المنقذ
2020-04-21
 بروين حبيب
بروين حبيب

هل صحيح أن تونس يظللها شعر أبو القاسم الشابي كما قال فاروق شوشة ذات يوم؟ وأن شاعرية تونس تأخرت كثيرا لتقتحم فضاءات التجديد؟ علينا أن نعترف بأننا نجهل تماما الخامة الشعرية في بعض البلدان، التي ولدت ونمت خارج المنابع المصرية، في حقبة كانت فيها مصر هي القبلة التي تشع منها أنوار الأدب والشعر والموسيقى والأغنية، وأغلب الفنون السمعية البصرية، وعلينا أن ننبه إلى أن بعض الظروف جعلت أسماء شعرية تستحوذ على الذاكرة الجماعية للوعي العربي أمثال الشابي التونسي وابن تومرت، ومفدي زكريا الجزائري، وغيرهم من شعراء ترافق حضورهم بتاريخهم النضالي ضد الاستعمار الفرنسي.

هل صحيح أن العباءة الكلاسيكية لا تزال تغطي ملامح القصيدة المقبلة إلينا من المغرب العربي؟ أعتقد لا يمكن الجزم بلا أو نعم، فالتنوع الشعري طال جغرافيا المشهد الثقافي العربي كله، وإن كان التجديد قد انطلق من العراق أو من بلاد الشام، وقد أكون مخطئة، كوني لم أطلع على النتاج الشعري كله في حقبات تجدده من الخليج إلى المحيط. حضرني هذا الكلام مفصلا، بعد الإعلان عن فوز الشاعر التونسي منصف الوهايبي بجائزة الشيخ زايد عن كتابه «بالكأس ما قبل الأخيرة» منشورات مسكيلياني، تونس. كما حضرتني صور شعراء تونسيين آخرين قرأتهم أو تعرّفت عليهم عن قرب، مثل الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، والمنصف الزغني، وجميلة الماجري، وآخرين، وبينهم منصف الوهايبي الذي تعرفت عليه واكتشفت نصه متأخرة، وقد لمت نفسي كثيرا، لماذا لم أكتشفه باكرا، لماذا لم يصلني شعره، كما وصلني شعر غيره مثل، أنسي الحاج وخليل حاوي على سبيل المثال؟ وكنت أقف دوما عند عتبة المسافات بين المشرق العربي ومغربه.

قبل كم سنة كنت في المهدية في تونس، في مهرجان الشعر العربي الأول، وفي جلسة دافئة ضمت كتاّبا وشعراء بإشراف صبحي الحديدي، كان منصف، وألقى شعره، وتكلم عن المتنبي، وأبي تمام وأدونيس، فبهرني بتركيبة قصيدته التي يمتزج فيها القديم والتجريبي الجديد. وأعترف بأنه ترك بصمة ضخمة في وجداني، في هذا الزمن الذي قلّ فيه الشعر، وكثر فيه الشعراء. لقد تأسفت فعلا حدّ الألم لماذا لم أعرفه باكرا، وقد عرفت منه شخصيا وممن حوله أنه شاعر لا يُسَوِّق لنفسه، حتى كتبه المنشورة لم تكن بمستوى نصه من حيث نوعية الطباعة، وهذا سبب آخر يضاف لكل الأسباب السابقة التي ذكرتها.

  الشعر عنده فكر، والفكر شعر، ورؤية كاملة للحياة، وتوظيفه للتراث ليس توظيفا ممجوجا بقدر ما هو توظيف للارتقاء بقصيدته، كما فعل في قصيدته التي تغنى فيها بمدينته القيروان

من الإجحاف إذن أن نقول إن القصيدة التونسية تباطأت في سيرورتها نحو الضوء، علينا أن نسمع الآراء النقدية بشأنها من أهلها، لأنهم أدرى بشعابها، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بتميز قصيدة الوهايبي، بدون الاستعانة بأدوات أخرى لافتكاك جائزته، كالصخب الإعلامي الذي يستغله البعض بسبب معارضة سياسية، أو بسبب حروب ثقافية أساسها الاختلاف في الرأي يسكب عليه الإعلام ما توفّر من كبريت وزيت لزيادة إشعاله.

فقد كان بكل بساطة صاحب مشروع شعري، وهو يستحق الجائزة عن جدارة، لكن الذي يفاجئنا في نيله للجائزة هو حصوله عليها من باب الهدوء التام، والصوفية الشديدة، والكثير من الزهد الإعلامي، هو القائل «هو ذا الشاعر… يخرج من لغتي البكماء»، ألم يصف نفسه بأكثر العبارات اختصارا؟ أليس هو بلغته التي لم تحدث أي ضجيج؟

في قراءات الشاعر فاروق شوشة، شارحا ومُشَرِّحا شاعرية الوهايبي، خلصت إلى أن إعجاب شاعر بنص شاعر آخر، أكثر صدقا من أي قراءة نقدية أو انطباعية لمن لا يعرفون ما يفعله الشعر بصاحبه، حين يتربع على عرش الشهرة، فيصعب عليه رؤية شعرية غيره. وقد تساءلت بيني وبين نفسي، عن سر تقدير الشعراء للوهايبي، فوجدت وصفا خصه به الشاعر اللبناني شوقي بزيع على أنه «شاعر متشدّد مع نفسه ومع الشعر»، مؤكدا أن «ما لديه من الاحترام للشعر والحرص عليه، ما يجعله يتردد طويلا قبل إصدار أي مجموعة جديدة».

شاعرنا المفتون بالأماكن، الهائم في رحلة تأمل طويلة لكل ما حوله، لا يتوقف عن صياغة دهشته شعرا، يذهب بعيدا في قول الأشياء، بعد التّجرد تماما من إغواءات الشعر اللغوية، يدخل متاهته الخاصة مثل درويش، منغمسا في حلقة الذكر، ويلقي تسابيحه على إيقاع رقصة قلبه.

إنّه «ظاهرة شعرية تعكس أبعاد ما نراه شعرا حقيقيا يتجاوز في قراءته وتأويله الكثير من السائد اللاشعري»، كما وصفه الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح. ولعل هذا بالضبط ما أريد قوله، وأضيف عليه أنه يقدّم لنا نصا يكتسي بالصفات التي أطلق عليها المفكر إدوار سعيد «الأسلوب المتأخر».

تجربة المنصف، خاصة المتعلقة بالنص الذي فاز، كأنه جدارية منصف أيضا، طبعا النص عبقري جدا، وفيه تداخلات عجيبة بين لغة محمود درويش وحضوره، واللغة التعبيرية الوهايبية، ولمن لا يعرف فإن صداقة طويلة وجميلة جمعت الشاعرين، وهو من نشر له في «الكرمل»، كما عرفت من صديقي حاتم الفطناسي، وأن درويش حين قدّم أمسية شعرية في تونس ذات مرة، اشترط أن يقدمه منصف الوهايبي، فقد كان يحب شعره ويحترمه كقامة شعرية كبيرة. تجربته، بالمختصر المفيد، تأتي من مرجعيات تراثية وتمظهرات حديثة.

ولأول مرة في تاريخ جائزة الشيخ زايد فرع الآداب، يفوز شاعر بشعره، فحتى حين فاز الشاعر اللبناني عباس بيضون بالجائزة، فقد فاز بها برواية «خريف البراءة».

طبعا نال شاعرنا جوائز سابقة، ومهمة مثل فوزه بجائزة الشابي، والبابطين، وعكاظ بقصيدته العظيمة «عكاظ « التي قال فيها «عكاظ يا حديقتي العربية الأولى».

الشعر عنده فكر، والفكر شعر، ورؤية كاملة للحياة، وتوظيفه للتراث ليس توظيفا ممجوجا بقدر ما هو توظيف للارتقاء بقصيدته، كما فعل في قصيدته التي تغنى فيها بمدينته القيروان، ارتقى بها بطريقة أخرى، فتح نوافذ في المكان، فرأى من خلال قيروانه أماكن أخرى بعيدة، فتح نوافذ على التراث العربي الإسلامي، ونوافذ أخرى على كل ما تشرّب به من ثقافات العالم، شاعر له روح منتشرة إلى أبعد نقطة في الأفق، يمتطي الشعر وهو خاشع في تأملاته العميقة، كون الشعر بالنسبة له لم يكن ذات يوم مجرّد أهزوجة مؤلفة وفق إيقاع قابل للغناء.

لقد استطاع بمهارة شديدة أن يعمل هذا «التعشيق» أو «التخليق»، كما يسميه الناقد الفطناسي، بالجمع بين السجلات الشعرية العريقة والحديثة، وألفت النظر هنا إلى أنه حاصل على شهادتي دكتوراه، واحدة عن أبي تمام، وأخرى عن أدونيس، لهذا ذهب إلى أقاصي اللغة في قدمها وأشكالها المتجددة.

ثمة أيضا سرّ هذا الأسلوب المتأخر، الذي يجعل نص الوهايبي لا يشيخ، بل يولد كلما أمْعنَّا في قراءته، ويجمع مثل آلة زمنية عجيبة كل الأزمنة، ما مضى منها وما هو مقبل بقوة عجيبة، يدهشنا أنه ولد بهذا النضج منذ بواكير أعماله، وهو اليوم الذي ولد فيه شاعر من نمط آخر، بلون شعري لا يمكن تصنيفه سوى بالفريد، لون يمتاز بخفته رغم ثقل وأهمية محتوياته، كأنه ذلك اللباس الفخم في كامل أناقته المريح في استعمالنا له، بحيث يسمح لنا بالقفز والطيران، بدون أن نتعثر، أو يعيقنا عن الحركة.

لعلي أصبت ولعلي لم أصب، لكن هذا مختصر انحيازي لشعرية منصف الوهايبي، ولقصيدته التي تأسرني بامتياز. شاعر أدخل الشعر في حقبة تجديد غير واضحة المعالم، لكنّها حتما حقبة ستنقذ الشعر من الركود.

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي