فيلم «النمر الأبيض».. ثورة العبد الصالح

2021-03-19

القاهرة - محمد عبد الرحيم - «خلال عشرة آلاف سنة من تاريخه، لم ينتج هذا البلد ما هو أعظم من قن الديوك، بوسع الديوك رؤية وشم رائحة الدماء، مع علمها أنها التالية، ولا تتمرد، أو تحاول الهرب، وقد جرى تدريب الخدم هنا لكي يتصرفوا بالطريقة نفسها، فإخلاصهم قوي جداً، بحيث إنه يمكنك وضع مفتاح التحرر في يد المرء، فيرميه عليك ويشتمك». (بالرام/النمر الأبيض)

كتب أرافيند أديجا ـ كاتب وصحافي هندي، مواليد عام 1974 ـ روايته الأولى «النمر الأبيض» ونشرها عام 2007، لتحصد جائزة البوكر العالمية بعدها بعام. وقد صدّر الرواية بإهداء إلى صديقه الإيراني رامين بهراني، الذي صرّح بعد ذلك بأن فصول الرواية كان يطالعها فصلاً فصلاً بمجرد كتابتها، وقبل نشرها، حتى قام بهراني بإخراجها هذا العام في فيلم يحمل الاسم نفسه.. «النمر الأبيض». وقد حقق الفيلم ـ كما الرواية ـ نجاحاً ملحوظاً، سواء نسبة المشاهدة أو مقالات نقدية تناولت العمل السينمائي وأحياناً الرواية نفسها، وما تمثله اليوم، وما كانت تتنبأ به منذ سنوات. الفيلم أداء.. بالرام (أدارش جوراف)، آشوك (راجكومار راو)، بينكي (بريانكا جوناس). إنتاج نتفليكس 2021.

قفص الدجاج

بالرام رجل أعمال يجلس إلى مكتبه الخاص، فهو صاحب شركة تاكسي أطلق عليها اسم (النمر الأبيض) في مدينة الأعمال والمال، ومن خلال جهاز اللاب توب يكتب رسائله إلى رئيس وزراء الصين، قبل مجيئه في زيارة مرتقبة إلى بلاده (الهند). وحتى يكشف له الهند الحقيقية، وحتى لا يتورط الرجل الصيني في سماع الخرافات والترهات من نظيره الهندي، فقد انتوى بالرام إطلاعه على الحقيقة.. «إذهب إلى دلهي القديمة وانظر إلى الطريقة التي يحتفظون بها بالدجاج في السوق. مئات من الدجاجات الشاحبة والديوك ذات الألوان الزاهية مكدسة في أقفاص من الأسلاك. يرون أعضاء بني جنسهم ملقاة من حولهم.

وهم يعرفون أن الدور سيأتي عليهم، لكنهم لا يستطيعون إعلان تمردهم. لا يحاولون الخروج من القفص. الشيء ذاته يحدث مع البشر في هذا البلد». وما الحقيقة إلا قصة حياة بالرام نفسه، وكيف فرّ من قفص الدجاج ليصبح بحق نمراً أبيض. مطمئناً الرجل في النهاية بأن قرن الرجل الأبيض قد انتهى .. «إنه قرن الرجل البني والرجل الأصفر، والله ينقذ الجميع».

النمر الأبيض

يعود بالرام إلى طفولته في إحدى القرى الهندية ـ هند الظلام ـ ونظراً لتميزه وذكائه طفلاً، فهو يتحدث الإنكليزية جيداً، يُبشره المدرس بمستقبل مشرق، فهو مثل (النمر الأبيض) ذلك المخلوق النادر، الذي يأتي مرّة كل عدة عقود. إلا أن والد بالرام يموت بالربو، فيضطر الطفل للعمل في الفحم الحجري الذي تشتهر به قريته. لكن طموحه ينازعه الفرار من قريته/قفص الدجاج، فيتعلم قيادة السيارات، حالماً بالعمل لدى سيد القرية، الذي يعيش في نيودلهي، وينجح في ذلك، خاصة بعد كشفه للسائق القديم والوشاية به لدى عائلة سيده بأنه مُسلم.

ويقترب بالرام من العائلة أكثر، خاصة الابن الشاب (آشوك) العائد من أمريكا، هو وزوجته المتأمركة (بينكي)، التي تحاول معاملته كإنسان ـ وفق ديمقراطيتها الأمريكية ـ لا كعبد. هذه الديمقراطية نفسها التي تنتفي عندما تصر بيكي على القيادة، وهي في حالة سُكر، فتصدم طفلاً ماراً، فلا تجد العائلة للخروج من المأزق إلا بأن تقدّم بالرام قرباناً لفعلتها.

يكتشف بالرام أن حياته ليست كما يظن، وأنها من سيئ لأسوأ تسير. وفي زيارة إلى حديقة الحيوان مع ابن أخيه الطفل، يرى النمر الأبيض، فيزوغ بصره ويُصاب بالإغماء، متذكراً ومضات من حياته.. خاصة أبوه، الذي ظن الطبيب موته، فكان يحترق أمام بالرام في الجنازة وهو لم يزل حيا، كذلك جدته القاسية، التي تستحوذ على نقود العائلة، والسيدة بينكي وديمقراطيتها الزائفة، وزوجها السيد آشوك، الذي يحاول أن يعامل بالرام بإنسانية، لكنه لا يتورع عن صفعه وهو غاضب. كان لابد من الخروج من كل هذا، بل والانتقام، وقد انتوت الأسرة استبداله بسائق جديد، وهو لا يستطيع العودة مرّة أخرى إلى قفص الدجاج.

السيد الجديد

تخضع الهند لنظام إقطاعي غير رسمي، فلكل قرية سيد يجبي الضرائب من سكانها، ولا يتم توظيف خادم عنده إلا بعد جمع معلومات عنه وعن أسرته، فأي خطأ يحدث لن يدفع ثمنه الخادم وحده، بل قد يصل الأمر للقضاء على أسرته بالكامل. (الأمر نفسه في مصر بعد تحول الإقطاعيين إلى رجال أعمال ونواب برلمان). وهنا كان على بالرام أن يفعل فعلته مهما كان ثمنها، حتى يتحول إلى سيد جديد، ولا سبيل إلا فعلة يمجدها مجتمع الفساد هذا. وطوال أحداث الفيلم نرى تنويعات للفساد، فلا يعيش السادة إلا من خلاله.. فـ(الاشتراكية العظيمة) التي تقوم بدور رئيسة وزراء الهند، تلك المرأة التي تزور القرى وسكانها، وتتكفل تعليم بعض الأطفال، لا تفعل ذلك إلا ليستمر حزبها في الحكم ـ لا ننسى حشد الدجاج/المواطنين للتصويت في الانتخابات ـ فهي سيدة الأسياد، وتجبر السادة الصغار على دفع الرشوة لها ولحزبها، حتى تنجيهم من مشكلاتهم مع الدولة، وعلى رأسها التهرب الضريبي ـ حق الفقراء ـ حتى أن عملية الرشوة التي قام بها (آشوك) تتم أسفل تمثال (غاندي)، وتستمر معزوفة السخرية هذه عندما يقتل بالرام سيده آشوك، بل يسطو على اسمه ـ كسيد جديد ـ وهو يعلم جيداً مصير فعلته، وهو القيام بتقديم رشوة كبيرة لمسؤول الأمن في المدينة، فمَن إذن سيتعرّفه، وكل الهنود يشبه بعضهم بعضا.

رئيسهم فقط

ويختتم بالرام رسائله إلى رئيس الوزراء الصيني، بتتويج رحلة كفاحه، وحياته الآن في مدينة النور ـ الهند الأخرى ـ بأنه أصبح سيداً، لكن ليس كسيده الذي تخلص منه، بل يُعامل تابعيه بمنتهى الإنسانية.. «كنت في يوم من الأيام سائقاً لدى سيد، لكنني الآن سيد السائقين. أنا لا أعاملهم مثل الخدم، فأنا لا أصفع أو أتنمر أو أسخر من أي شخص. أنا لا أهين أياً منهم. إنهم موظفون لديّ، أنا رئيسهم، هذا كل شيء».

وفي الأخير.. نجد العديد من الأعمال الفنية أصبحت لا تجد الحل إلا عن طريق وسائل انتقامية لا مفر منها، فالتفاوت الصارخ بين مدن تعيش في النور وأخرى تغرق في الظلام، إضافة إلى فساد أخلاقي يتفق حوله كل من رجال السلطة وأصحاب المال، وسياسات اقتصادية انتقامية، تجعل من الفرد العادي/المواطن مجرد جرذ في متاهة، فلا مفر إذن من حل فردي ـ كما العصر الذي نحياه ـ فهل يمكن أن نختلف ـ مهما كانت الفِعلة ـ مع النمر الأبيض أو الجوكر مثلاً؟

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي