حين تصبح جسما غريبا!
2021-09-06
 بروين حبيب
بروين حبيب

وُصف الفيلم الأرجنتيني «مواطن فخري» لمخرجيه جاستون دوبرات وماريانو كوهن بالكوميديا الحادّة. تتلخّص قصّته في مغامرة كاتب حائز جائزة نوبل للآداب، لزيارة بلدته الصغيرة «لسالاس» في الأرجنتين التي غادرها منذ أربعين عاما.

«لسالاس» التي تحوّلت إلى فضاء مُلهم للأديب اللامع، وسكنت ذاكرته على مدى كل تلك السنوات التي قضاها في برشلونة، أدخلته في حنين غير مفهوم للمكان الذي غادره ليحقق نفسه. مع مرور الزمن اختفت من ذاكرته التي اكتسحها الحنين كل تلك الأسباب التي جعلته يهرب منها لتحقيق ذاته.

السؤال الذي لم يتبادر إلى ذهنه وهو يمضي نحو المجد «النّوبلي» هو ما كان سيكون مصيره لو أنّه ظل في بلدته تلك ولم يغادرها؟ هل كان سيحقق شيئا؟

يجسد الممثل الأرجنتيني أوسكار مارتينيز دور الكاتب دانيال مانتوفاني. يجسّد التّمرُّد، والصدمة وافتعال الفرح في أغلب مشاهد الفيلم، الذي يقدّم فضاء مأساويا مُشكّلا من مجموعة من الشخصيات الغبية، التي تعيش خارج تطور الوعي.

لا نرى أي إحالة إلى أرض بورخيس وكساريس، ولا إلى فضاءات الخلق الإبداعي التي تتكئ على شخصيات متنوعة، والتي أبرزها الأدب الأرجنتيني، على الأقلّ ما نعرفه من خلال جل ما وصلنا مترجما للغة العربية.

تُطرح فكرة التّمرّد منذ المشهد الأول، لحظة تتويج مانتوفاني بجائزة نوبل، بخطاب لاذع ينتقد فيه السياسة التي تنتهجها أكاديمية نوبل للقيام بخياراتها. يقف الكاتب كمنشق عن تلك المنظومة، ويقول كلمته التي يليها صمت دام للحظات، وتعثّر في التصفيق، كإشارة واضحة إلى المحافل التي تسعى إلى تدجين الثقافة وتحنيط صانعي الوعي عبر المكافآت الباذخة.

كان انتقاده واضحا جدا في محاولته الثائرة للمضي قدما في سبيل التعافي الثقافي الفكري. يستمر هذا الانشقاق، عند مشهد آخر، والمتمثِّل في الفرار من كل الدعوات الموجهة إليه، وكلها ينصب في باب التكريمات المعنوية والمادية، التي أحرقت تماما منابع الإلهام عنده. من هنا تنبثق فكرة قبول دعوة مسقط رأسه ومرتع شبابه، كمغامرة غير مدروسة، تبدأ بكشف الفضاء الجغرافي للبلدة قبل فضائها المعرفي والثقافي.

بلدة تبعد حوالي سبعمئة كيلومتر عن العاصمة بيونس آيرس، وأربعين سنة عن حاضر الكاتب نفسه. لن تجد بلدية بلدته سوى سيارة قديمة غير مجهزة حتى بإطار النجدة لنقله من المطار إلى فندقها الصغير.

وفي محاولة لاختصار الطريق بين الحقول ينفجر إطار السيارة على غير توقع، ولأن السائق لا يملك هاتفا، يضطران لقضاء الليل معا حول النّار في انتظار قدوم النجدة. في مشهد رمزي عميق، يمزق الكاتب بنفسه عدة صفحات من كتابه للاستعانة بها لاشعال النار، وفي الصباح الباكر يمزِّق السائق صفحات أخرى منه ويستعملها كورق تواليت.

يفوق هذا المشهد في رمزيته كل مشاهد الفيلم اللاحقة. لكنّه قطعة من بانوراما المشهد الثقافي العالمي، التي اختُصِرت بلغة درامية قمة في السخرية.

الحكمة التي تقول: «لا نبي بين أهله» تنطبق تماما على صاحب نوبل العائد إلى بلدته المُلهمة، إذ يتعرّض لأنواع من النهب الخفي بسبب سمعته الجديدة التي صنفته ثريّاً، كما يتعرّض لمحاكمة قاسية من طرف الشخصيات التي استغلها في أدبه، دون إذن منها في الواقع.

حتى أن المحاكمة تنتهي بحادثة مؤسفة، قبل أن يقرر كوهن ودوبرات إنقاذنا من وقعها، فيعيدنا بطريقة ذكية إلى محفل آخر يوقّع فيه الكاتب روايته الجديدة، وكأنّ كل ما حدث تقاطع ذكي بين ما هو واقعي وما هو متخيّل.

كوميديا خلاّبة تضع التاريخ الاجتماعي تحت مجهر دقيق، وتحوّل الكاتب الذي اعتاد على مدى عصور أن يحكم مصيره ومصير شخصياته إلى شخصية محكومة بردود أفعال تلك الشخصيات.

فيلم كهذا يأخذنا بغصّة مؤلمة إلى قراءة ماضينا وحاضرنا منذ اللحظة صفر إلى هذه اللحظة. بعده نمتلئ بالخوف من خطورة الارتماء في حضن الكتابة، وخطورة الخروج منها، حتى إن كان ذلك إرضاءً لعاطفة حالمة خدعها الحنين.

نتساءل هنا هل عمل الكاتب نتاج وجوده؟ أم أن وجوده ناتج ممّا يخلقه؟ يجيب مانتوفاني على هذا التساؤل، حين يعيد اكتشاف بلدته، بالتأكيد لقد أصبحت مشهورة في جميع أنحاء العالم بسبب أدبه، ولكن على حساب الكثير من الخيانة التي مارسها لتصبح ما هي عليه في المخيال العالمي.

حتى أنه أصبح «مواطنا غير شرعي» في مسقط رأسه. بمعنى أكثر دقة أصبح مثل «جسم غريب» في البيئة التي كانت بيئته، بحيث قاومته دفاعاتها المناعية بعدوانية بلغت حدّ تصفيته.

إن كان هناك من معنى يمكن استخلاصه من قصة الفيلم، هي أن الكاتب يبقى آخر شخص يمكن الوثوق فيه. إنّه مثل النّار التي تلتهم أي شيء قريب منها لتغذية نفسها بلامبالاة كبيرة. وإذا كان البعيدون عن تلك النّار يستمتعون بدفئها، فإن هذا الكائن «النّرجسي» يجب عدم الاقتراب منه لأنه سيُعرّض كل من يحاول ذلك إلى العديد من الحروق.

ومع ذلك فإن الدّرس نفسه يجب أن يتعلّمه الكاتب من بيئته الملهمة، إذ بإمكانها أن تزوِّده بالدفء الذي يحتاجه، والذخيرة التي تغذي نصوصه، شرط ترك مسافة أمان بينه وبينها حتى لا تحرقه. وهنا نعود لسؤالنا سالف الذكر، فنجيب بقناعة وهدوء أن الكاتب لو بقي في بلدته لقُتِل باكرا، وانتهى في قبر جماعي كالذي يعيش فيه كل أهلها في انسجام تام مع أجوائها غير المنتجة.

بين الدراما والكوميديا يرسم هذا الفيلم الطويل المكتوب جيدا صورة المثقف المستاء من واقع يشكك في هويته، كما يرسم الخطوط البيانية التوضيحية لنشوء الديكتاتورية في بيئة مصغّرة تكاد تكون ميكروسكوبية في الخريطة العالمية، انطلاقا من تجمع صغير من أشخاص نراهم في الغالب بسطاء، ودودين وصادقين، ومتى انبثق منهم شخص واحد مخالف لرأيهم يكشفون عن طبيعتهم ويستولون على السلطة ويجمعون على إسكات ذلك الصوت.

كل هذا الاتقان في بناء قصّة اختصرت أوجه الحياة بمعقولها وغريبها، تأخذنا مباشرة إلى بورخيس، كما قال أحد النقاد، لنفهم لماذا لم يفز بجائزة نوبل للآداب، «ثمة دعوة سرية لقراءته مجدّدا» وقراءة رولان بارت في باكورة إنتاجه النّقدي «الكتابة في الدرجة صفر» لأنّ عودة الكاتب لمسقط رأسه تعادل العودة إلى عالم ما قبل الكتابة وما قبل القراءة أيضا.

القصة مبنية على هذا الغموض، وعلى قيمة الحقيقة إذا ما اقترنت بالكتابة. هي أيضا مساحة عاطفية شاسعة لعرض مواضيع مختلفة مرتبطة بالطبيعة الإنسانية وإلقاء الضوء على تلك الشحنة من المشاعر، التي أخذت شابا إلى الكتابة، والكتابة بدورها أخذته بعيدا عن أمكنته المعتادة، بنت له عالما موازيا من الحلم، استقرّ فيه دون أن ينتبه إلى أنه ليس الحقيقة التي تركها خلفه.

يحدث أن تُدان الكتابة لأنها شيء يشبه البساط السحري، متى ما امتطاه الشخص سينطلق به في رحلة لا تعرف الهدنة. ستقطع به مسافات زمنية وأخرى فكرية، تخرجه عنوة من جغرافيته الساكنة المألوفة. أما العودة لنقطة الصفر فقد تكون مثل مغامرة مانتوفاني.

لكن من لا يعرف هذه القصة من كُتابنا الذين تقاذفتهم المنافي وجرّتهم الكتابة إلى مدن بعيدة آمنة؟ من لم يعشها بحذافيرها؟ من لم يفهم كل تفصيل من تفصيلاتها المحزنة والمضحكة في آن؟ نعرف جيدا قساوة العودة، كما نعرف روعة اللوحة المعلّقة على جدران الذاكرة لتلك البلدة الصغيرة التي تسكننا، نعرف دفء النّار ولسعتها الحارقة. نعرف رائحة الأمهات والأهل، كما نعرف نظرات العتاب المرافقة لصمت يديننا أكثر مما يحتضننا.

فيلم كهذا يأخذنا بغصّة مؤلمة إلى قراءة ماضينا وحاضرنا منذ اللحظة صفر إلى هذه اللحظة. بعده نمتلئ بالخوف من خطورة الارتماء في حضن الكتابة، وخطورة الخروج منها، حتى إن كان ذلك إرضاءً لعاطفة حالمة خدعها الحنين.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟
  • لا أطيق الانتظار





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي