
كلمات ثلاث تحمل في طياتها ومعانيها ومدلولاتها الكثير، أحياناً نخلط بين المعاني الثلاثة للوقت والزمن والتاريخ، وأحياناً نراها تتناوب المعنى ذاته! بنظرة أولية نعتبر الوقت أقصر من الزمن، والتاريخ سرمدي بلا بداية وسينتهي بنهاية البشرية ونهاية الحياة على هذا الكوكب بصورة أو بأخرى. فنقول منذ بداية التاريخ، ولا نقول منذ بداية الوقت، لكن الشاعر الأمير خالد الفيصل قد يختلف بقصيدته:
من بادي الوقت وهذا طبع الأيام *** عذبات الأيام ما تمدي لياليها
ولعل قصر الوقت هو الذي ربطه بالحدة، فقيل بقول مأثور: "الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك". وللوقت فن وإدارة، وليس للزمن أو للزمان إدارة. ولعل أصل الفارق بين الزمن والزمان لهجوي وحسب، وقد يكون الأمر كذلك في فعل حركة الزمن، فلا أجد فرقاً بين تقادم الزمن وتقدم الزمن.
الزمن قدر مكتوب لا حول لنا بتغيير مساره ولا قوة، فنقول متعجبين مستنكرين "الله يا زمن"، معبرين عن استيائنا من تبدل الزمان ودورته التي أوصلت الأمور لما آلت إليه. وحدها كلمة الدهر تنافس الزمان بقسوته، فقالت العرب: "فلان أقسى من الدهر".
تتكرر على مسامعي كلما تقدم بي العمر عبارة "لكل زمان دولة ورجال"، ونلقي اللوم دوماً على الزمان الذي لا ينصف في دوراته ولا يعدل، لكن الإمام الشافعي يخالفنا بلوم الزمان ويبرئه مما نحن فيه:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
وقد لا يكون الزمان طويلاً، فقد حث الشاعر اليمني يحيى اليافعي محبوبته على اغتنام الزمان قبل فوات الأوان:
اغنم زمانك أمانة يا حبيب اغنم *** ما دام عادك صغير السن طيشاني
يرتبط صغر السن بالطيش، أتابع بعض الشباب العربي من "جيل Z". لم أر طيشاً، ولكن أرى جيلاً يكبر أسرع من عمره الزمني. ترى! هل حول الزمن الأعمار إلى الافتراضية في العصر الرقمي العنكبوتي؟ الافتراضية مفترضة، فهل كبر هؤلاء الذين ولدوا بعد الألفية الثالثة "افتراضاً"، ولم ندرك نحن المخضرمون ذلك؟
لا شيء يبقى على حاله، فنقول: "الزمن دوار"، وغنى جورج وسوف أغنية بهذا العنوان، وقال أبو البقاء صالح بن شريف الرندي في أشهر مرثية لسقوط الأندلس:
هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته أزمان
نتحاشى في اللغة العربية أفعال الوقت والزمان والتاريخ، كم مرة قلنا: "وقّت له"، بدلاً من "احسب له الوقت". وهل نقول: "زَمُن" الزمان أم غدر الزمان به؟ نقرأ "أرَّخ" و"يؤرِّخ" قراءة، لكن هل نستعملها في أحاديثنا الدارجة؟ هل تحاشي الفعل جزء من عدم تقدير الوقت وتقلبات الزمان وعدم الاكتراث بالتاريخ؟ أم لأنه لم يعد يهمنا ما سيكتب التاريخ عنا؟ فالتاريخ سجِل، ويقولون إن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، فهل سقطت هذه المقولة وصارت "التاريخ يكتبه المصورون"، وكل من يحمل هاتفاً نقالاً في جيبه؟ فالسجلات الشخصية لكل إنسان تسجل على وسائل التواصل ومواقع الشبكة العنكبوتية.
كانت إسرائيل وأعوانها تكتب التاريخ كما تشاء، وتحتكر الخطاب وقصة الحدث التي تسمى بصورة "مضحكة" "سردية" في أدبياتنا العربية هذه الأيام، كترجمة حرفية لعبارة Narrative. لكن الحقائق اليوم أصبحت تسجل وتحفظ بالصوت والصورة، على ملفات شخصية وعامة، وعلى الهواء مباشرة. صار التاريخ كالوجبات السريعة، تكتبه وأنت تمشي، أو في السيارة، أو تجلس في بيتك تشرب فنجاناً من القهوة وتسجل التاريخ.
انتهى احتكار كتابة التاريخ. يقول بروفسور العلوم السياسية بجامعة شيكاغو جون ميرشماير الشهير إن "العار الذي لحق بإسرائيل بسبب حرب الإبادة بغزة لن يمحى أبداً"، لقد تحطمت "سردية" إسرائيل بعد تحطم احتكار السردية بفضل التكنولوجيا الحديثة التي يريد نتنياهو استعادتها بشراء أميركا لتطبيق "تيك توك". ها أنذا أستخدم كلمة "سردية"، بعدما تهكمت على ترجمتها "إن طاعك الزمان، ولا طيعه".
ماذا سيكتب عنك التاريخ كفرد؟ اكتب أنت تاريخك بنفسك، سجله بالصوت وبالصورة وبالحرف والكلمة، احتفظ بموقعك وعنوانك على الشبكة العنكبوتية، لم يعد بإمكان أحد أن يفتري عليك كذباً، فآراؤك ومواقفك سجلتها بتاريخك بفضل سجلات الفضاء اللامتناهية السعة.
و"وسجل يا تاريخ".
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندت عربية