باريس حيث مفترق طرق أوروبا
2025-09-19
سعد العجمي
سعد العجمي

مضى على وجودي في باريس الآن قرابة الشهرين لأسباب خاصة، وقد كانت باريس أول عاصمة أوروبية أزورها قبل نصف قرن، وتحديداً صيف عام 1975، حين كانت حينها فرنسية بيضاء بسحنتها، أوروبية شقراء بمظهرها وملبسها.

دراماني مهما، هكذا لفظ اسمه حين تقدم للتعرف علي في باريس عام 1975، وأذكر اسمه حتى اليوم لأنه الأجنبي الوحيد الذي تعرفت إليه في تلك الزيارة وكان من غانا، واليوم تمتلئ باريس بملايين المهاجرين وأبنائهم من الجيل الثاني والثالث والرابع، مسلمين وغير مسلمين، بحجاب ومن دون حجاب، سمر وسود وصفر من شرق آسيا وجنوبها، في أشكال مختلفة من البشر تراهم في المترو والشوارع والمطاعم ومن سائقي سيارات الأجرة ومحطات القطارات، وغالبيتهم يتكلمون الفرنسية، وبعض العرب بينهم يتكلمون العربية بلهجة شمال أفريقيا.

ركبت عشرات سيارات الأجرة منذ أن جئت إلى باريس ولم يكن السائق في أي من تلك الرحلات فرنسياً أبيض أو "من عيال بطنها" كما يقال في الكويت، فهم  إما عرب أو أفارقة في الغالب.

وقت كتابة هذه المقالة تجتاح باريس تظاهرات أصبحت من معالمها، فلا تزال نقابات العمال قادرة على شل حركة المواصلات وتعطيل الحافلات والقطارات، وقد أصدرت السفارة الكويتية في باريس مشكورة تحذيراً للمواطنين الكويتيين والدارسين فيها بعدم الخروج إلى أماكن معينة، وتجنب ركوب وسائل المواصلات العامة تحاشياً للصدامات التي غالباً ما تجري بين الشرطة والمتظاهرين، حيث تقوم الشرطة أحياناً باعتقالات عشوائية قد تطاول الأبرياء الذين هم "كالأطرش في الزفة".

ذهبت صباح اليوم بالمترو وعدت بسيارة "أوبر" قال لي سائقها العربي الجنسية، "أرفض الطلبات التي تأتي اليوم من مناطق معينة تحاشياً للتظاهرات التي ستجري هناك"، مضيفاً "بل إني لا أذهب إلى ضواح معينة في باريس لتوصيل راكب منها، فهي مناطق خطرة تعج بالجريمة التي سببها للأسف بعض المهاجرين، وخصوصاً من إخواننا الـ …….))، فهم سبب ضمن أسباب كثيرة لصعود اليمين والعنصرية ضد المهاجرين القانونيين مثلي، والذين يعملون بجهد ليكسبوا رزقهم ويدفعوا ضرائبهم".

وأضاف السائق أن بعضهم "مدفوعون بالمال لتعمد ارتكاب حوادث استفزازية معينة بغية تشويه صورة دينهم وتأليب الناس ضدهم لتأييد اليمين المتطرف، وأنصحك ألا تذهب للشانزليزيه اليوم، فلو وصلت التظاهرات إلى هناك فسيتسلل إليها المخربون وغالبيتهم من الأفارقة وخصوصاً (........)، وليس لديهم مطالب لكنهم يجدون في هذه التظاهرات فرصة للنهب والسلب فقط".

تشكل باريس الصورة الأنصع للتحدي الحضاري الأوروبي، وهو محاولة التزاوج بين التعددية الثقافية والاندماج في المجتمع الفرنسي، لكن بعضهم يمارس الانعزالية باسم التعددية الثقافية، ويقسّم المجتمع الفرنسي إلى تقسيمات إثنية عنصرية، وبعضهم الآخر، باسم الاندماج، يطالب بمنع شعائر دينية معينة ومظاهر ثقافية لأنها دخيلة وتخرق أسس الحرية الليبرالية الفردية، بل ويطالب بإخراج وطرد هؤلاء الطارئين الجدد الذين يشكلون خطراً على "حضارتنا الأوروبية".

 شيئاً فشيئاً تنعزل ضواحي باريس الشمالية الشرقية، مثل سانت دو ني وما جاورها، وبعض تلك المناطق تتحاشى حتى الشرطة الدخول إليها لأنها مرتع للعصابات وبيع المخدرات والجريمة المنظمة، وعلى رغم أن الحكومة الفرنسية قامت ببعض المشاريع فيها أثناء استضافة الألعاب الأولمبية من أجل خلق الفرص والوظائف، لكنها لم تتغير كثيراً ولا تزال من المناطق الخطرة في باريس.

حي مونت مارتر (تل الشهيد) الذي كان علامة فنية تاريخية في المدينة، وقِبلة الرسامين والفنانين في الماضي، أصبح اليوم من الأماكن التي يجب الحذر من زيارتها، فقربه حي بيغال حيث ملهى الطاحونة الحمراء الشهير وشوارع بائعات الهوى حيث مرتع الجريمة.

التقسيمات التي تشهدها باريس، أحد أشهر حواضر أوروبا، تتعمق، والتوتر بين ألوانها وضواحيها يزداد حدة ويتراجع وفقاً للأوضاع الاقتصادية، والتلاوم يمكن أن يُلقى يمنة ويسرة على هذا الطرف أو ذاك، ولكن المتابع لوضع المدينة يرى أن الاحتقان الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي فيها أكثر من الهدوء والتوافق الذي لا يزال صوته مسموعاً وعالياً، فلن يبقى الوضع في حال احتقان سرمدية، ولا بد للأمور من حسم، فـ "اليمين الأوروبي" يتصاعد والمهاجرون يتكاثرون أضعاف تكاثر الأوروبيين البيض، وصوت الانعزالية بينهم يقوي أصوات "اليمين المتطرف"، ولا بد للأمور من أن تصل إلى طريق مسدود يوماً.

تعتبر باريس مفترق الطريق والاختبار الحقيقي للديمقراطية الليبرالية الغربية، فهل تنجح في اختبار التعايش وفقاً للتعددية الثقافية؟ أم تفرض الاندماج والعيش المشترك فرضاً بين فئاتها المتضاربة شكلاً ولوناً وديناً ولغة وثقافة، وتطردُ من لا ينصاع لشروط فرض الاندماج والذوبان؟

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • توقفت الحرب واستمرت المأساة
  • الوقت والزمن والتاريخ!
  • الصحبة والصداقة والصدقية وأحمد الشرع







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي