الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟
2021-07-15
 بروين حبيب
بروين حبيب

سنة 1844 أسس طبيب الأعصاب جاك جوزيف مورو دي تورز «نادي الحشاشين» لغاية قد تبدو غريبة، لدراسة تأثيرات بعض الأدوية والأعشاب، خاصة الحشيش في العقل.

انضم إليها العديد من العلماء والأدباء والفنانين الفرنسيين، وكانوا يلتقون في شقة استأجرها الرسام جوزيف فرديناند بواسارد، بتمويل من البارون جيروم بيشون. أمّا هو فقد تعاطى مادتي الأفيون والحشيش بانتظام، خلال أسفاره بين مصر والشام وبعض دول آسيا الصغرى، وعند عودته إلى فرنسا كتب كتابه «الحشيش وانسلاخات العقل».

انجذب الكتاب والشعراء والفنانون لمادتي الأفيون والحشيش، انجذابا كبيرا في بدايات القرن التاسع عشر، كون تأثيرهما كان مباشرا في العقل، وفي الملكة الإبداعية، بإيقاظ الخيالات والتهويمات والهلوسات المنعشة للأفكار. أكثر من أديب انغمس في تعاطيهما قبل اكتشاف مواد أخرى محفّزة للمخيلة ومنشطة للذاكرة وطاردة للنوم لاستغلال أكبر قدر من الوقت لإنجاز عمل ما.

وكما أحب بعضهم الحشيش كرهه البعض الآخر، لكن تعاطيه استمر منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا، وإن كان هو المادة الأرخص والأسهل والأكثر أمانا من مواد أخرى مدمرة. يُدخِل الحشيش متعاطيه في «تجربة فرح خالص، حيث يذهب العقل في حالة نشوة أو تجربة إحباط تام».

يتم الأمر وكأنّه رمية نرد، قد تربح وقد تخسر، ولا أدري إلى أي مدى يمكن للمقدم على هذه المغامرة أن يخرج منها سالما وغانما في آن.

سجّل بعض أولئك الكتاب تجاربهم مثل تيوفيل غوتييه صاحب كتاب «نادي الحشاشين» وشارل بودلير صاحب كتاب «جنات مصطنعة» بعد زيارات عدة للنادي وتعاطي الحشيش، ثم انسحبا من «جنان الحشيش المصطنعة» منتصرين للمخيلة الحرة من أي حوافز، وبقي بعضهم زائرا متقطعا مثل ألكسندر دوما، وغوستاف فلوبير، ونيرفال، وأونوريه دو بالزاك، الذي أدمن القهوة، ولم يكن يستطيع الكتابة دون أن يشرب بين ثلاثين إلى خمسين فنجان قهوة، ويعمل أحيانا لمدة ثماني عشرة ساعة.

في عام 1935 حقن لاغاتشي صديقه الفيلسوف المتدرب جان بول سارتر بمادة الميسكالين ليختبر بنفسه ظاهرة الهلوسة، وإنتاج الصور الوهمية لكتابة أطروحته «الخيال».

هل يتطلّب ذلك شجاعة؟ هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني، وأنا أقرأ في الموضوع، علما أني اكتشفته أول مرة في كتاب «السباحة في بحيرة الشيطان» لغادة السمان، وهي تروي تجربتها الشخصية مع عقار «أل. سي. دي» وهي الوحيدة بين الكتاب العرب، التي لم تخجل من إشراك القارئ في تجاربها السيئ منها والجيد، وأعتقد أن ما احتواه كتابها هذا تحديدا، يجعلنا نعيد النظر في مدى صدق ما يكتبه كثيرون، ويحقنون به العقل العربي من أكاذيب.

نعرف جيدا أن الأوساط الأدبية والإعلامية والفنية ليست بريئة عندنا وهي تخوض تجاربها سراً، لتتمكن من البقاء واقفة، وهي تبقي هذا الجانب المظلم من حياتها ضمن المسكوت عنه، خوفا من سخط الجماهير، لكن السّمان خرجت عن الصفّ ودخلت في تجارب لاكتشاف دهاليز العقل البشري وإبراز طاقاته وانفعالاته ونتائجها.

يُذكر أن المتتبع لأدب السمان يكتشف مدى ترويضها لجسدها لئلا يصبح رهينة مادّة أو عادة، وهذا يكشف عن انتصارها للعقل الحر، والمخيلة الطبيعية، قلّما نجده بين المدخنين بشراهة، ومدمني القهوة والمشروبات الروحية والحشيش والأفيون، ومخدّرات أخرى، تبقى ضمن الخزائن السرية للمبدعين في العالم كله.

يُروى الكثير عن الحشيش في الموروث العربي الإسلامي القديم، ربما أشهرها «راحة الأرواح في الحشيش والرّاح» لتقي الدين أبي التّقي البدري الدمشقي (ت 894 هجري/ 1488 م) مقسما الكتاب إلى قسمين، الأول مخصص لمحاسن الخمر، والثاني للطائف الخضرا والمقصود بها الحشيش (حقق الكتاب دانيلو مارينو). كما يرد الحشيش في أشعار محفوظة، بعضها نسب لشعراء بعينهم وبعضها ضاعت أسماء أصحابها، ومنها نقرأ:

يا ذا الحشيش في الأرض مغروسا *** تغني عن الخمر والخمّار يا موسى

ياما أكلناه معجونا ومبسوسا *** حتى رأينا الجل في شبه ناموسى

كما نقرأ أيضا قول جالينوس البرهاني إبراهيم بن أسعد الإيرلي المعروف بالنشابي والذي عاش في العصر العباسي:

يلومون في سفِّ الحشيشة عالما *** بمكنون ما فيها من الفضل والغنم

هي السّرُّ ترقى الروح فيها إلى مدى الـ *** حقائق في معراج وهم إلى فهم

أغيب بها في الغيب حتى كأنني *** أناجي كليم الفكر في لجة اليمّ

إلى أن يقول:

أفوز بها خضراء في لون روضة الـ *** جنان تزيل الهمّ كالمرّة الطعم

ولا قدح عندي سوى بطن راحتي *** لشربي وقطر ميزها أبدا كمي

ولو شئتها في مسجد لسففتها *** ولم تنكر الأقوام فعلي ولا جرمي

وعلى كلٍّ شواهد الأدباء والشعراء والشيوخ كثيرة حول هذا الموضوع، وما تركوه من إرث فيه من الطرافة والعلم والغرابة ما يجعل كتبهم محببة للقراءة، ويحضرني هنا كتاب آخر اسمه «السوائح الأدبية في مدائح القنبية» يبحر بنا في عوالم الحشائش المخدرة والمسكرة والمهلوسة، وبحكم أنها مجموعة أعشاب فلم تحرّم كما حرّمت الخمر صراحة، ولعلّ شرحنا يطول إذا ما أردنا الإحاطة بظروف استعمالاتها وانتشارها وجوازها، ودخولها في ما بعد تحت قوائم الممنوعات.

في زمننا القريب سمعنا قصصا كثيرة عن فنانين وأدباء، لكنها لا تعدو «قصص قهاوي» أو جلسات خاصّة، بعيدة عن التّوثيق. زبدة هذه المادة نجدها إمّا في كتب التراث، أو كتب الغرب.

يروي برنار بيفو مثلا قصة حواره الفريد مع كاتب رائعة «لوليتا» فلاديمير نابوكوف، الذي حاوره قبل عام من وفاته، وكشف سر فنجان الشاي الذي كان من حين لآخر يملأه مرددا «قليلا من الشاي سيد نابوكوف؟» بينما كان إبريق الشاي يحوي الكحول، فقد كان الكاتب الشهير لا يصمد ساعة دون كحول، خاصة في جلسة حوارية تشبه اختبارا قاسيا بالنسبة له.

من الأمور الصادمة في ذلك الحوار أن الأسئلة قدمت لنابوكوف كلها مسبقا، وقام بتحضير الإجابات التي كانت تمر أمامه، وكان يتظاهر طيلة الوقت كممثل مبتدئ أنه يرتجلها في حينها.

في عالم الكُتّاب غريبي الأطوار هناك من هم أغرب من نابوكوف، مثل الروائي والفيلسوف الألماني إيرنست يونغر، روى في كتابه «مقاربات، مخدرات وثمالة» تجربته الشخصية مع العقاقير والكحول والأفيون، والحشيش والميسكالين، وLSD ، والكلوروفورم، والإيثر وغيرها.

خرج يونغر سالما من الحربين العالميتين، واختار الانحياز للفيلق النّازي لفترة طويلة، جمع الخنافس كهواية من أغرب الهوايات، وسافر إلى بلدان عدة لإثرائها، كتب قرابة مئة كتاب، ومات هانئا خلال نومه في فراشه في أحد المستشفيات.

المتفق عليه أن أغلب الذين كتبوا عن تجاربهم مع المخدرات خاصة الحشيش، يؤكدون أن التعاطي طريقة للسفر إلى الذات. سفر داخلي بحثا عن مفاتيح للأبواب الموصودة. طريقة سريعة نحو إيقاظ المخيلة.

تجاوز جحيم «الصفحة البيضاء» التي قد يتعثّر الكاتب أمامها لسنوات عدة، أو للأبد إن كان حظه عاثرا، فتنهي مسيرته الإبداعية. يعتقد البعض أن الحشيش صديق المبدعين السري، لأنه يعطيهم شعورا بالغبطة، ويمنحهم قدرة مفرطة لرؤية جماليات الأشكال والألوان والموسيقى، علميا مع الوقت يفقد الحشيش صاحبه كل طاقته ونشاطه، كما كل أنواع المخدرات.

وكما قال ابن النّحاس الحلبي مختصرا تجربته مع الأفيون:

من يدخل الأفيون بيت لهاته *** فليلق بين يديه نقد حياته

وإذا سمعتم بأمري شرب الرّدى *** عزّوه بعد حياته بمماته

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين        

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • لا أطيق الانتظار






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي