الباحثة ريبيكا روث غولد: المفردات العربية أغنى من الفارسية في الشعر الكلاسيكي

2020-11-16

تؤكد أن الغاية من الفن والإبداع تحقيق هدف محدد، سواء هو المتعة أو السياسة

حوار: صالح الرزوق

لتتعرف على  الباحثة الأمريكية ريبيكا روث غولد، عليك أن تكون ملما بطيف واسع من الفنون الأدبية، من الحداثة وحتى العقل الكلاسيكي. تقترب غولد من الأنظمة القديمة للمعرفة بواسطة أدوات ما بعد الحداثة، وهذا ما يتسبب بمزيد من الصدام بين عدة مستويات من التطبيق العملي والأفكار. غولد قاصة وشاعرة وتهتم بالبحوث أيضا. هذا بالإضافة إلى اهتماماتها السياسية.

 وهي مؤلفة كتاب «أدباء وثوار»، وموضوعه أدب التمرد بعد الكولونيالي في القوقاز. ومن المتوقع أن يصدر لها لاحقا كتابها الثاني وهو «شعر السجن في الأدب الفارسي». وهي حاليا تعمل بتدريس الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة برمنغهام. وللتعرف على مشروعها ورأيها حول قضايا أدبية راهنة كان معها هذا اللقاء:

كيف تطور لديك هذا القــوس الواسع من الاهتمامات؟

لم أتعمد أن أكون إنسانة تمد يديها إلى كل حدب وصوب، ولكن هذا ما أنا عليه. والمشكلة بالنسبة لي هي كيف أوائم بين هذه الاهتمامات ونفسي، وكيف لا أشعر بالذنب لأنني أحب شيئا لدرجة الغرام، ولكن فقط لأهمل غيره.

واحدة من أكثر اللحظات حرية وانطلاقا في حياتي كانت عندما دخلت إلى قاعة الدراسة في حصة المقارنة، في أول يوم لي طالبة دكتوراه في جامعة كولومبيا عام 2007.

كان أستاذا المقرر الرمزين الأدبيين المشهورين شيلدون بولوك ودافيد دامروش. وبعد أن أطلقا سراحي من تلك القاعة، كانت حياتي قد دخلت في طور متبدل. شيلدون بولوك هو خبير اللغة السنسكريتية، وقد طور نظريات تحويلية عن دورة الثقافة والسلطة في عالم ما قبل الحداثة، ومنه تلقنت درسا لا أنساه: كيف يمكنني أن أصبح خبيرة بالمقارنة بدون أن أشعر بالعار والنقص من عشق موضوعات ومحاور مختلفة، وفي الوقت نفسه لا أفقد الرغبة في المشاركة بها كلها.

ماذا عن كتابك الأول «أدباء وثوار»، وعن الذي يليه «شعر السجن في الأدب الفارسي»؟ وهل بينهما موضوع مشترك؟ وهل وظفت أدوات أدبية مختلفة لمقاربة كل منهما؟

 مع أن هذين الكتابين يغطيان آدابا مختلفة تماما (في الحالة الأولى الأدب الجورجي والروسي والشيشاني والعربي الحديث الذي ينتشر في القوقاز، في الحالة الثانية الأدب الفارسي الكلاسيكي) هناك خط يربط بينهما: كلاهما مهتم بأساليب الشعراء والكتاب في مقاومة الجور والظلم، وكيف كانت العلاقة مع السلطة السياسية. في «أدباء وثوار» فسرت كيف أن كتّابا من القوقاز ومن خلفيات متباينة (مسلمين ومسيحيين وشيشانيين وجورجيين وأوسيتيين) طوروا بشكل جماعي خطابا للثورة المعادية للكولونيالية (وذلك من خلال شخصية الثائر المعروفة في لغاتهم المحلية باسم abrek) ليواجهوا بها الإمبريالية الروسية بعد الغزو الروسي للقوقاز.

لكن في كتابي «شعر السجن في الأدب الفارسي» صورت كيف أن أدباء من فترة ما قبل الاستعمار – غالبا من القرن الـ 12 في العالم الفارسي، وهذا يشمل وسط آسيا والقوقاز – طوروا أعراف شعر السجون (يسمى بالفارسية حبسيات)، وبه كان الشاعر يرقى لحالة السيادة المجازية. بتعبير آخر شعر السجون أصبح خطابا لشاعر له، لحد ما، معنى ملك (وهو ما يعرف باسم ثنائية: باديشاه وسلطان)، وفي الوقت نفسه يحتل مرتبة الملك النبي (المصطلح الفارسي هو بيغامبر ونبي).

ومن نافلة القول إن هؤلاء الشعراء الفرس، ومن أهمهم خاقاني شرواني، تلقوا مصادر إلهامهم بكل وضوح من شعراء العربية مثل أبي فراس والمتنبي، وهما من بين أهم من كتب عن تجربة الأسر والسجن. لكن في رأيي أن شعراء السجون الفرس وجهوا هذا الجنس الأدبي باتجاه مبتكر.

هل أفهم أنك تنظرين لشعر السجن على أنه جنس أدبي مستقل؟

 نحن نتناول هنا موضوع السيادة/الحرية والخيال السياسي. ولدينا مشكلة تتعلق بفضاء الجسم وحدوده. (وهو عنوان الفصل الثالث من كتابي الثاني). بلغة أكاديمية «الحبسيات» مشابهة لأنواع أدبية مثل الخمريات (شعر الخمرة) والطراديات (شعر القنص) والزهديات (الشعر التنسكي)، ولكنها تتناول موضوع السجن. وهناك أمثلة عديدة من شعراء الحبسيات الفارسية الحديثة (منهم بهار، شاملو، أخافان ساليس)، وقد ذكرت كل هؤلاء في كتابي، ولكن ركزت على القرن الـ 12 لأنني كنت أود تفسير المصادر النوعية للجنس الأدبي بمجمله. فأنا أنظر للمصطلحات من جانبين: إنها اسم وصفة.

هل وجدت أي فرق بين الأدبين العربي والفارسي؟ وما تفسيرك له؟

 بشكل عام، ومن خبرتي العملية ومن الجانب الألسني فقط، يمكنني القول إن المفردات العربية أغنى من الفارسية. وأقصد ببساطة: إنه، على الأقل في الشعر الكلاسيكي العربي، يوجد عدد أكبر من المفردات. وربما لهذا السبب كان الشعراء الفرس أكثر تميزا في ما يسمى فن الإيهام. وهو جهاز بلاغي (يسمى التورية عند العرب)، ويكون فيه للكلمة مضاعفات من المعاني.

فالشاعر الفارسي يستعمل المفردة نفسها، ليدل بها على أكثر من شيء، بينما الشعراء العرب يستعملون على الأرجح كلمات متعددة ليدلوا بها على المعاني المختلفة.

ولذلك عواقب هامة على مستوى الشعرية والترجمة. اختلاف آخر بين الشعر العربي والفارسي، وله تأثيرات أساسية على الترجمة، تجده في مجال الضمائر الجنوسية. فالفرس لا يستعملون ضمائر الجنس، ولذلك غالبا أنت لا تعرف في شعر الغزل هل الحب موجه لذكر، أم لأنثى. لكن العرب يسجلون وعيا خاصا بالجنس ويكون للمحبوب مكان نحوي في الضمائر. والجنوسة عند العرب تنعكس أيضا من خلال تلازم اسم – صفة. وعليه هي ليست أكثر جنوسة من اللغة الفارسية فقط، وإنما من اللغة الإنكليزية كذلك.

من هو المفكر الذي ترك أثرا عميقا في تفكيرك وحياتك؟

 إدوارد سعيد، الذي كان يعمل في جامعة كولومبيا، ومن هناك حصلت على الدكتوراه. سعيد يمثل نمط المثقف الذي أطمح أن أصل إليه، وعمله يجيب على موضوعات سياسية متعددة، لكن تفسيره للأدب واهتمامه به أضاء لنا جوانب أدبية متعددة بنظرة تتجاوز الأجندات الحزبية الضيقة. وأنا مهتمة بتلك المحاور التي يتكون منها مشروعه، فقد غطت بظلها على كتاباته السياسية: ولا سيما نظريته عن السياسة بعد الكولونيالية. ولا يفوتني أن أنوه بإعجابي بنمط أسلوب سعيد، وحاولت متعمدة أن أتبناه في كتاباتي.

في قصتك القصيرة «الأيدي» – المنشورة في موقع سيرين بوكس- أشرت لثلاثة بلدان: إيران وأبو ظبي وجورجيا. وكان لك مواقف مختلفة من كل بلد. ماذا أردت أن تقولي بالضبط. بتعبير آخر: ما هي الرسالة الضمنية للقصة؟

بشكل عام هي قصة عن الاختلاف الثقافي والبعد السياسي لحياتنا اليومية الحميمة. فالجغرافيات المحددة يمكن تبديلها بغيرها. إنها قصة عن ما يمكن ولا يمكن أن تقوله في سياق كبت سياسي معين. وهي كذلك عن طريقة عمل الموانع الطبيعية في كبت التصريح بالحقيقة، أمام من نحب، وفي لحظات فاصلة من حياتنا.

وهكذا يمكننا القول إن القصة عن تداخل العلاقات والرغبات والحب مع أحوال الكبت السياسي وهو ما يتخطى حدود حياة الشخصيات/ الأفراد.

هل تعتقدين أن الإبداع يهدف للمتعة أم لتحقيق هدف محدد، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي قبل الزلزال الذي مزقه إربا؟

 لا أعتقد أن الغاية من الفن والإبداع تحقيق هدف محدد، سواء هو المتعة أو السياسة. الإبداع جزء من الوجود، الحياة، وهذا ما يهدف له الفن. وأولويات الفن الإبداعي أن يحقق ذاته، وأن يكون شاهدا على حقيقة وجودنا في هذه الحياة.

 ما هو الأهــم برأيك: الدين أم القومية والأصل العرقي؟

 دراستي عن القوقاز أكدت أن الجذور العرقية مجرد اختراع. فمعناها يتبدل مع مرور الوقت. وكذلك كان للدين مع مرور الوقت دور مختلف في معظم المجتمعات. ولكن من عدة جوانب للدين أهمية تتخطى الهويات العرقية التي نخترعها حاليا. مع ذلك يجب أن لا نعمى عن المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تحدد لنا كيف علينا أن نستوعب ديننا.

ففي بلدان أقمت فيها ردحا من الزمن، مثل فلسطين والهند، تطورت أشكال من التعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين الإسلام والهندوسية من جهة ثانية. وهو ما لا يمكن أن يتم في المكان نفسه والزمان نفسه لو تدخلت بالموضوع الحركات السياسية القومية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي