إفراط في الحب
2020-08-11
 بروين حبيب
بروين حبيب

ماذا قال لها ذلك الشاب النحيف المكتئب ليستحوذ على تفكيرها؟ أمسك بيدها وتمشيا على الرصيف، ثم طبع قبلة مرتجفة على شفتيها، ثم عانقها، فإذا بها تقع في حبه.

في رواية أخرى هي التي تحرّشت به، كما دأبت أن تفعل مع شبان المساء، الخارجين من مقاهي الثرثرات الباريسية المفعمة بالشعر والسياسة، هي التي طلبت منه أن يقطعا الأرصفة مشيا في ساعة متأخرة من الليل، هي التي لامست أصابعه، واحتكت بجسده، هي الخبيرة بمواطن الإثارة السريعة، هي التي نظرت في عينيه وسحبته إلى شفتيها، هي التي فعلت ذلك، وقد كانت ملتهبة، ومستعدة لمعاشرته، لكنه تريّث، كان مختلفا عنها تماما، إضافة إلى أنّه متزوج.

لم تكتف بما حدث، لاحقت الشاعر الشاب برسائل تنبعث منها رائحة النيران، وأبخرة الشهوة، كتبت له بعد تلك الليلة تذكره بما حدث، وقد كان بالإمكان أن يكون عابرا، كما يحدث دوما بين امرأة ورجل التقيا صدفة في بار، لولا تلك الرسائل التي سكبت فيها زيتها ورمت فوقه الكثير من أعواد الكبريت. إلى تلك اللحظة لم يكن يعلم أنه وقع في شباك المرأة التي تسابق المتعة، امرأة لا يعنيها إن آلت علاقاتها بالرجال إلى الزوال أو استمرت، في رسالتها الأولى تكتب له «أود أن استرجع تلك اللحظة ألف مرة، على الأرصفة، وكل ساعة من مساء اليوم. ما زلت أريد أن أشعر بذلك العنف، وبلطفك، وبتهديداتك واستبدادك الروحي، وكل تلك المخاوف التي تلهمني».

تبتكر له اسما لطيفا «ناناكي» وتحاول إثارة غرائزه بما تتقنه من مفردات. قيل إن بعض الرسائل كان يقوم زوجها بإرسالها، بدون أن يعرف محتواها. وهذا من أغرب ما يمكن أن نقرأه، حول علاقات أناييس نن برجال عديدين، ذكرتهم في يومياتها، مؤكدة أنها لم تكن صادقة قط مع أي كان من أصدقائها ومعارفها، كما هي صادقة في يومياتها، غير أن أمرها يبقى غريبا ومريبا، خاصة أنها تكتب يومياتها في دفترين، واحد منهما بالتأكيد هو المقصود.

بدأت نن تكتب يومياتها منذ عمر الحادية عشرة، حين خطر لها أن تكتب رسالة مطولة لوالدها، لتقنعه باللحاق بهم إلى أمريكا، ولا ندري هل هذا بالضبط ما حدث، أم أنه وهم آخر من أوهامها التي وثقت لها على أنها حقيقة. فقد تحوّل دفتر يومياتها إلى رفيقها الحقيقي في كل مكان، والجزء الأكثر إثارة في حياتها الأدبية والشخصية معا. في رسائلها إلى أنطونين آرتو الذي اخترعت له اسم «ناناكي» تذهب بعيدا في تلويث ما تبقى من دماغه بفلسفة الحب التي تؤمن بها، حب مفرط، فاجر، انتحاري، مريض لا شفاء منه إلا بالانغماس فيه حتى الانشطار. بالنسبة لرجل عاش طفولة قلقة، عانى فيها من أمراض عصيبة، منها التهاب السحايا، الذي خرج منه بأعراض جانبية دائمة، كان ذلك الحب المجنون يفوق طاقته، ومع هذا ليس الوحيد الذي دخل في دوامة أناييس نن. وإن كان هناك عطب في مخه، فقد نفخت عليه تلك الساحرة نفخة لا شفاء منها أبدا. كانت كلماتها بقوة الحياة والموت، وحيثما تضع قدميها يتوهج المكان.

في بداية سنة 1930 ستقطن ابنة عازف البيانو الكوبي خواكين نن بيتا جميلا في مرتفعات لوفسيان، مع زوجها البنكي القادم من بوسطن، وستخرج من تحت جلدها شياطين الجنس كلها، لتقلب المدينة رأسا على عقب. فلا أحد توقع أن تلك السيدة الناعمة الجميلة الرقيقة، لديها سلطة على الرجال تخيفها هي نفسها أحيانا. لن يمنعها زواجها من الوقوع في الحب، وإقامة علاقات في عش الزوجية، لقد عرفت سر سيطرتها على الذكور، لأنها كما ذكرت في مذكراتها، تجردهم من أثوابهم وأقنعتهم وألقابهم ومكتسباتهم وتتعامل معهم وفق الطبيعة البشرية.

 

كانت السيدة نن استثناء في عالم الحب، وإن كانت رمزا وموضوعا جيدا للإيروتيك، فهي عاشت حتى التخمة مشاعر الحب على أنواعه، بدون أن تُحَمّل نفسها أعباء الشعور بالخطيئة، عاشت متسامحة مع نزواتها، معتبرة ما حلّ بها قدرا لم تختره.

حدث أن داهم زوجها البيت وهنري ميللر في فراشها، فأسرع هذا الأخير بجمع ثيابه وارتدائها في غرفة الجلوس، وحين أقبلت عليه سألها ألم يكن هنري في فراشنا؟ فردت عليه ببرود بعد أن اخترعت له حكاية تبرر دعوتها له ليقضي الليل عندهما: بربك هيو حين أريد إقامة علاقة مع رجل فلن أفعلها في بيتي! نن الساحرة استحوذت على تفكير ميللر حين دعته للعشاء مع زوجته، سحرته ببيتها، ومدفأتها، وعشائها الفاخر الذي اتقنت تحضيره، كانت تشبه بطلات السينما المكللات بالخصال الجميلة كلها. ولعلها في تلك اللحظة الفارقة بدت أكبر مكانة من الرجل الثري الذي تزوجته، كانت أشبه بالجوهرة النادرة التي قامر وحصل عليها.

بين الرسائل التي كتبتها لآرتو، وتلك التي كتبتها لميللر، نتعرّف على المرأة المنقذة، التي أرادت رجلا استثنائيا في حياتها يملأ كل رغباتها فكريا وجسديا، لكن شرط أن تكون نافعة بالنسبة له، وقد لعبت ذلك الدور، مع كل رجل دخلت حياته. هل كانت ملهمة؟ ربما بمفهومنا الحالي كانت امرأة إيجابية تملك من الطاقة ما يجعل المحتك بها ينفجر إبداعا. لكن السيدة التي تملك بيتا ريفيا جميلا، وزوجا يغدق عليها بكل متطلبات الحياة الكريمة، والتي رأت نصف العالم في أسفارها الكثيرة، متلذذة بقدرتها على أسر رجال الفكر والثقافة والمال، لم تتوقف أبدا عن ممارسة جنونها، كان هناك سر يمتعها ويجعلها لا تكتفي بعيش المغامرة، بل يمتد إلى تدوينها، فلماذا فعلت ذلك؟ وما الذي أوقعها فعلا في حب كل أولئك الرجال؟

بعد مئة عام من مولدها، يعتقد رجال الفكر ونسائه أن أناييس نن حققت لنفسها الحياة التي رغبت أن تكون للآخرين، وإن كل من تأثر بها محاولا استخدام لغتها ومطالبها من أجل حرية مطلقة للنساء، لم يبلغ جرأتها، ولا شغفها المجنون بالحرية، حتى إن اعتبرتها نسويات كثيرات «الأم الروحية» لهن، إلاّ أنها لم تكن أبدا كما وصفها الإعلام. يذهب بعض المقربين إليها إلى أنها مصابة بمرض نادر اسمه الإفراط في الحب، فهي لا تعرف أن تتعامل بحيادية مع الذين تحبهم، فقد لجأت لطبيب نفسي انتهت علاقتها به بعد ممارستها الجنس معه، فاختارت طبيبا آخر لاقى المصير نفسه، إذ تورّط معها بعلاقة عاطفية سرية أتعبته.

هل كانت شيطانا أم ملاكا؟

ينطرح السؤال بهذه الصيغة ولا أدري إن كان سيطرح لو أن هذا الكم من العلاقات الجنسية والعاطفية محصِّلة حياة كاتب لا كاتبة؟ لقد أردت التوقف عند «معنى الحب» عندها، باحثة عن سبب منطقي لاندفاعها في علاقات غير متزنة ومستعجلة وزائلة لا محالة، فوجدت السر في قولها: «لا أستطيع التفكير أو التحدث بعد الآن. يا إلهي، لا أعرف فرحة أكبر من هذه اللحظة، لحظة إلقائي بنفسي في حب جديد، لا أعرف نشوة مماثلة كتلك التي تنبثق من رحم حب جديد. أحلق وأرقص في السماء، أطفو وجسدي ممتلئا بالزهور. يزهر جسدي كلما لامستني الأصابع المداعبة لي، أصاب برعشات الفرح، وبالدوخة، نعم بالدوخة، ويمتلئ داخلي بالموسيقى، فأصاب بالثمالة. فقط أغمض عيني وأتذكر… وجدت الحب، الحب المتبادل، المشترك، المبارك بنشوة جديدة، ومختلفة، في كل مرة أجد الحب، رجلا جديدا، وعالما جديدا».

على هذا الأساس لقد كانت السيدة نن استثناء في عالم الحب، وإن كانت رمزا وموضوعا جيدا للإيروتيك، فهي عاشت حتى التخمة مشاعر الحب على أنواعه، بدون أن تُحَمّل نفسها أعباء الشعور بالخطيئة، عاشت متسامحة مع نزواتها، معتبرة ما حلّ بها قدرا لم تختره، لقد كان جزءا من شخصيتها، سواء كان ناتجا عن إخفاقها في استرجاع والدها، أو عن إدمانها نشوة بدايات الحب لملء فراغ آخر، لكنه في كل الحالات كان السبب الأقوى لوجود مذكراتها بين أيدينا، والتي لا تقدر بثمن.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي