الروائي الفرنسي جول فيرن: الخيال العلمي ومستقبل البشرية

2021-03-09

زيد خلدون جميل *


يمثل الخيال العلمي جزءاً أساسياً في عالمي الأدب والسينما في الوقت الحاضر، بل إن أشهر الأفلام السينمائية حاليا تنتمي إليه. ولكن هذا يعد ظاهرة حديثة نسبيا، فلم يدخل الخيال العلمي الأدب الحديث بشكل جدي، سوى في أواسط القرن التاسع عشر، على يد الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي جول فيرن، ولكن متابعة مسيرة هذا الكاتب التي أوصلته إلى الصف الأول من الأدباء الفرنسيين، تمثل دراسة متعمقة للتطورات التي طرأت في فرنسا من النواحي الاقتصادية والعلمية والسياسية والثقافية. ويعتبر إنتاجه الأدبي، الذي بلغ حوالي الستين رواية، في الوقت الحاضر ثاني أكثر الأعمال ترجمة إلى اللغات الأخرى في العالم بعد البريطانية أجاثا كريستي، وقبل البريطاني وليام شيكسبير.
ولد جول فيرن عام 1828 في مدينة «نانت» الفرنسية لعائلة ميسورة، حيث كان والده محاميا ناجحا. وقد وفّر والداه له أفضل تعليم ممكن في فرنسا تلك الفترة، على أمل أن يكون محاميا كوالده. وأدى ذلك إلى اطلاع فيرن على أشهر الأعمال الأدبية في عصره، لاسيما أعمال الكاتب والشاعر الفرنسي فكتور هوغو، التي تأثر بها، وسرعان ما حاول الكتابة في فترة المراهقة لروايات طويلة مشابهة لأعمال هوغو. ولكنه لم يهمل دراسته لئلا يخيب آمال والده، فأنهى الدراسة الثانوية وانتقل إلى باريس لإكمال دراسته الجامعية في القانون، ولكن هذا لم يمنعه من المحاولة الجادة لتحقيق أحلامه، حيث انكب على الكتابة، كما نجح عن طريق معارف عائلة والدته في اختراق الأوساط الأدبية في باريس، التي كانت في تلك الفترة عاصمة الثقافة الأوروبية. وبالإضافة إلى جديته في دراسته وكتاباته الأدبية المستمرة، فقد انكب على الاطلاع على آخر المستجدات العلمية والثقافية، في فترة لم يكن فيها التلفزيون والراديو والإنترنت موجودة، وكانت الكتب والصحف الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يدور في العالم. وكانت الصحف الفرنسية في بداية القرن التاسع عشر محدودة الانتشار، بسبب تكلفتها العالية، وانتشار الفقر والأمية.
ولكن القرن التاسع عشر كان كذلك قرن الثورة الصناعية والاختراعات، وترسخ لدى الكثيرين الاعتقاد بأن التكنولوجيا لا حدود لها، وأنها ستحقق كل شيء. وكان ذلك القرن كذلك عصر المستعمرات وانتشار التعليم، وظهور طبقة ميسورة ومهتمة بالثقافة العامة، ما جعل الصحف تزداد انتشارا تدريجيا لاسيما بعد عام 1836، عندما أخذت الصحف الفرنسية بنشر الإعلانات التي قللت من تكلفتها كثيرا. وأصبحت الصحف كذلك وسيلة للإنتاج الأدبي، حيث أخذت تنشر القصص على شكل أجزاء متسلسلة، وأصبحت أحد وسائل النشر لكبار الأدباء في أوروبا مثل الكاتب الروسي دستويفسكي. وكان للتطور التكنولوجي أثر بالغ في زيادة شعبية الصحف، حيث ظهر التلغراف التجاري عام 1837 ما جعل الأخبار تنتقل بين مختلف أرجاء العالم في أقل من ثانية.
أثناء دراسة فيرن للقانون، اندلعت ثورة عام 1848 في فرنسا التي أطاحت بالحكم الملكي، إذ فر الملك لويس فيليب بدون مقاومة. ويعتقد مؤرخون أن فيرن تأثر بمبادئ تلك الثورة، وظهرت بعد ذلك في إنتاجه الأدبي. وتعرف فيرن عام 1849 على الكاتب الفرنسي أليكساندر دوماس، وابنه الذي كان أديبا معروفا أيضا وأصبح صديقا لهما لاسيما الابن. وساعده الاثنان في عرض إحدى مسرحياته على خشبة مسرح معروف في باريس، بعد أن قام دوماس الابن بمراجعتها، ولكن بنجاح محدود عام 1850. ولم يقتصر دوماس الابن في تقديم تلك المساعدة، إذ توسط لتعيين فيرن مديرا لذلك المسرح في العام التالي. وفي عام 1851 نشر فيرن أولى قصصه بعنوان رحلة في منطاد في إحدى المجلات الثقافية التي كان رئيس تحريرها صديقا من منطقته وكان رد فعل القراء جيد. وكان لهذا النجاح أثر بالغ في تحديد اتجاه فيرن في نوع جديد من الأدب، ألا وهو مجال الخيال العلمي، حيث كانت مغامرة شيقة تميزت بآخر ما توصل إليه العلم في تلك الفترة، وتدور أحداثها في إحدى المناطق البعيدة. وتلقى تشجيعا على ذلك من دوماس الأب، الذي كان قد قام بمحاولة غير ناجحة في هذا المجال.

بول لوكاس (يمين) وبيتر لوري وكرك دوغلاس وجيمس ميسن في فيلم عشرين ألف فرسخ تحت البحارعام 1954.
على الرغم من إنهائه دراسة القانون بنجاح وحصوله على رخصة العمل محاميا، فقد قرر فيرن التفرغ للعمل الأدبي، ما أثار حزن والده الذي ألح عليه ترك الكتابة الأدبية والتفرغ للمحاماة، إلى درجة أنه عرض عليه أن يحل محله في مكتب المحاماة الخاص به، ولكن بدون جدوى. ولكن ما أثر فيه كان امرأة حيث تزوج عام 1857 من أم لطفلين، ما زاد من أعبائه المالية، فاضطر إلى العمل في البورصة بكل جهده لإعالة عائلته، بدون أن يمنعه ذلك من الكتابة الأدبية، فقد كان يكتب في الفجر قبل ذهابه إلى العمل، ويكمل العمل بعد عودته إلى المنزل، كلما سمح له الوقت. وتعرف في تلك الفترة على أحد مشاهير المصورين الذي كان كذلك من هواة المناطيد حيث كان أول من صور المدن من الجو، وكانت أولى محاولاته تصوير مدينة باريس 1858. وأسس الاثنان عام 1862 جمعية أبحاث الملاحة الجوية، حيث كان فيرن أمينها العام. وفي تلك السنة التقى كذلك بأحد أشهر الناشرين في فرنسا، الذي كان يخطط لإصدار مجلة نصف شهرية تضم مقالات أدبية وثقافية من أرقى المستويات. وعلى ما يبدو أنه كان يتمتع بقابلية على الإقناع، إذ توصل الاثنان إلى اتفاق نص على تزويد فيرن روايتين أو ثلاثا للناشر كل عام مقابل عشرين ألف فرانك لمدة عشرين عاما، على أن تنشر كل رواية على شكل سلسلة في تلك المجلة. ومن غير المعروف من كان المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق، ولكن فيرن كان مستعدا لقبول أي شيء في تلك اللحظة، بسبب المبلغ المالي الذي لم يستلم مثله سابقا، ورغبته الشديدة في الحصول على الشهرة. ولهذا السبب تقبل بكل رحابة صدر التدخل المستمر والواضح للناشر، في تفاصيل الروايات التي كان فيرن يؤلفها. وقدم فيرن له خلال أسبوعين رواية «خمسة أسابيع في منطاد» التي كانت مستوحاة من رحلة صديقه بالمنطاد.

ونشرت تلك القصة يوم الحادي والثلاثين من كانون الثاني/ يناير عام 1863. وامتازت تلك الرواية بكل ما اشتهر به فيرن في كل ما كتبه بعد ذلك، فقد كانت عن مجموعة من البريطانيين يقومون برحلة استكشافية في أفريقيا على متن منطاد. وكان موضوع الرواية مثاليا، حيث كانت الصحف الفرنسية آنذاك تعج بالأخبار عن الاكتشافات في افريقيا وأصبحت شغل الكثيرين الشاغل، ما سبب نجاحا فوريا وكبيرا للرواية. واستمر العمل على هذا المنوال، حيث نشرت الروايات بشكل متسلسل في الجريدة، وكانت تجمع كذلك على شكل روايات كاملة قبيل نهاية السنة، وفي ثلاثة أشكال من حيث التكلفة، كي تكون هدايا لأعياد الميلاد. واستمر التعاون السلس بين الاثنين، فنشر فيرن أشهر رواياته مثل «رحلة إلى مركز الأرض» (1864) و»من الأرض إلى القمر» (1865) و»عشرون ألف فرسخ تحت البحر» (1869) و»حول العالم في ثمانين يوما» (1872) التي تحولت في ما بعد إلى أفلام سينمائية شهيرة مثّل فيها أشهر نجوم هوليوود. وكان لرواية «عشرون ألف فرسخ تحت البحر» أهمية خاصة في العلاقة بين الرجلين، حيث كان بطل الرواية «الكابتن نيمو» (نيمو كلمة لاتينية تعني «لا أحد») في النسخة الأولى بولنديا ينتقم من الروس الذين قتلوا عائلته. ولكن الناشر اعترض لأن ذلك كان سيعني فقدان الجمهور الروسي الذي كان جزءا مهما من قراء روايات فيرن. ولم يرق هذا لفيرن، وبعد جدال بين الاثنين تم الأتفاق على إلغاء جنسية البطل وجنسية ضحاياه مع إبقاء بقية التفاصيل، ولكن العلاقة بين الرجلين تغيرت بسبب هذا الجدال، وأخذ فيرن يجادل الناشر، كلما أبدى اعتراضا بشكل متزايد. وقد يكون أحد أسباب اعتراض فيرن أن موقفه عام 1869 كان مختلفا عن ذلك الذي كان عليه عندما أبرم الاتفاق مع الناشر1862، فقد أصبح شهيرا وفي مستوى مالي أفضل بكثير، وكان الناشر يعتمد على رواياته في مبيعات المجلة. واستمرت شهرة فيرن في الازدياد حتى وصلت أوجها عام 1872. وعند وفاة الناشر عام 1886 تغير أسلوب فيرن حيث أخذ ينشر روايات ذات طابع كئيب. ووسع من نشاطه بعد ذلك ودخل عالم السياسة، وأصبح عضوا في بلدية منطقة قريبة من باريس، وحقق الكثير من الإصلاحات فيها، كما عاش ثريا بسبب الروايات التي نشرها والمسرحيات المقتبسة منها حتى توفي عام 1905.

شرلي مكلين و ديفيد نيفين في فيلم حول العالم في ثمانين يوما عام 1956
امتازت روايات فيرن في مجال الخيال العلمي بالمغامرات الشيقة التي اشتركت في عدة عوامل. وكان العامل الأول دقة التفاصيل الجغرافية والأسس العلمية لأحداث الرواية، حيث كان فيرن على اطلاع غير عادي على آخر المستجدات العلمية. وكان العامل الثاني أن التكنولوجيا لم تكن بعيدة جدا عما كان معروفا في تلك الفترة، ما جعل الروايات قريبة من المنطق. وجعل هذا القارئ قادرا على تقبل الخيال في مجال جديد، على عكس القارئ في الوقت الحاضر المعتاد على الخيال العلمي، ما يعطي القابلية للمؤلف على إطلاق العنان لخياله، ففي رواية «من الأرض إلى القمر» تنتقل المركبة إلى القمر عن طريق مدفع ضخم في منطقة قريبة من قاعدة «كيب كانافارال» التي انطلقت منها رحلات «أبوللو» الأمريكية. وتوقع فيرن انعدام الجاذبية في الفضاء وأن درجة الحرارة على القمر منخفضة جدا وأن العودة إلى الأرض ستكون على شكل مركبة تسقط في البحر. وكان عدد المسافرين في المركبة ثلاثة وهناك تفاصيل أخرى تجعلها مشابهة لبرنامج «أبوللو»، الذي أنجزته وكالة «ناسا» الأمريكية. وفي رواية «عشرين ألف فرسخ تحت البحر» اعتمد على غواصة ذات قدرات هائلة تدعى نوتولوس. ولم تكن غواصة من هذا النوع موجودة آنذاك، ولكن القارئ كان قادرا على تخيلها بسبب ظهور الغواصة بشكل بدائي في تلك الفترة. وأصبح اسم الغواصة «نوتولوس» مقرونا بالغواصات بسبب روايته تلك، إذ كان اسم أول غواصة نووية أمريكية، وقامت بأول رحلة تحت جليد القطب الشمالي. أما العامل الثالث، فكان وقوع أحداث الروايات في مناطق بعيدة في العالم، ما جعل الروايات من أدب الرحلات. وكان هذا عاملا مهما حيث كانت تلك المناطق البعيدة تثير خيال القارئ في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من خلو الروايات من علامات دينية وسياسية واضحة، فإن فيرن نشر روايتين معاديتين لألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة التي كانت الدول العظمى المنافسة لفرنسا في ذلك الوقت.
لكن ماذا عن توقعات فيرن حول مستقبل البشرية؟ كان فيرن قد كتب عام 1863 رواية «باريس في القرن العشرين» التي كتب فيها توقعاته عن باريس عام 1960، ولكن الناشر رفض نشرها لكونها كئيبة، ما قد يؤذي مبيعات الروايات. وفقدت الرواية حتى تم اكتشافها من قبل أحد أحفاده عام 1989، وتم نشرها عام 1994 وكانت الأكثر مبيعا في فرنسا. وتوقع فيرن في الرواية استعمال الكهرباء والسيارات ذات محرك الاحتراق الداخلي والطرق المعبدة وقطارات الأنفاق ومراقبة السلطات للمواطن بالتكنولوجيا والقطارات التي تعمل على المغناطيس وأجهزة الفاكس والمصاعد والكومبيوتر وحتى الإنترنت وإنتاج الكهرباء من الريح والسيطرة على الأسلحة عن بعد وانتشار التعليم. ولكن كل هذا لم يكن أهم ما توقعه بالنسبة لمصير البشرية لأنه توقع أيضا أن تنحصر أساليب الترفيه على الجنس، وأن يصبح اهتمام البشر محصورا على المال والتكنولوجيا بشكل مقرف وإهمال الثقافة التام وحتى احتقار العالم للمثقفين والمفكرين. ولعل فيرن شعر بكل هذه الجوانب السلبية في عصره، فتوقع زيادتها الكبيرة في المستقبل. ولكن السؤال الأهم هنا هو هل كانت توقعاته حول مجتمع المستقبل صحيحة؟ لم يكن فيرن سعيدا في سنواته الأخيرة، فعلى الرغم من شهرة رواياته الواسعة وحصوله على وسامين من الحكومة الفرنسية، فقد اعتقد أن المجتمع والأوساط الأدبية لم تعتبره بمستوى كبار الأدباء مثل فيكتور هوغو، لاسيما أنه فشل في أن يصبح عضوا في ألأكاديمية الفرنسية التي كانت تضم خيرة أدباء وعلماء فرنسا. ومع ذلك فإن روايات فيرن ستبقى حية في عالم الأدب، وستستمر السينما العالمية تقتبس رواياته.

 

*باحث ومؤرخ من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي