رافائيل البرتي ينثر أوراق غابته الضائعة

2021-01-12

شكيب كاظم*

 

وحدها المصادفة كانت السبب في ترجمة هذا الكتاب الذكرياتي المفعم بالحميمية والحكايا، التي لولا أهميتها لما علقت بالذاكرة، ومن ثم دونها في غابته الضائعة، فلولا تلك المناسبة التي شاهدتها الطالبة العراقية الذاهبة لدراسة اللغة الإسبانية؛ القشتالية تحديداً، لما نعمنا بقراءة هذا الكتاب الفياض، ففي ذات شتاء مدريدي، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وجدت نفسها على غير موعد، تصغي إلى الشاعر الإسباني الشهير رافائيل البرتي، يلقي قصائده في تلك القاعة المكتظة بجمهور يفيض حماسة وشباباً وتوقداً، يستمع إلى شاعره الذي أحبه، الذي كان يقابل فيض مشاعره، بمزيد من الشعر، هو الذي نشر الجزء الأول من ذكرياته سنة 1959، وبسط حياته حتى 1931، وإذ طال عليه الأمد ظل قراؤه وأصدقاؤه يحثونه على تدوين ما مكث في ذاكرته، وإذ رأوا تكاسله وتأجيله، سأله أحدهم.
ـ أتتوقع أن تتمها بعد وفاتك؟
كان قد بلغ من الكِبَر عِتيّا، كان قد تجاوز الثمانين من العمر، فبدأ يكتب ما يعِنّ له، من غير ترتيب زمني، أو كما يقول، تبعا لما ستحمله إليّ الريح منها؛ من أوراق غابتي الضائعة، هذا الجزء الذي يضيء سنواته منذ 1931 وحتى1987، وهو ما رأته المترجمة باهرة محمد، جديراً بنقله إلى العربية، مع مراجعة دقيقة متفحصة للنص المترجم، تولاها مجيد بكتاش المعروف بعلميته ورصانته.
إذا أراد أحد أن يستعيد حوادث الحرب الأهلية الإسبانية، التي عصفت بإسبانيا منذ تموز/يوليو 1936 وحتى 1939، حيث تمردت بعض الفصائل العسكرية بقيادة الجنرال فرانشسكو فرانكو، على سلطة الدولة الجمهورية، التي عرفت بيساريتها وبتحريض ودعم من الديكتاتور الإيطالي موسوليني، والألماني أدولف هتلر، فإن رافائيل البرتي في ذكرياته الحميمة في «الغابة الضائعة» ينقل تفاصيل تلك الأيام العاصفة، التي نافت على الثلاثين شهراً، وانتهت باندحار الجمهوريين، حيث يرد ذكر العديد من الأدباء المعروفين، الذين شاركوا في القتال إلى جانب الجمهوريين اليساريين؛ بابلو نيرودا، وإيرنست همنغواي، فضلاً عن فصيل آخر قد لا نعرف عنهم شيئاً، ويقف طويلاً عند بعض هؤلاء الذين غادروا بلدهم، وما استطاعوا التأقلم في بلدان المنفى، فضربتهم الكآبة، وظلوا يرنون – وقد طال عليهم أمد النفي والغربة – إلى العودة إلى بلدهم، فهذا خوسيه إيريرا بيتيري، الذي على الرغم من عيشه في سويسرا مع زوجته وأولاده الثلاثة، عيشة رخية عذبة، وعلى ضفاف بحيرة جنيف، كان يشعر بالصقيع يجتاح روحه، يخبر صديقه البرتي، إنه يعبّ من الشراب لينتحر انتحاراً بطيئاً، لأنه لا يمتلك الشجاعة الكافية لينتحر برصاصة، أو يرمي نفسه في بحيرة ما. كان المنفى قاسياً، لم يستطع احتمال البقاء منفياً مقطوع الجذور بعيدا عن إسبانيا.

 

لويس أراغون

رافائيل البرتي، يخصص ورقة من أوراق غابته الضائعة هذه، للحديث عن الشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون، الذي تعرف إليه في ليلة شاتية صقيعية موسكوية، ودرجة الحرارة انخفضت تحت الصفر بأكثر من ثلاثين درجة، حصل ذلك بداية عقد الثلاثين من القرن العشرين، كان الشاعر الشيوعي زاخرا حماسة وتألقاً، إلى جانب زوجته وعشيقته إلزا تريوليه شقيقة ليلي بريك حبيبة الشاعر الروسي ماياكوفسكي، المنتحر خيبة وهو يرى المآل الذي آل إليه الحلم الشيوعي الذي غنى له طويلاً، لكن الحماسة خبت تدريجياً بعد أن طوى الموت إلزاه سنة 1970 وعاش وحيداً أرمل، وزاد الخبو حين ضربته سيارة مسرعة أقعدته، يقودها شاب متهور، لكن وإذ عرف الشاب من الذي ضربه بسيارته، ظل يعوده معتذراً حتى شفي أراغون وبلّ.
ظلت إلزا تحيا تمزقاً هوياتيا وثقافياً، فهي تحيا في وطنين؛ وطنها الأصلي روسيا، والوطن الجديد؛ فرنسا، فضلاً عن تمزق لغوي؛ روسي، فرنسي لتؤكد: إن أشد الأمور صعوبة أن يكون المرء أجنبياً في فرنسا، وهذا ما لمستُه في العديد من الأعمال الروائية، ومنها رواية «سهرة تنكرية للموتى» للأديبة السورية المغتربة غادة السمان، فالمجتمع الفرنسي صعب القبول للآخر، ويشعره بذلك منذ المدرسة الابتدائية، بل يكون حتى الاسم سبباً للبعد والإقصاء، كما تقول غادة في روايتها هذه، فضلاً عن ما قرأت في بعض مذكرات الأدباء العرب ممن عاشوا في فرنسا.

بابلو بيكاسو

وكان لا بد أن يخص صديقه ورفيقه بابلو بيكاسو؛ أشهر فنان تشكيلي في القرن العشرين، تحدث عن معارضه، عن لقاءاته، وخصص له أكثر من فصل، لكن هذا الفصل الثالث والثلاثين، خصصه لموت بيكاسو في الثامن من شهر نيسان/إبريل 1973، قبل أيام من إقامته معرضه الثاني المدهش، وقبل أن يكمل سنته الثانية والتسعين، مات بيكاسو، هكذا صرخت الدنيا، فركب رافائيل البرتي الطائرة نحو الريفيرا الفرنسية؛ حيث كان بيكاسو يقيم مع زوجته الأخيرة الأثيرة إلى قلبه جاكلين، لكن الجو العاصف الصقيعي الممطر، حال دون حضوره الجنازة، هو الذي تعرف إليه سنة 1931، في باريس، وظلت صداقتهما المثمرة متواصلة حتى يوم الرحيل.
لقد ظل الباب الحديد لـ(نوتردام دوفي) مسكن بيكاسو مغلقا أمام الجموع التي توافدت من قرى الريفيرا الفرنسية ومدنها وأوروبا والعالم أجمع، بقرار من زوجته.
يقول البرتي، شعرت باليأس وكان الثلج يتساقط غزيرا، لكن هذه المرأة ما استطاعت الاستمرار بالعيش بعد رحيل قرينها بيكاسو، فعصفت بها كآبة مدمرة وعزلة عن الدنيا، أنهتهما برصاصة في صدغها. لكن هذا المنفي؛ الشاعر الشيوعي الذي قاتل مع الجمهوريين، رافائيل البرتي يعود إلى وطنه تلبية لدعوة حزبه للترشح في الانتخابات التي ستجري سنة 1977، في ظل الملكية الدستورية، وبعد نحو سنتين من وفاة الجنرال فرانكو خريف سنة 1975، ليفوز بالمقعد النيابي الوحيد الذي فاز به حزبه، ولأنه لم يخلق نائباً، بل شاعرا؛ أو شاعرا يواجه الناس في القاعات والساحات، تنازل بعد أربعة أشهر عن مقعده النيابي بموافقة حزبه، مؤكداً: أما أنا فسأظل أُهرَع إلى الشارع كلما ناداني، على الرغم من أني سأبقى أحلم دوماً بنجمة حمراء صافية تلوح في أفقه.

 

فيدريكو غارثيا لوركا

رافائيل البرتي الشاعر الإسباني الأشهر، الذي امتدت حياته على القرن العشرين كله، إذ ولد في السنة الثانية من ذلك القرن، وغادر الحياة والقرن العشرون يوشك على رفع ساريته، أو صاريته ليرحل سنة 1999، الذي عاش حياة صاخبة حافلة، هو الذي قاتل مع الجمهوريين، حتى إذا خسروا الحرب أمام قوات الجنرال فرانشسكو فرانكو، غادر بلده لواذا، فمن بقي كان مصيره السجن الطويل، أو الإعدام، فانتقل للعيش في باريس، حتى إذا وطئتها البساطيل الهتلرية، غادرها نحو الأرجنتين، على الرغم من الحكم العسكري فيها، وظل يحيا من غير جواز سفر، بعد أن أسقطوا جواز سفره الإسباني، وشبه متخف، أكثر من عقد من الزمان، توجه نحو إيطاليا، وأمضى العمر يكتب شعرا، ويلقيه في المؤتمرات والندوات في أصقاع الدنيا، عاش حياة المنفى نحو أربعة عقود، الشاعر الملحد، الذي آل إلى رماد ذُرّي في المحيط الأطلسي قريبا من قادش حيث ولد، وتزوج بأكثر من امرأة، وإذ كان ذكر زوجته (ماريا تريسا) يتوالى في الفصول الأولى من أوراق غابته المتناثرة هذه، فإن ذكرها وذكراها تطويهما الأيام، إذ أصابها مرض فقدان الذاكرة، هي الأديبة الروائية، لترحل سنة 1988، ليقترن بشابة صغيرة مفاخرا، أنها أعادت إليه شبابه.

رافائيل البرتي، الذي أحب العرب الأندلسيين، معترفا في مواطن عديدة من مذكراته هذه «الغابة الضائعة» بفضلهم وحضارتهم، وما خلفوا وراءهم من شواخص معمارية راقية، البرتي في حياته الممتدة الصاخبة، يروي لنا مروياته، ولا شك في أنه يذكر العديد من أصدقائه من الشعراء والكتّاب والمسرحيين والسينمائيين والسياسيين، لأن ذاكرتي – كما يصفها – فهرس لا ينتهي، دليل أسماء كبير، مفكرة لا آخر لها عمرها نحو خمسة وثمانين عاما، شطبت أيامها يوما فيوما، بعلاقات، بمحاولات وأشخاص.

نعرف النزر اليسير منهم، ومن هذا النزر اليسير؛ الشاعر الجمهوري القتيل صديق شبابه الأول، تعرف إليه سنة 1922، في القسم الداخلي الخاص بإقامة الطلاب، وظلت صداقتهما ممتدة حتى يوم غادر لوركا مدريد نحو غرناطة ليقع بيد القوات الفرانكوية، وليقتل شر قتلة، ركلا بالبساطيل العسكرية وأعقاب البنادق، قرب موقع يقال له (عين النبع) هكذا سمى العرب الأندلسيون هذا الموقع، يوم إقامتهم في تلك الربوع الفينانة الغنّاء، لكن ظل هاجس موت لوركا يؤرقه، لقد كان يخال أن الموت قد أخطأه، فذهب إلى لوركا، أما السبب – كما يرى – فلأن لوركا كان جمهوريا فحسب، محبا للحزب الشيوعي، الذي يراه حزب الفقراء، في حين كنت شاعرا أحمر منتظما في الحزب، أحد الذين يجب قتلهم من غير شفقة – كما يقول.
حين يعود إلى وطنه إسبانيا، تدعوه بلدية غرناطة لحضور حفل استذكار لوركا بعد نحو نصف قرن على قتله فجر الثامن عشر من حزيران/يونيو سنة 1936، ويلقي قصائد بالمناسبة، لكن ما ظل يؤلمه وهو يحضر حفل الاستذكار ذاك، أن لو يعثر على أحد أبناء تلك السنوات التي زامل فيها لوركا، ولكن.. فلقد طواهم الموت، وكان وحيدا..

 

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي