جعلت الحرب العالمية الثانية خلفية لروايتها الأخيرة

الكاتبة الليبية رزان المغربي: معيشتي في الغرب وفرت لي مساحة للتأمل

الأمة برس
2025-01-28

الكاتبة الليبية المقيمة في هولندا رزان نعيم المغربي (الشرق الأوسط)القاهرة - رشا أحمد - تعيد الكاتبة الليبية المقيمة في هولندا رزان نعيم المغربي تناول العلاقة بين الشرق والغرب من منظور مختلف عبر روايتها اللافتة الصادرة أخيراً «الرسام الإنجليزي»، حيث تقتفى فيها أثر شخصية الرسام جون فردريك بيرل الذي جاء إلى ليبيا وأبدع جدارية شهيرة في مدينة طبرق. ورغم أن العمل يتخذ من الحرب العالمية الثانية بأجوائها الدامية خلفية تاريخية للأحداث فإنها نجحت في نسج خيوط إنسانية متعددة المستويات النفسية والاجتماعية في النص. صدر للمغربي عدد من الأعمال منها «نصوص ضائعة التوقيع»، «الجياد تلتهم البحر»، «في عراء المنفى»، «مشاهد متعددة للحب».

هنا حوار معها حول روايتها الجديدة وتجربتها الكتابية:

* ألم تتخوفي من أن فكرة الرواية التي تغطي مساحة زمنية تمتد لنحو 70 عاماً عبر أجيال وأمكنة متنوعة ما بين ليبيا ومصر وإيطاليا ربما تكون تقليدية بعض الشيء، عكس الكتابة الحداثية التي تميل للتركيز على شخصية أو مكان بعينه؟

- بالطبع، قد يبدو للوهلة الأولى أن رواية تمتد عبر سبعة عقود وأجيال متعاقبة وتتنقل بين أماكن متنوعة تحمل صبغة تقليدية، لكنني أرى أن التصنيف الأدبي، خاصة في إطار ما بعد الحداثة، لا يتعلق بالضرورة بالزمان أو المكان أو حتى عدد الشخصيات. جوهر ما بعد الحداثة يكمن في تفكيك السرديات التقليدية وإعادة تشكيلها بأساليب تفتح آفاقاً جديدة أمام القارئ.

في روايتي، لم يكن الهدف تقديم سردية تاريخية بقدر ما كان محاولة لتقديم تجربة إنسانية متعددة الأبعاد. الشخصيات، رغم تعددها، صُممت بعناية بحيث لا تكون مجرد أدوات لتحريك القصة، بل كيانات مستقلة تحمل رؤاها وهواجسها، وتعكس تناقضات الزمن والمكان. كان كل منها بمثابة قطعة في فسيفساء أوسع، وكل مكان بمثابة مرآة تعكس ظلال الشخصية وتفاعلها مع محيطها.

* يعتبر البعض أن عملك الأحدث «الرسام الإنجليزي» بمثابة رواية عن تعاقب الأجيال، فيما يراها البعض الآخر رواية عن الصراع بين الشرق والغرب... كيف ترين أنت العمل بعين المؤلف؟

- عندما أستعيد النظر إلى العمل بعين المؤلف، أجد أنني لا أميل لحصرها في تصنيف واحد أو تفسير نهائي. الكتابة بالنسبة لي ليست محاولة للإجابة عن الأسئلة بقدر ما هي خلق فضاء واسع يسمح بطرح أسئلة جديدة. لذا، سواء قرأها البعض كرواية عن تعاقب الأجيال أو كعمل يناقش التصادم الحضاري بين الشرق والغرب، أرى فيها انعكاساً لثراء النص وقابليته للتأويل.

في أثناء كتابة الرواية أُبعد نفسي تماماً عن هواجس التصنيف أو كيف سيتم قراءتها. أدخل إلى النص محمّلة ببحث عميق ومعرفة دقيقة، لكن تركيزي ينصب بشكل أساسي على التوازن الفني. يشبه الأمر مراقبة الرسام لفضاء لوحته، محاولاً تحقيق انسجام بين الألوان والخطوط بحيث تعبر عن رؤيته الداخلية.

تعاقب الأجيال كان اختياراً مقصوداً لمنحي مساحة زمنية أتحرك فيها بحرية. هي ليست رواية فقط عن الشرق أو الغرب، ولا عن الأجيال وحدها، بل عن الإرث الذي نحمله جميعاً، والذي يشكل هويتنا سواء أدركنا ذلك أم لا.

* ما الذي أثار حماسك لتقتفي إبداعياً أثر الفنان التشكيلي الإنجليزي جون فرديرك بيرل ورحلته إلى ليبيا وجداريته في مدينة طبرق؟

- ما أثار حماسي هو رغبتي الدائمة في خوض تحديات جديدة، وطرح مواضيع لم أتناولها من قبل. بالنسبة لي، الكتابة عن شخصية فنية بهذا العمق ليست مجرد استكشاف لسيرة أو حدث تاريخي، بل محاولة لتقمص روح الفنان نفسه، للكتابة عنه من الداخل، عن أحلامه وهواجسه ورؤيته للعالم، بعيداً عن الصورة النمطية التي غالباً ما تُقدَّم في الدراما العربية.

 

ما شدّني أكثر هو فكرة وجود عمل فني بهذه الأهمية، جدارية تمثل امتزاجاً بين التاريخ والفن، ولكنها لم تحظَ بالاهتمام الكافي حتى بين الليبيين أنفسهم. شعرت بأن تسليط الضوء على هذا الأثر يمثل مسؤولية ثقافية، خاصة في وقت بدأ فيه الليبيون يتطلعون لاكتشاف ما تحتويه بلادهم من كنوز طبيعية وتراثية. ليبيا، بمساحتها الشاسعة وتنوعها الجغرافي، تزخر بمثل هذه الكنوز التي قد لا يتمكن كثيرون من زيارتها أو معرفتها بسبب الظروف والتحديات.

شعرت بأنني أفتح نافذة جديدة للقارئ، ليست فقط لاستكشاف أثر فني، بل للغوص في أعماق الروح الإبداعية التي صنعته. هذا التحدي، وهذه الرغبة في تقديم الفن بروح حقيقية، هما ما ألهماني وحرّكا شغفي لكتابة الرواية.

* شخصية «سدينة»، المرأة الليبية التي عاشت مراحل الصبا والأمومة ثم أصبحت جدة، بدت من لحم ودم... كيف راودتك ملامح شخصيتها؟

- «سدينة» كانت أول شخصية ترتسم ملامحها في ذهني عند البدء في كتابة العمل. كان هناك شيء عميق يجذبني نحو فكرة المرأة الليبية القوية، تلك التي تحمل بين طيات حياتها مراحل الصبا والأمومة والجَدَّة بحكمة وشجاعة نادرتين. كنت دائماً معجبة بنماذج الجدات في مجتمعاتنا، ليس فقط بسبب قوتهنّ في مواجهة المصاعب، ولكن أيضاً بسبب انفتاحهنّ المدهش على التعامل مع ما هو مختلف عنهنّ، سواء في الأفكار أو التجارب.

بالنسبة لي، «سدينة» ليست مجرد شخصية متخيلة، بل تمثل خلاصة حكايات وأصوات نسائية تراكمت في ذاكرتي على مر السنين. إنها تلك الجدة التي تحمل قصصاً من الماضي، لكنها في الوقت ذاته تتعامل مع الحاضر بعقل متفتح وقلب مفعم بالحب والفهم. أحببت أن أكتب شخصية تشبه هذه النماذج الواقعية، التي ربما لم تنل حقها في التوثيق الأدبي بما يكفي.

* هل كانت الإضاءة على الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا أحد أهداف النص؟

- بالطبع، لكنه لم يكن الهدف الوحيد أو الأبرز. عندما اخترت أن أكتب عن جندي بريطاني شارك في الحرب العالمية الثانية، وجدت في ذلك فرصة لا يمكن تجاهلها لاستحضار حقبة زمنية عانى فيها الشعب الليبي من احتلالات متعاقبة وصراعات دارت رحاها على أرضه، غالباً دون أن يكون له يد في إشعالها.

الحرب العالمية الثانية ليست مجرد خلفية تاريخية في الرواية، بل هي مرآة تعكس معاناة الإنسان الليبي في تلك الحقبة. أردت أن أظهر كيف أن هذه الأرض، التي كانت ساحة للمعارك بين قوى كبرى، تحملت عبء الحروب دون أن يُلتفت إلى الألم الذي عاشه سكانها.

لكنني لم أكتفِ بذلك، بل سعيتُ لأن تكون الحرب خلفية إنسانية أيضاً. أردت أن أستعرض كيف تتقاطع حكايات الأفراد، مثل الجندي الفنان والشخصيات الليبية، مع هذا المشهد الكبير، وكيف تُعيد هذه التقاطعات تعريف الصراعات والتجارب التي يعيشها كل منهم.

* أعمال كثيرة تناولت العلاقة بين الشرق والغرب... ما الذي كان في ذهنك وأنت تعزفين على هذا الوتر في «الرسام الإنجليزي»؟

- صحيح أن العلاقة بين الشرق والغرب تم تناولها في أعمال روائية كثيرة، لكنها غالباً ما كانت تقع في فخ النمطية، حيث جرى تقديمها في إطار آيديولوجي يختزل الآخر ويُصوره ككتلة واحدة باعتباره المستعمر الظالم أو المحتل المنمّق. هنا، لم أسعَ لتجميل هذه العلاقة أو تقديمها بانحياز، بل أردت أن أُعيد تركيب المشهد بعمق إنساني يملأ الفجوات، ويطرح زوايا جديدة لفهم التداخل بين الثقافات بعيداً عن القوالب التقليدية.

كنت واعية تماماً بأن الاحتلال، أياً كان، يحمل في جوهره القبح والاستغلال. ومع ذلك، ما بعد الكولونيالية كمنهج أدبي يتيح لنا النظر إلى ما وراء الشعارات والمظاهر، لاستكشاف الأبعاد الإنسانية الكامنة في مثل هذه العلاقات.


* إلى أي حد ساهمت إقامتك بهولندا في نظرتك لتلك العلاقة المأزومة بين الشرق والغرب؟

- إقامتي في هولندا لم تشكل لي صدمة كما يحدث للبعض عند انتقالهم إلى بيئة جديدة ومختلفة تماماً. كنتُ منفتحة منذ البداية على التعامل مع الآخر، سواء من خلال عملي أو اطلاعي على الأدب والفنون الغربية، لكن العيش في هولندا كان تجربة أعمق وأكثر تفصيلاً. كان عليَّ أن أتعلم عادات جديدة تندرج ضمن تفاصيل الحياة اليومية: تفقد صندوق البريد يومياً، قراءة الفواتير وفهم طرق سدادها بالتقسيط، التعامل مع الإدارات الحكومية عن بُعد من خلال الهاتف أو البريد الإلكتروني.

* هل اكتشفتِ «غرباً» آخر بخلاف الصورة النمطية التي بمخيلتنا؟

- نعم، الكثير من التفاصيل الصغيرة التي عايشتها وتبدو بسيطة كشفت لي عن أن الحياة في الغرب ليست بالضرورة معقدة كما تصوّر لنا أحياناً. في هولندا، لمست أن هناك قيماً اجتماعية حقيقية: التعاون بين الجيران، كسر الجدران بين الأفراد من خلال التودد والمساعدة المتبادلة، والتقدير العميق للقانون واحترام النظام.

لكن الأثر الأكبر كان في المساحة التي وفرتها لي هذه التجربة للتأمل والنمو الداخلي. أدركت أن الأحكام الجاهزة على الآخرين لا طائل منها، وأن تقبُّل الآخر كما هو شرط أساسي للتعايش الحقيقي. في تلك العزلة، بدأت أواجه نفسي بصدق، أبحث في أعماقي عن مواطن القوة والضعف، وأسأل: كيف يمكنني أن أنمو؟ كيف أحقق سعادتي بعيداً عن آراء الآخرين وتوقعاتهم؟

* كيف ترين الأدب الليبي على خارطة الثقافة العربية... ما الذي يميزه، وهل نال ما يستحقه؟

-أعتقد أن الأدب الليبي شهد طفرة ملحوظة في الإنتاج خلال العقد الماضي، حيث ظهرت أصوات جديدة استطاعت أن تبرز بقوة، وتنقل تجارب إنسانية عميقة تعكس واقعاً غنياً بالتناقضات والتحديات. هذا الزخم أتاح للأدب الليبي مساحة أوسع على خارطة الثقافة العربية، وبدأ يلفت الانتباه بفضل ما يقدمه من رؤى جديدة وأساليب سردية مميزة.

لكن رغم هذه الخطوة الإيجابية، لا أعتقد أن الأدب الليبي قد نال بعد ما يستحقه من اهتمام أو تقدير، سواء على مستوى العالم العربي أو خارجه. جزء من هذا يعود إلى غياب الدعم المؤسسي، وضعف الترويج للأدباء الليبيين على الساحة الدولية. هناك كنوز أدبية داخل ليبيا، لكنها تحتاج إلى مزيد من الجهود للتعريف بها وتوثيقها وترويجها.

ما يميّز الأدب الليبي هو تنوعه، فهو يعكس تركيبة المجتمع الليبي ذات الخلفيات الثقافية والجغرافية المتعددة. من الصحراء إلى المدن الساحلية، ومن الهجرة إلى البقاء، استطاع الأدباء الليبيون أن يصوغوا نصوصاً تستحق أن تكون جزءاً من الحوارات الثقافية الكبرى.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي