي وضعت الحب في كفة، والمال في كفة؟ تلك كانت من أروع رسائل الحب للتعامل معه خارج المقامرة النقدية.

في رسائل كتبتها جورج صاند لألفرد دي موسيه، تستأذنه بتهذيب لا مثيل له «أحتفظ بذكرى قبلتك في تلك الليلة، وبودي أن أخبرك أني جاهزة لأمنحك عواطفي، وأكشف لك روحي العارية، بدون أي حيل، تعال وزرني لنتحدث كأصدقاء بصراحة، سأثبت لك أني المرأة التي تستحق الحب، أنا جادة، لست لعوبا، ولا مزيفة».

الشاعر الرقيق الذي مات قبل بلوغه الخمسين، كتب بأناقة لصاند، على الأقل كانت رسائله غير ملغمة، أو هذا ما أراد أخوه أن يثبّته في كتاب رد فيه عليها، إذ يبدو أن صاند كانت تتقـــــن فن المــــراوغة بقلمها، وتعرف كيف تستعمل الكلمات لاقتناص فرصها مع الرجال، وقلما نجد هذا النموذج متكررا في تاريخ الأدب والأدباء.

هذه الرسائل الثمينة ليست سوى مرآة عكس الوجه الآخر لنموذج لا نعرفه في عالمنا العربي، مع أنني متأكدة أنه موجود.

في كتاب ممتع وخفيف بعنوان «الحب في التاريخ» لسلامة موسى، نجد قصصا من هذا النوع، ولا بأس من اقتنائه والاستمتاع به في غياب متع أخرى في هذا الزمن الكوروني، أراهن على أن أغلب الكتاب الذين أبدعوا في كتابتهم عن الحب، كانوا إما ضحايا، أو أصحاب مؤامرات ذكية لاختلاق الحب، حتى يبقوا على قيد الكتابة.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي