مهمة مستحيلة
2020-06-15
 بروين حبيب
بروين حبيب

إنها مهمة مستحيلة فعلا أن تقنع طفلك اليوم بقراءة قصّة باللغة العربية. فقد قمت بالتجربة مع ابنة اختي، ليس فقط بقراءة قصص كثيرة للأطفال واقتراحها عليها، بل دخلت في تجربة كتابة نص استعملت فيه ما استطعت من عناصر الطرافة، لجعله قريبا من القلب، ومع هذا بدل أن أحصل على رضاها، أدخلتني في تحدٍّ مع نفسي لاكتشاف أدب الطفل، من خلال تكثيف قراءاتي حول الموضوع، ومساءلة عدد من النقاد والمختصين والمدرسين، الذين يتعاطون مع الأطفال يوميا.

بالطبع يختلف طفل اليوم عن طفل البارحة، فهناك فارق زمني طويل بينهما، وأقصد هنا بالطبع أطفال زمننا، وتدارك معلومة مهمة وهي، أن ما كان يدهشنا، لم يعد له أي قيمة إدهاشية لأطفال هذا الزمن. لعلّ هذا أحد الأسباب لنفور الأطفال من قراءة النصوص باللغة العربية. لكن السؤال الذي يحيرني فعلا هو لماذا يقبل الطفل على قراءة قصة علاء الدين والمصباح السحري باللغة الإنكليزية، ويرفض قراءتها باللغة العربية؟ أليست القصة نفسها؟ ثم ألم تكن هذه القصة مكتوبة باللغة العربية في الأصل ـ أو الفارسية – قبل نقلها للغات العالم؟ لماذا إذن ينحاز طفلنا لقصة من تراثه، مروية بلغة غير لغته؟ لعلّ طريقة سرد القصة في حدّ ذاتها تختلف من لغة إلى أخرى، كما من شخص لآخر، لكن ما لاحظته مع الزمن – أنا التي لم أنقطع عن قراءة نصوص للأطفال من حين لآخر – أن قصصنا العربية يكتبها أشخاص فقدوا طفولتهم تماما، وهم في محاولاتهم الكتابية يخاطبون الطفل من «فوق»، أو لنقل من محطتهم العمرية المتأخرة، ومن موقع «العارف» بكل شيء، بدون أدنى تنازل عن تلك العقلانية الزائدة، لمخاطبة أطفال لا يستوعبون تماما ذلك السقف العالي الذي نطل من خلاله عليهم، وبدون أن نستوعب نحن أنهم أبناء زمن مختلف، وأنهم يعرفون في بعض الأمور أفضل منا.

إن الذي استوقفني خلال استفساراتي عن مدى تلقي قصتي، هو تباعد الآراء عن بعضها بعضا، فقد أدلى كل شخص قرأها بملاحظاته، انطلاقا من اختصاصه، فهناك من أحب الكلمات العربية التي قمت بإحيائها لكي يعرفها جيل اليوم، بعد أن تقلص استعمالها حدّ جهلها، كما أحب البعض التقاطعات الحياتية بين جيلين، جيل طفل، وجيل عجوز، في ما رفض البعض الآخر فكرة أن يكون الجيل العجوز بالبساطة التي رسمتها، في ما أحبت إحدى صديقاتي فكرة عودة الرّسائل المكتوبة على الورق لما فيها من عبق وحنين للماضي الجميل، متهمة الفضاء الإلكتروني جملة وتفصيلا بخلوه من المشاعر الدّافئة التي كانت تحملها رسائلنا القديمة، التي تحمل بصمتنا الخاصة للأحبة.

  تسبب كتّاب القصة باللغة العربية في كل هذا النّفور من طرف القرّاء الصغار، وتمادوا في ممارسة كل أنواع الخداع لتوجيههم أيديولوجيا، ربما أو تجنيدهم في صفوف القطيع المدجن، أو لا أدري ما هي الأسباب الحقيقية بالضبط التي أوصلت النصوص باللغة العربية إلى هذه الحالة البائسة

في البداية كانت القصّة مجرّد فكرة مسلية لي، نبعت من واقعة عائلية أردت تصحيحها، بعد أن أصبح الهاتف الذكي يسرق أجمل لحظات اجتماعاتنا، لكن بعد أن جعلت بعض أصدقائي يقرأونها، اكتشفت أن تنوع القارئ قادني إلى أمور أخرى لم تخطر على بالي، فقط «بروينتي» الصغيرة كانت لها ملاحظات طفلة، ولعلّها بدون أن تنتبه أحالتني إلى إهداء كان قد كتبه الكاتب أنطوان دي سانت أكزوبيري لصديقه الكاتب ليون ويرث، في بداية قصته الخالدة «الأمير الصغير» بعد أن قدّم اعتذارا للأطفال، لأنه حسب تعبيره يملك عذرا خطيرا لإهدائه الكتاب لصديقه البالغ، أولا لأنّه أفضل صديق له في العالم، وثانيا لأنه يفهم كل شيء، حتى كتب الأطفال، وثالثا لأنه يعيش في فرنسا ويشعر بالجوع والبرد وبحاجة لدعم معنوي (٭)، ثم يستدرك «إذا لم تكن كل هذه الأعذار كافية، أودُّ أن أخصص هذا الكتاب للطفل الذي كانه هذا الإنسان العظيم ذات يوم.

كان جميع البالغين أطفالا أولا، لكن قلة منهم يتذكرون، لذلك أصحح إهدائي : إلى ليون ويرث عندما كان صبيا».

لا شك في أن قارئ هذا الإهداء سيتأثر مثلي، لهذا اعتُبِر دائما جزءا من هذا النص المبهر. وهو يكشف عن ثلاثة أمور جد مهمة، أولها أن لا أجمل من تخليد الصداقة في كتاب، لأنها من أجمل العلاقات المثمرة في حياتنا، وهذه في حدِّ ذاتها رسالة قوية للأطفال، ثانيا أن قراءة قصص الأطفال ليست سهلة بالنسبة للكبار، فالقارئ الذي يحتفظ بطفولته طازجة في إحدى خزائن ذاكرته، وحده بإمكانه أن يفهمها ويتلذذ بها، وهذه رسالة للقراء من كل الأعمار، حتى لا يستسخفوا ما يُكتب للأطفال، وأعتقد أن هذا ما يحدث عندنا بالضبط، فأغلب من دخل مغامرة الكتابة للأطفال، دخلها من باب استسخاف الطفولة، وأبعادها الإدراكية وهي المغامرة التي جعلتنا نخسر القارئ الصغير.

تقول القواعد التي خلص إليها كُتّابٌ موهوبون بعد تجربة طويلة من النجاح وسط القراء الصغار، أن المخيلة لا تكفي لكتابة نص جيد لطفل، بل يجب معرفة نوعية الجمهور الذي نقدم له القصة. وقد قيل إن الصورة هي أول قصة يمكن تقديمها لقارئ صغير، قبل تعرّفه على الكلمات، أما ما نسميه بأدب الطفل فيبدأ من سن العاشرة، حيث تصبح الصورة غير كافية لإثارة فضول الطفل، بل يحتاج لكثير من الكلمات، إلى شخصيات يربطها حدث، وإلى حبكة حقيقية، بمقدمة وفصول وخاتمة. يحتاج الطفل في قصته إلى ما يثير مخيلته، ويهز مشاعر الحب والخير، وكل ما هو نابع من فطرته السليمة، لهذا يستحسن المضي في هذا الخط بحذر شديد، وتجنب الدروس الأخلاقية التي تثير غضب القارئ طفلا كان أو بالغا.

قد يعتقد البعض أن الطفل يسهل خداعه، وهذا هو أكبر خطأ يقع فيه كتّابنا، فقد يسهل خداع الكبار، أمّا الأطفال فلديهم حاسة نقدية قاسية. إن لم تعجبه القصة يعبّر الطفـــــل عن ذلك بكلــــمة واحدة «مملة»، أو «لم تعجبني»، فيما يجد الكبار ما يوارون به شعورهم الحقيقي تجاه النصوص الرديئة. وهذا سبب آخر لاستمرار النقد الرديء للأدب السيئ وتمجيده من باب المجاملة، مخلفا وراءه ركاما من الكتب والقصص التي قضت على الرغبة في القراءة.

لقد تسبب كتّاب القصة باللغة العربية في كل هذا النّفور من طرف القرّاء الصغار، وتمادوا في ممارسة كل أنواع الخداع لتوجيههم أيديولوجيا، ربما أو تجنيدهم في صفوف القطيع المدجن، أو لا أدري ما هي الأسباب الحقيقية بالضبط التي أوصلت النصوص باللغة العربية إلى هذه الحالة البائسة.

نملي على أطفالنا الكثير من أمجاد اللغة العربية، وأنها لغة جميلة وساحرة، وهم في أعماقهم يضحكون علينا، ويعتبرون ما نقوله مجرّد رأي يخصنا، فنحن في أعمارهم فتحنا أعيننا على لغة واحدة، هي العربية، وعلى قصص مترجمة من الإنكليزية في الغالب، حتى إن لم تكن إنكليزية المنشأ. لقد دق جرس الخطر في تلك الأيام باكرا، على أن لغتنا يتهددها خطر ما، لكننا كنا ضحايا أنظمة جعلتنا نتغنى ببريق وهمي من صنعها، كما كل شيء عشناه في فترات سابقة، وكان أشبه بحبة المخدّر التي أشعرتنا بالسعادة لفترة إلى أن زال مفعولها.

بالنسبة للمبدع العربي ـ في حالة ما إذا كان مبدعا فعلا- يجبر على وضع مخيلته في قفص ضيق، ويطلب منه كتابة قصة تسلي الأطفال، على أساس أن هؤلاء كائنات لا عقول لها، وعاجزة عن تقييم أي عمل يُقَدَّم لها، فيما الحقيقة الصادمة هي أن رسالة الطفل كانت أقسى من كل التوقعات، بعد أن رفض «الجمل بما حمل»، وأقصد بذلك كل ما يأتيه من لغتنا جملة وتفصيلا، وأغلق على نفسه «الباب الذي يأتيه منه الريح».

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي