بيروت قصتنا وغصّتنا
2020-08-17
 بروين حبيب
بروين حبيب

لا أذكر متى بدأت علاقتي ببيروت؟ فقد كنت طفلة حالمة، تصدق الأدب والفنون، ومعظم علاقاتي المبكرة بالأماكن بدأت من قصص قرأتها، وأغان سمعتها، ومجلات أخذتني في سفر خرافي إلى عواصم لم أتمكن من السفر إليها إلاّ بعد بلوغي سن النضج.

لكنها ربما بدأت بأغنية فيروز «يارا اللي جدايلها شقر، اللي فيهن يتمرجح عمر» وهي تنبعث من راديو السيارة، وأنا مطوّقة بحضور أبي الدافئ، لعلّها بالضبط تلك التوليفة المحفورة في ذاكرتي، كأجمل ما يمكن أن تحتفظ به طفلة من صور في صندوق ذكرياتها السري، وهي كل ذخيرتها لعمر مقبل مفعم بصوت فيروز، وباللهجة اللبنانية التي لامست سمعي لأول مرة بلمسة حب، وبالشعر.. حين عرفت بعد سنوات أن كاتب الأغنية هو سعيد عقل.

لم يكن غريبا لا عليّ ولا على من حولي أن أتحدث عن رغبتي في الذهاب إلى القاهرة أو بيروت، أو لندن، أو باريس، فبالنسبة لطفلة تحب الشعر والإلقاء والتهام الكتب، بدا الأمر عاديا أن تكون لي أمنيات على ذلك النحو، فقد كان بودي في الحقيقة أن تنبت لي أجنحة وأطير حيث أريد، فقط ما كان مستغربا هو أن أعشق بيروت، أيام كانت تحترق بسبب الحرب الأهلية، أحببتها حتى وهي مكان غير صالح للعيش.

استحوذت بيروت على جزء من قلبي، حين كنت أسمع نشرات الأخبار المسائية، بدون أن أفهم منها شيئا. فؤادي كان يتمزّق حين يذكر اسم بيروت وهي تحترق، تماما مثل العشاق الذين تتعلّق قلوبهم بخيطان رفيعة يلهو بها الحب. يقول البعض لماذا بيروت تحديدا؟ هل لأنّها المصاب الأكبر اليوم؟ أم لأن اللبنانيين يعرفون كيف يسوّقون لمدينتهم؟ وهذه أسئلة فيها من الأنانية والقسوة ما يجب عدم البوح به.

بيروت حملت أوجاع العواصم العربية المنكوبة كلها، لملمت شتات المنفيين، والهاربين من الموت. في بيروت نجد بغداد، ودمشق، والقاهرة، وتونس والجزائر، والقدس.. في بيروت نجد المثقفين الذين حكمت عليهم أنظمتهم، ومجتمعاتهم بالموت بسبب أفكارهم التحررية، ينجو من يصل إلى بيروت، قبل أن يقرر أن يستقر، قد تكون مجرّد مركب نجاة يقوده لعاصمة أوروبية، أو أي بلد آخر أجنبي. فقد أصبحت الأفكار الحرة المنبثقة من الوعي الفردي، رغم ندرته، ثقيلة على أنظمة تفضل أن تحكم قطعانها في حظائر الجهل. لا أحد منح لبيروت شهرتها الواسعة وتميزها بين المدن العربية، غير ما كتبته أقلام الهاربين إليها، وما قدمه أبناؤها من إبداعات في كل الفنون. إذ يحضر اللبناني في أصغر التفصيلات الإبداعية وأكبرها، بدءا بالأدب إلى الموسيقى، والغناء، والأزياء، والمأكل والمشرب، والتفنن في ترك بصمة جمالية على الفضاءات التي يحلون فيها.

«بيروت قصّتنا، بيروت غصّتنا» كما قال درويش…

«وإن الموت يأتينا بكل سلاحه البرّي

والبحري، والجويّ

مليون انفجار في المدينة

هيروشيما، هيروشيما»

تحضرني هذه القصيدة بصوت محمود درويش فتملأني دمعا، أصغي إليها مرات ومرات، وهي تخترقني بصور لبيروت، في أفراحها وأتراحها، في سلمها وحروبها، ويبدو لي أن درويش كتب بيروت بنسغ روحه، كما أغلب الشعراء والكتاب الذين عاشوا فيها أو عبروها. المختلف عند درويش أنّه كتب نبوءته التي فاقت كل القصائد…

 

بيروت حملت أوجاع العواصم العربية المنكوبة كلها، لملمت شتات المنفيين، والهاربين من الموت. في بيروت نجد بغداد، ودمشق، والقاهرة، وتونس والجزائر، والقدس.. في بيروت نجد المثقفين الذين حكمت عليهم أنظمتهم، ومجتمعاتهم بالموت بسبب أفكارهم التحررية.

في هذا الرابع الحزين من آب انبعثت هيروشيما من كتب التاريخ العاصف، لتتربّع أمام أعيننا المفجوعة على ملامح بيروت، بصوت فلسطيني ظلّ يلوح مسالما بشعره في كل منابر العالم الحر حتى انطفأ في المهجر. تغنى الشعراء والأدباء عموما بمدنهم، وبأوطانهم، حتى إن جارت عليهم، لكن بيروت منحتهم عطاءاتها ومنحوها هذه الفخامة التي أصبحت لصيقة بها منذ الأزل. في كتاب للشاعر شوقي بزيع، يعتبر مختصرا مهما لسيرة بيروت التاريخية والثقافية، نقرأ عن أولئك الذين احتضنتهم هذه المدينة الاستثنائية، فشكّلوا الجزء الأجمل من سمعتها، إذ لا شيء يأتي من عدم، فثمة تحت الظلال الوارفة للشعر مكان آمن تنمو فيه بذور الحياة المنسية سهوا، خلال كل حرب ضروس خاضتها هذه المدينة ضد أعداء من كل صنف.

الكتاب الصادر عن دار الفارابي سنة 2010 يحمل عنوان «بيروت في قصائد الشعراء ـ دراسات ومختارات»، وهو منجز يمكن العودة إليه اليوم لفهم العلاقة الوطيدة بين المدينة والشعر، مرجع أساسي لإخماد ألسنة النّار التي طالتها من بعض الحاقدين، وإن كان الوقت حاليا ليس مناسبا أبدا لدلق السموم على الجراح.

بيروت جزء منا يا ناس، جزء من تشكيل وعينا، وأحلامنا، وطموحاتنا. بيروت تعني الكتب التي أنارت ليالينا، وملأت أسرتنا دفئا، وحلّقت بنا رغم جراحاتها المتكررة، بعيدا عن مواضع المأساة. كنت أصغي لصوت الغالية علوية صبح وهو ينهمر كشلال من دمع في تسجيل أرسلته لي، وهي مُصِرّة على أنها بخير…كل كلمة تلفظت بها، كانت مبللة بالدموع، ترتجف من هول الكارثة، مختصرة ما حدث بكلمة واحدة «قنبلة نووية» كررتها عدة مرات، ثم أضافت «لبنان انتهى يا بروين، بيروت انتهت» قبل أن تختم رسالتها بفائض من المحبة، هي نفسها المحبة التي نلمسها في كل جنبات بيروت حين نزورها. بعد سماعي لخبر الانفجار انشغلت بالتواصل مع أصدقائي للاطمئنان عليهم، تابعت ما حدث على بعض الشاشات العربية، والأجنبية، أردت أن أفهم ما حدث، وأكتب شيئا لا يُغَيّبني عن أحبتي فيها، فوجدتني ازداد تشتتا، وفيما لغتي تتقلّص، كانت فجيعتي تكبر، وجهلي يتّسع…

ماذا سأكتب؟

أتأمل البياض على جهازي، وأتحوّل إلى طفلة عاجزة، تكرر جملة واحدة «أحبك يا بيروت»، أكتبها عشرات المرّات، مثل واجب مدرسي، ثم أفتح كتاب شوقي، أغوص بين صفحاته، وأتحسّر، وأسمع مجددا أصوات أصدقائي وهم يطمئنونني، ثم أضيع وسط شعور هائل من الخوف. على مدى أسبوع أكتب أشياء وأشطبها، فقد بدا لي ما حدث أكبر من أي كلام قد يكتب، قرأت مقالات هنا وهناك، تراسلت أنا وبعض أصدقائي المقربين أكثر من المعتاد، تبادلنا عشرات الفيديوهات، عشرات التحليلات، عشرات القراءات والكتابات، وانهرت، فالتفسير الوحيد لكل ما حدث هو أننا محكومون إلى الأبد بقدر الفاجعة، نحن المثقفين العرب، نختلف عن مثقفي العالم، فنحن نعيش قدرا واحدا، لا محظوظ بيننا، ولا منحوس، فمن ينعم بوظيفة جيدة، وسكن ومدينة هادئة يعيش فيها، لا يعني أبدا أن روحه في مأمن مما يحدث خارجها. لقد تعلّقت قلوبنا بالقدس ونحن نسبح في أرحام أمهاتنا، ولطالما اعتقدنا أن النكبة قد يطويها الزمان، ولكن هذا لم يحدث، فكلما دكت إحدى مدننا العريقة بالصواريخ، والقنابل، عاد كل شيء إلى واجهة الذاكرة… جرح فوق جرح، طعنة فوق طعنة، ألم على آلام إلى ما لا نهاية.

بيروت بتاريخ طويل من الانفجارات، بكل أنواعها، لا تتوقف عن تذكيرنا بعواصمنا المنكوبة، ولا بهشاشة وجودنا العربي. فنحن ضحايا خلافاتنا بين بعضنا بعضا، قبل أن نكون عرضة لاستهدافات خارجية.. تذكرنا بيروت بالنهاية المأساوية لغسان كنفاني، وبلقيس زوجة نزار قباني، وبقائمة لا تنتهي من المثقفين الذين فُجِّروا لأسباب رغم اختلافها تبقى من وجهة نظري جرائم ضد قوة الكلمة.

واليوم تماما كما يقول اللبنانيون، سواء كان هذا الانفجار بسبب الإهمال والفساد الداخلي، أو بسبب صاروخ من جهة ما، فإن بيروت وأهلها هم الذين يدفعون الثمن مرة أخرى، ولا شيء بإمكانه أن يعوّض خسائرهم. لا معجزة تعيد الابن لأمه، والعروس لعريسها، والأب لأولاده، والفقيد لأهله. لقد حصد الموت ما أمكن حصده، وترك المدينة فاغرة فاها من هول الفاجعة، وتركنا بدون صوت، أشبه بالأموات منا بالأحياء. بيروت المنكوبة هي كل مدننا المطعونة، بكثير من الموتى، والأيتام، والأرامل والثكالى، والنحيب، والشعر المضمخ بالدماء والدموع.

أريد لصوت درويش أن يغلب صوت علوية في رأسي، لكنهما متداخلان معا، أعانق علوية وهي تردد بصوتها الباكي «بيروت انتهت يا بروين» فيما يعانقنا درويش معا وهو يقرأ شعرا كالصلاة «وعليك أن تحيا وأن تحيا، وأن تعطي مقابل حبّة الزيتون جلدك..

كم كنت وحدك…

لا شيء يكسرنا فلا تغرق تماما، في ما تبقى من دم فينا».

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين


مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي