مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
2021-08-09
 بروين حبيب
بروين حبيب

بمجرّد أن رأى المقال طويلا أعرض عن قراءته، بحث عن مقالات أقصر، وراح يقرأ من كل مقالة جزءا صغيرا، أملا في أن يجد ما يحمسه ليتمّ القراءة.

تخيفه النصوص الطويلة، وحتى الرسائل الصوتية التي تصله على هاتفه، تثير أعصابه إذا ما تجاوزت دقيقة. يطلب من أصدقائه بشكل متواصل أن يختصروا، كتب «بوست» لتنبيههم لذلك «مختصر مفيد يا جماعة».

يدعي دائما أن الحجم المثالي لمقال في جريدة أو موقع على الويب، يجب أن لا يتجاوز ثلاثمئة كلمة. وهذا ما يفتح باب الجدال مع أصدقائه ومعارفه، دون الاستقرار على حقيقة علمية تثبت كلامه أو تدحضه. يعتقد أن سباقه مع الزمن أصبح مرتبطا بحجم ما ينجزه. وإن كانت القراءة مع التغيرات الجديدة للعصر قد أصبحت فعلا غير منتج، فيجب تغيير طرق ممارستها.

كأن يصبح حجم المقال أقلّ، وكم المعلومات فيه مكثّفا أكثر، ومضغوطا بطريقة ذكية. نظريته المقنعة للغالبية السّاحقة، التي يمكن اعتبارها كائنات مستعجلة بامتياز، تصطدم بحقيقة لا يفهمها جيدا، إذ يبدو أن المحرّك غوغل يقيس أهمية المقالات من خلال عدد كلماتها، فغالبية المقالات التي احتلت المرتبة الأولى خلال عمليات البحث كانت تفوق الـ2000 كلمة.

مبدئيا إذا كان الأمر متعلقا فقط بعدد الكلمات فيمكن الاحتيال على غوغل، ونشر مقالات كبيرة الحجم، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. محركات البحث يتم تطويرها يوميا، وهي مجهزة لتحديد نسبة المقروئية على المدى الطويل. نعم، قد لن يحقق المقال الطويل المرتبة الأولى بين عشية وضحاها، لكنه على المدى الطويل يتربّع على عرش المواد الأكثر قراءة، لأن مكانته يحتلها وفق محتواه، ووفق مرجعيته كمحتوى موثوق فيه.

إنها عملية طويلة من الصبر، تؤتي ثمارها في النهاية، حسب إحدى الدراسات التي نشرت مؤخرا.

منذ سنتين أطلق موقع «ريدينغ لانغ» الذي يمنح للقارئ الفترة الزمنية اللازمة لقراءة أي كتاب. وقد تبين أن ثلث القراء يتخلون عن كتب يرغبون في قراءتها بسبب طول مدة قراءتها. فأيهما أثمن قراءة كتاب يهمنا؟ أم استغراق وقت أقل لقراءته؟ يضعنا هذا الموقع أمام حقيقة أخرى، وهي أن القراءة أصبحت من كماليات العصر، التي قد يستغني عنها الإنسان.

لكن لنكن عادلين، حين نتحدث عن تقليص زمن القراءة، إننا لا نتحدّث هنا عن لغة التسويق الرقمي، وهي لغة كثيفة، رصينة، تدخل في جوهر المطلوب مباشرة، وبعيدة تماما عن لغة الأدب.

إذن يجب عدم الخلط بين قراءة الأدب، وقراءة كتب متنوعة في اختصاصات أخرى، كما يجب عدم الخلط بين قراءة مقالاتنا المفضلة يوميا لكتّاب وأدباء ومحللين سياسيين واقتصاديين، وآخرين من ذوي الاختصاص، ومقالات موجزة دخلت في إطار مواكبة الشريحة الأكبر من مستخدمي الإنترنت، التي تعتمد «الكتابة القصيرة» لأنها في الغالب تحمل «وعودا» وهي تتفادى الإسهاب، الذي قد يأتي بنتائج عكسية، وتسهِّل الوصول إلى المعلومة.

كثيرة هي المواقع التي تنشر مقالا، وتضع أمامه مدة قراءته، وعادة ما تكون الدقائق القليلة أكثر تشجيعا للقارئ، وكلما زادت تلك المدة قلّ حماسه. يربطنا هذا الأمر مباشرة بالسلع الرخيصة، التي قد تكون جيدة بنسبة ضئيلة جدا، إذ قلّما نصادف سلعا رخيصة ذات جودة عالية في الآن نفسه، كما يذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، فيصف قارئ الويب بالكسول.

سنة 2017 ضاعف تويتر عدد الأحرف المسموح بها للتغريدة من 140 إلى 280 حرفا، كما سمح تطبيق أنستغرام بإطالة النصوص التوضيحية المرفقة بالصور، مع أنه صاغ كل سمعته على الصورة، إذ أصبح بالإمكان استخدام ما قد يصل لحوالي 400 كلمة.

السؤال لماذا هذا الاتجاه؟

في عالم الكلمة ننسى الخوارزميات التي يستعملها نظام الويب لتحسين محرّكات البحث، ورصد الوقت الذي يقضيه الشخص في القراءة والتفاعل مع المحتوى المنشور، ويبدو أن كل إضافة تُحسب مع دقة التوضيح لهذا هي محببة ومرغوبة.

عندما نريد الفهم والمقارنة والتحليل والتعلّم نحتاج لنص طويل، ولوقت كافٍ لقراءته والتمعن في محتواه، يحتاج ذلك انغماسا كاملا في الموضوع، واكتشاف جوانبه، وإعادة إنتاجه. هذا يبين بشكل غير مباشر أهمية النص القصير خارج هذه المعطيات.

إذ تنحصر وظيفته في الإخبار السريع، لكنّه يفقد خواص مهمة بالنسبة لمعايير تصنيفه عبر محركات البحث. غوغل حسب دراسة أجرتها «SEMrush» عام 2017 واضح جدا في هذا الموضوع، فكلما كان المحتوى أطول، كان في موقع الصدارة في نتائج البحث.

لكن إن كنت من أنصار المحتوى «الطويل» خذ حكمة سيث غودين رجل الأعمال الأمريكي والرئيس السابق للتسويق المباشر في «ياهو» وضعها صوب عينيك: «من فضلك أعطني شيئا طويلا، لكن لا تضيّع وقتي» .

سنة 1920 كتب همنغواي أقصر رواية على الإطلاق، مكوّنة من ست كلمات فقط لا غير، خلال تحدٍّ أطلقه أصدقاؤه، فكتب: «للبيع: أحذية أطفال لم يتم استخدامها من قبل».

بالنسبة لقارئ شاب من عصرنا الحالي، هذه ليست رواية، ولا قصة قصيرة، ولا حتى تغريدة على تويتر، إنها «إعلان تسويقي» لا أقل ولا أكثر. لكن تاريخ هذه القصة التي نسبت لهمنغواي، تحوّلت لدرس من دروس الكتابة الإبداعية، وقد خصص لها البعض مقالات طويلة، وسال حبر كثير بشأنها، ونسجت حولها قصص كثيرة، هناك من قال إنه كتبها في مقهى في باريس، وآخرون قالوا إنها كتبت في مطعم في نيويورك، لكنّها تحوّلت إلى شبه أسطورة، حين بالغ أهل الأدب في تصديقها، إلى أن خرجت إلى النّور حقائق تثبت أن لا أساس للصحة لهذه القصة، فلا هي حدثت في باريس ولا في نيويورك، ولا همنغواي كتبها، إنّه إعلان نشر في جريدة حين كان عمر همنغواي سبع سنوات.

اعتقد البعض عند إخراج هذه القصة من المخيلة التاريخية لأدباء وعشاق الأدب منذ عشرات السنين، أن نسب القصة لهمنغواي قد تخلق معايير جديدة للكتابة الإبداعية، وأن قصر النص القصصي فيه تحديات سردية كبرى لأي كاتب، لكن بعد قرن من إطلاق هذه «الطرفة» وجد هواة «كتابة البوب» كما يسميهم البعض، ما يحفزهم لإطلاق قصصهم الخاصة، فكتبت إحداهن : «حين ذهبا كانا اثنين، عادا ثلاثة».

وجد عشاق هذا النوع من الكتابة ما يجعلهم جميعا أدباء بدخول هذا التحدّي، لكن من يصدق فعلا أنهم أدباء؟

في ستينيات القرن الماضي دخل إلى فضائنا الأدبي شعر الهايكو، كان تجربة جديدة، لكن سرعان ما وجدت مكانها في ثقافتنا، وكتب شعراء اشتهروا بالقصائد الطويلة هذا النوع، وظلّ تلقي أعمالهم على حاله، حتى أن البعض وجد في تلك الومضات الشعرية شكلا مناسبا لتغيرات العصر، وأقصد هنا القصر تحديدا.

للتذكير شعر الهايكو يتألف من بيت واحد فقط، مكوّن من سبعة عشر مقطعا صوتيا، تكتب في ثلاثة أسطر مقسمة كالتالي: خمسة ـ سبعة ـ خمسة. تبقى شروط أخرى لا يسمح المقام للخوض فيها اليوم.

إن النصوص على تنوعها مواقع مغامرة، تجارب حب، رحلات استكشاف، فضاءات للتأمل، وأخرى للتعلّم. هذا ملخص كل شيء. ثمة ما يعيدنا إلى إنسانيتنا، وثمة ما يفتح أبواب الفلسفة أمامنا ويثيرنا لعبورها. كل هذه الأرقام لن تغير شيئا في أذواق الناس. هناك من يحترم الكتاب من أول نظرة، لأنه ضخم، وهناك من يعتقد أن صغر حجم الكتاب يجعله غير ذي قيمة.

أمّا الذين ترعبهم النصوص الطويلة، فقد جربت موقع «ريدينغ لانغ» وشعرت بأنه مشجع أكثر على القراءة، إذ يحدد زمن قراءة رواية من 422 صفحة مثل «مئة عام من العزلة» بثماني ساعات، يمكن تقسيمها على أيام الأسبوع ساعة لكل صبيحة أو مساء، فإذا بمحتوى الكتاب قد أصبح في ذاكرتنا، وجوارحنا، بكل ما يحمله من معارف لغوية، وثقافية وإنسانية وغيرها.

ترى كم من ساعات نهدرها في جلسات القهوة والثرثرة الهاتفية دون أن ندري؟

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟
  • لا أطيق الانتظار






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي