"صالة أورفانيللي" رواية تصحح نظرة العداء الشعبوي لليهود

2021-01-13

لا أشرع في كتابة رواية إلا إذا رأيت أحداثها بالكاملمصطفى عبيد

 

لم يمض الأدب العربي بعيدا عن خطاب الكراهية لليهود، المستمد من صراع لم يكن في حقيقته مع الدين اليهودي، وإنما مع دولة إسرائيل، وصورت معظم الروايات اليهود تصويرا شديد السلبية.

وقبل أيام في القاهرة احتفى جمهور الأدب، برواية جديدة لأشرف العشماوي بعنوان “صالة أورفانيللي”، نهج فيها مسار سرد التاريخ بلغة مغايرة، وهو ذاته نهج رواياته التاريخية السابقة، غير أنه أعاد هذه المرة تقديم الشخصية اليهودية باعتبارها مصرية أصيلة، بعيدا عن الخطاب التحريضي المعتاد، وتعرض ضمن خلفيات رواياته لمعاناة عائلات يهودية في مصر بسبب تحولات السياسة، دون أن تكون طرفا أصيلا فيها.

تشخيص دقيق

يقول أشرف العشماوي، لـ”العرب”، إنه يرى اليهود المصريين كأشخاص طبيعيين، وليسوا أشرارا بالفطرة كما تم تصويرهم من قبل، ولا يختلفون عن أي مواطن آخر في شيء، فمنهم الطيبون، وربما الطيبون جدا، ومنهم الأشرار، ولا يمكن التشكيك في انتماء اليهود في مصر أو في العالم العربي لبلادهم، لمجرد أنهم يهود، وهو ما تطلب منه أن يعيد قراءة تاريخ اليهود في مصر بشكل أكثر حيادية، ودون تحيز أو ربط في المطلق بين اليهود وبين دولة إسرائيل.

نظرة منصفة لليهود خارج إطار العداء التقليدي

ويوضح أن تعرضه لليهود جاء من منطلق أن أحداث روايته تدور في صالة مزادات، وقد كان لليهود تأثير كبير في عالم المزادات.

يرى الروائي المصري أن ما تردد، وبقي لسنوات في العقل الجمعي عن كراهية اليهود المصريين، مرجعه دور الإعلام العربي والمصري في فترة الخمسينات والستينات، عندما استهدفت الآلة الإعلامية تشويه اليهود وتصويرهم أنهم طابور خامس لإسرائيل، وأن اعتقاده الشخصي وإيمانه بالعدالة دفعاه للقول إن ذلك غير دقيق.

تدور رواية “صالة أورفانيللي” حول شريكين مصريين، أحدهما يهودي، وهو الأكثر طيبة، يؤسسان معا صالة مزادات في الثلاثينات ليمدا علاقات واسعة بكبار رجال الدولة المصرية، والأثرياء والأجانب، وتدور حكايات مدهشة حول التشابكات الاجتماعية لحاشية الملك، وخيوط الفساد.

تتابع الأحداث السياسية ويتم الضغط على اليهود شعبيا، بعد تأسيس دولة إسرائيل، وصعود جماعة الإخوان المسلمين، ويتعرضون لتفجيرات وحوادث إرهابية وازدراء سلطوي بعد ثورة يوليو 1952، فيضطر بعضهم للهرب، والبعض الآخر لتزوير هوياتهم.

تثير النظرة المنصفة لليهود خارج إطار العداء التقليدي، توقعات بانتقاد الرواية من خارج جمهور الأدب بدعوى مغازلة اليهود، وهو ما لا يضع له الروائي أي اعتبار.

يقول العشماوي، إنه عانى من قبل من الاتهام بمغازلة اليهود عندما كتب رواية “تذكرة وحيدة للقاهرة”، ونشرها عام 2016، لأنه قدم فيها شخصية مدام بارديان اليهودية العطوفة التي كانت تعاون أهل النوبة وتساعدهم.

العشماوي يمد في روايته خيوطا من الخيال لترتبط بأحداث حقيقية بعد رحلة بحث طويلة تستهدف تقديم الإنسان وعلاقاته بمن حوله

ويذكر أنه من المؤمنين أن الأدب إبداع إنساني في المقام الأول، وأي شخصية إنسانية تحتمل الصلاح والفساد، وتتأرجح بين الأبيض والأسود، لذلك فمن الطبيعي أن يكون يهود مصر، مثل أقباطها ومسلميها، منهم الخير ومنهم الأشرار.

وأشرف العشماوي، روائي مصري يعمل في سلك القضاء، من مواليد محافظة الجيزة، القريبة من القاهرة عام 1966، بدأ مشروعه الإبداعي من خلال كتاب حمل عنوان “زمن الضباع”، ثم أصدر روايته “تويا” عام 2010، رشحت للقائمة الطويلة للبوكر العربية، ثم صدرت له روايات جذبت جمهورا واسعا، هي: “المرشد”، “البارمان”، و”كلاب الراعي” التي حصلت على جائزة أفضل رواية تاريخية في ملتقى البحرين الثقافي.

وأصدر رواية “تذكرة وحيدة للقاهرة”، ثم “سيدة الزمالك”، بعد ذلك جاءت رواية “بيت القبطية”، وترجمت معظم أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية.

رحلة للبحث
يكشف العشماوي أنه اعتمد في روايته على مصادر عديدة ومتنوعة، منها أرشيف دار الوثائق القومية، وأرشيف مؤسسة الأهرام، كما التقى اثنين من اليهود المصريين، من كبار السن، عاشا في مصر خلال حقبة الأربعينات والخمسينات، وتحاور معهما عن مشاعرهما تجاه مختلف الأحداث التي مرا بها.

صراع الهويات

ويتابع قائلا “لقد زرت أيضا حارة اليهود في القاهرة عدة مرات، وعرفت من شهود التاريخ حكايات مُدهشة ومثيرة، احتفظ ببعضها لروايات أخرى”.

وقام الروائي المصري بزيارات لعدد من صالات المزادات الكبرى للتعرف على أصول المهنة ومشاعر العاملين فيها واهتمامات الزوار، وتعبيرات الرواد عند الربح والخسارة، وطرق المزايدة وتفاصيلها وكل شيء له علاقة بها، وتحدث مع بعض أصحاب الصالات وتجار الأثاث الفاخر والمقتنيات النادرة وخبراء تثمين التحف ليفهم منهم طرق الخداع والغش.

ويمد العشماوي في روايته خيوطا من الخيال لترتبط بأحداث حقيقية بعد رحلة بحث طويلة تستهدف تقديم الإنسان وعلاقاته بمن حوله، وهنا كان المزاد كإطار لرسم ما يمكن للمرء اختياره وما يفرض عليه بسبب ظروف اقتصادية أو اجتماعية.

تعتمد رواية “صالة أورفانيللي” على ثلاثة أصوات لشخوص متباينة يحكي كل منهم شهادته، وهي ثيمة شبه متكررة في معظم روايات العشماوي، حيث يحاول رسم الشخصية بعناية أولا قبل أن يتقمصها ليتحدث بصوتها، معبرا عن مشاعرها وتصوراتها للحياة، وهو أمر ضروري لإقناع القارئ بواقعية الشخصيات.

من هنا كان لابد من اختيار عبارات ولزمات وأساليب وطرق سرد تناسب كل شخصية من الشخصيات لإبراز صوتها، ولتمييزها عن غيرها، وهذا ما اجتهد فعلا فيه ويتمنى أن يكون قد نجح في توصيل فكرته للقارئ. ويشير لـ”العرب”، إلى أن فترة البحث والاستكشاف استغرقت منه نحو 12 شهرا، بينما استغرقت كتابة الرواية نفسها ما يقرب من 18 شهرا.

يقوم العشماوي عند كتابة رواياته بعمل بروفات عديدة ويقوم بمراجعتها وتعديلها عدة مرات، ويصل عدد بروفاته في بعض الأحيان إلى خمس بروفات، غير أن الرواية الأخيرة شهدت عمل ست بروفات متتالية.

الشغف بالتاريخ
يلفت الأديب المصري، إلى أنه يميل عادة للكتابة عن النصف الأول من القرن العشرين، لأنها فترة خصبة وخلابة ومزدحمة بالأحداث المثيرة والتقلبات السياسية والاجتماعية، وهناك الكثير من القصص والحكايات الدرامية التي لم تكتب بعد، وتراوده ثلاث أفكار لروايات طويلة تدور خلال تلك الفترة، وذلك لا يمنع أن لديه أفكارا وتصورات بعوالم أخرى مختلفة، لكنه يحرص أن تكون الطريقة التي يقدم بها فكرته جديدة وجذابة، ومفضية لعدم تكرار شخوصه.

وحول انجذابه لموضوعات وقضايا شائكة مثل قصة أهل النوبة في روايته “تذكرة وحيدة للقاهرة”، أو قضية الفتنة الطائفية في رواية “بيت القبطية”، أو صراع الهويات في “تويا”، قال “إن الفكرة عندي لا ترتبط بالممنوع أو المرغوب، وإنما أنا أكتب ما يشغلني وما يلح على ذاكرتي وما يجذبني ويلتمع في وجداني”.

ويعترف بأنه لا يشرع في كتابة رواية إلا إذا رأى أحداثها بالكامل أمامه، كأنها تحدث بالفعل، وفي بعض الأحيان قد يغيّر بعض التفاصيل في أثناء الكتابة، لكنه ينطلق في رحلة الكتابة بعد أن تختمر غالبية الأحداث في ذهنه.

ويبدو العشماوي غير راض حتى الآن عن إبداعه، وكلما صدرت له رواية جديدة يقول لنفسه بعد تصفحها كان من الممكن عمل كذا وكذا. فدائما هناك نقد ذاتي لأعماله، وأحيانا لا يصدق أنها تعجب الناس، ويتصور أن الأمر يحمل مجاملة، ويسعد كلما سمع نقدا، أو لفت أحد نظره لأمر ما، ويسعى لتطوير أدواته ولغته لمزيد من التجويد، فالكاتب الذي لا يتطور ويتعلم ويسعى دائما نحو الأفضل “يفقد تأثيره وحيوته وجماله”.

قضايا شائكة

يلازم العشماوي بعض الشعور بأنه لم يكتب بعد الرواية العظيمة، ويتصور أن الأجمل لم يأت بعد، ويحمل في رأسه أفكارا عديدة، ويعيش حياته اليومية، وهذه الأفكار تدور وتتقافز داخله، ولا يدري يقينا إن كان يستطيع أن يروي كل ما يدور في رأسه أم لا، لكنه راض بطرح نصف ما عنده من تصورات لعوالم تتشكل وتتغير وتتفاعل.

في روايته الجديدة يصحح العشماوي النظرة إلى اليهود المصريين ويمد خيوطا من الخيال ترتبط بأحداث حقيقية ومدروسة

عن تخصصه في حكي الماضي ومحبته للروايات ذات الخلفيات التاريخية، يقول لـ”العرب”، التاريخ سيبقى يستدرجه دوما ليحكي، لأنه وقع في غرامه مبكرا، وربما منذ فترة الطفولة، فهو يقدم حكايات حقيقية من لحم ودم، فيها دراما عميقة جذابة وممتعة، والاشتباك معه ممتع لكل حكاء مُتيم بالسرد وباحث عن الجمال والمتعة.

ويضيف، أنه سوف يظل يشاكس ويشاغب ويفتش في التاريخ ويروضه ويذيب جفافه بالخيال وأساليب السرد المختلفة، عبر شخوص لافتة بمشاعرها الإيجابية والسلبية وحكاياتها المثيرة.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي