تيسـير

2008-06-26
طارق المهدوي

في أواخر 1966 أُعدم سيد قطب مع اثنين من إخوانه بتهمة قيادة إحدى المحاولات الفاشلة لقلب نظام الحكم، مع حبس العشرات لمدد تتراوح بين المؤبد والثلاث سنوات، وتجاهلت الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري الإشارة إلى مئات آخرين من الإخوان المسلمين المتهمين على ذمة القضية نفسها ما أدى إلى تحويلهم إلى معتقلين تحت رحمة الأهواء المزاجية لأجهزة الأمن السياسي، التي اشترطت لإطلاق السراح كتابة تعهدات خطية ملزمة بالنأي عن أي مشاركة مستقبلية في الشؤون العامة حتى لو كانت صلاة الجماعة أو قراءة الصحف. وهو ما رفضه خالي الذي كان إماماً لأحد المساجد الأهلية في مسقط رأسه في حي «عابدين» فبقي رهن الاعتقال سنوات عدة قبل نفيه إلى قرية صغيرة في بطن جبلٍ ناءٍ في أقاصي الصعيد تسكنها غالبية من طائفة مسيحية معروفة بتشددها الديني، حيث تحددت إقامته في منزل ريفي لا يغادره مطلقاً ولا يستقبل زائرين فيه إلا بعد حصوله على تصريح مسبق لكل زيارة من الحاكم العسكري العام!.

أما أبي فقد أصابته هزيمة 1967 بصدمة عصبية انفعالية، فراح عقب الهزيمة يتهم كبار المسؤولين علناً بتعمد إضاعة الوطن، وبدلاً من رعايته برفق طبي حتى يتجاوز صدمته العصبية سواء من باب المراعاة لمركزه المهني والأدبي ولدوره التاريخي في مختلف أوجه النضال الوطني أو من باب ما كانوا يسمونه آنذاك «إزالة آثار العدوان»، أودعوه في غرفة انفرادية داخل مستشفى المجانين كالمعتقلين من دون محاكمة ومن دون علاج.

طلق أبي بمجرد إيداعه في المستشفى أمي حتى لا تتم مضايقتها بسببه أو يضغط عليه خصومه من خلالها، فأعربت أمي عن تقديرها لظروفه وانتقلت للحياة مع أمها العجوز، لا سيما وقد أصبحت تقيم بمفردها في شقتها المتسعة التي تشغل كامل الطابق الثاني والأخير في أحد البيوت القديمة الواقع على ناصية اثنين من أهم الشوارع التجارية في حي «عابدين» في قلب القاهرة، بعد اعتقال ابنها الوحيد ثم نفيه خارج العاصمة بما أعقبه من رحيل زوجته وأبنائه إلى الصعيد ليكونوا بجواره في محنته، وتسببت عودة أمي إلى مسقط رأسها في إفساد مخططات صاحب البيت، وكان يسكن الطابق الأول ويدير في الوقت ذاته المقهى الذي يحتل كل مساحة الطابق الأرضي بعد قيامه بفتح الجدران الداخلية لجميع محلات البيت على بعضها، وهو ينتظر بفارغ الصبر خلو شقة جدتي لأمي بوفاتها حتى يتمكن بعد ذلك من هدم بيته لبناء فندق سياحي محله!.

فرضت الأوضاع العائلية الجديدة نفسها على إقامتي التي توزعت بين منزل جدتي لأبي في حي «مصر الجديدة» خلال الإجازات والأعياد، ومنزل جدتي لأمي في حي «عابدين» أثناء انتظام الدراسة لضمان جدية مذاكرتي تحت إشراف أمي. وفي الوقت الذي كانت صبايا مصر الجديدة الرقيقات اللواتي في مثل عمري يتعاملن معي بنعومة تنضج الرجولة مبكراً، فإن «تيسير» ابنة صاحب بيت عابدين ذات الجمال الوحشي العدواني والتي هي أيضاً في مثل عمري كانت دائمة الشجار معي كلما التقينا في السوق أو على السلالم أو عند مدخل البيت، الذي تتباهي دائماً بأنه مملوك لأبيها بينما نحن مجرد سكان عندهم.

فجأة اختفى خالي، على رغم كثافة أطقم الحراسة العلنية والسرية المدججة بالسلاح وتناوبها بانتظام على مدار الساعة حول المنزل الريفي الواقع في بطن الجبل والذي كان تم تحديد إقامته بداخله، وفشلت كل الجهود المبذولة للحصول على إجابات مفيدة في شأن اختفائه الغامض من طريق السلطات الرسمية التي حاولت إخلاء مسؤوليتها عبر اتهامه بالهروب من الرقابة.

بعد مغادرة أمي إلى عملها نادتني جدتي لتوديعي بحرارة غير مألوفة، حيث احتوتني في أحضانها لما يقارب نصف الساعة، وهي تبكي قائلة: «كان على عيني يا حبة عيني لكن خالك يناديني»، ثم اتجهت السيدة العجوز إلى الصعيد للبحث عن ضناها المفقود غير حاملة معها سوى العصا الخشب الغليظة التي تتوكأ عليها في مواجهة وهن العظام وضعف البصر. كانت جدتي لأمي تتحرك وهي «مندوهة» بالنداء الغريزي للأمومة عساها تحصل على أي معلومات تساعدها في العثور على ابنها الوحيد حياً أو ميتاً، لكنها سرعان ما لحقت به في الاختفاء الغامض وكأن رمالاً متحركة ابتلعتهما تباعاً، الأمر الذي أسعد صاحب بيت عابدين إذ أعاد إحياء مخططاته بالاستيلاء على الشقة تمهيداً لهدم البيت وبناء الفندق محله، ما جعله يعاود مجدداً التودد لكل ذوي النفوذ في الدولة طالباً منهم أن يدعموه بأي ثمن حتى لو كان التضحية بشرف أهل بيته.

في أواخر عام 1970 تولى السادات رئاسة الدولة، ليصطدم بمنافسيه داخل أجهزتها المختلفة فيذيقهم ما سبق أن أذاقوه لغيرهم كالحبس والاعتقال والنفي وتحديد الإقامة ومنع السفر والطرد خارج الحدود وغيرها من العقوبات العادية والاستثنائية، وسرعان ما شرع في تفكيك الأجهزة التي كان منافسوه يستندون إليها كمراكز لقوتهم...

كانت أمي انسحبت من العمل السياسي، واكتفت بعملها الصحافي من دون إظهار اسمها بحسب التعليمات خشية من تذكير القراء بأوضاع أبي وخالي، كما كانت تكتب الشعر فلا يسمح لها سوى بنشر العاطفي منه، لتحتفظ بأشعارها الاجتماعية في أوراق ملفوفة ومطوية داخل علب السجائر انتظاراً لإلقائها على الأذان القليلة للأصدقاء المقربين في مجالسهم الضيقة. لذلك استقبل منزلنا في «عابدين» مندوبين عن الشيوعيين والوفديين والقوميين والإخوان المسلمين وغيرهم لإقناع أمي بالانضمام إلى صفوفهم التي يعيدون ترتيبها، إلا أنها كانت ترفض عروضهم لغضبها منهم جميعاً بسبب خذلانهم لأبي وخالي في محنتيهما، فينصرفون تاركين خلفهم كتباً كثيرة محظورة تحوي أفكارهم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لتكلفني أمي بمجرد مغادرتهم أن ألقيها في إحدى الخرائب المجاورة، وهي تردد بأسى واضح عبارة غير واضحة مفادها أن استمرار وجود هذه الكتب أصبح الآن يشكل خطراً يهدد وجود البشر.

أثارني ذلك الخطر الغامض الذي تخشاه أمي لدرجة أنني رغبتُ في تحديه، فكنت أقوم بتنفيذ تكليفاتها لي في ما يتعلق بالأغلفة الخارجية للكتب فقط حيث أنزعها وأتخلص منها مع الإبقاء على دواخل الكتب وإعادة تغليفها بما هو متاح من أغلفة أعمال الأدباء المصريين للتمويه، وذلك عبر إحاطة الدواخل المحظورة بالغلاف المسموح به ثم لصقه جيداً وتدبيسه من كل الاتجاهات. احتفظتُ بالكتب المموهة سراً في غرفتي لقراءتها بدل الكتب المدرسية المملة فشكلت بالنسبة إليّ البوابة الأولى لمعرفة حقائق الواقع المحيط بي، وأخذتُ أضع خطوطاً باللون الأزرق تحت السطور التي يعجبني ما تحويه من أفكار وأخرى باللون الأحمر تحت تلك التي لا تعجبني أفكارها، كما أخذتُ أكتب باللون الأسود على هوامش الصفحات المطبوعة ما يروق لي من تعليقات إيجابية أو سلبية تكشف انفعالاتي الجياشة تجاه ما يثيرني من أفكار.

أصبح سلوكي أكثر حكمة مع أقراني بمن فيهم «تيسير» ابنة صاحب بيت عابدين والتي كانت هي أيضاً تغير سلوكها معي في شكل مفاجئ إلى نقيضه، فأصبحت تنتظرني حتى نخرج سوياً لشراء شرائح «الآيس كريم» حيث تتعمد عند عبورنا الشارع أن تمسك يدي أو تدفع بسيقانها العارية لتلتصق بجسدي، وفي إحدى المرات دفعتني خلال عودتنا إلى أسفل سلالم البيت بدلاً من أعلاها لتمنحني قبلة ممتدة كانت الأولى التي أتذوق فيها طعم الأنثى مما أصابني بالخدر اللذيذ، فبقيتُ مستنداً بظهري على جدار بئر السلم كالنائم... وفي أعقاب ذلك كانت غرفتي تستضيف « تيسير» طوال فترة غياب أمي في عملها...

نشبت حرب أكتوبر 1973 وقررتُ من جانبي المساهمة كمتطوع في المجهود الحربي الوطني ضد العدو بتسليم نفسي إلى مكتب الدفاع الشعبي الذي افتتح أخيراً داخل مبنى قسم الشرطة المجاور، توجهتُ إلى القسم حيث وجدتُ أبواباً مغلقة عدة من دون إشارات كان يجلس أمام أحدها جندي ريفي شاب بزيّه الرسمي، فاقتربتُ من مجلسه وسألته عن غايتي، لينفتح باب المكتب في تلك اللحظة ويخرج منه رجل يرتدي الزي المدني وهو يضع يده على الكتف العاري لفتاة سرعان ما اتضح لي أنها «تيسير»، ثم عاد أدراجه بعد قيامه بتوديعها قائلاً: «استمري وشدي حيلك يا بطلة وطمأني الوالد أننا سنرد مجاملتكم لنا في القريب العاجل»!.

ناديتُ عليها فنظرت في وجهي وهي مذعورة متجاهلة إياي على رغم أن المسافة بيننا كانت تقل عن خطوتين اثنتين، ولما أعدتُ النداء بصوت أعلى مستنكراً تجاهلها ازداد ارتباكها وفرت مسرعة خارج القسم ليسقط رغماً عنها ما كانت تحمله تحت إبطها، فانحنيتُ أنا على الأرض لالتقاط ما أسقطته فوجدتُه أحد كتبي المموهة حيث كان الغلاف لرواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل» وكانت الدواخل لكتاب «الأسس الأخلاقية للماركسية»، كانت الدبابيس التي سبق أن وضعتُها بنفسي لتحيط بكل اتجاهات الغلاف تبدو واضحة أمامي كما كانت خطوط يدي السوداء والزرقاء والحمراء تملأ الصفحات الداخلية للكتاب، وكان الجندي الريفي في الوقت ذاته يرد على سؤالي السابق له بقوله إنه لا علم لديه بموقع مكتب الدفاع الشعبي التابع للجيش لأنه يحرس مكتب الأمن السياسي التابع لجهة أخرى. عدتُ إلى غرفتي لأكتشف أن كتبي المموهة تعرضت للكثير من العبث بعد أن زارت تباعاً المكتب الواقع داخل مبنى قسم الشرطة المجاور بصحبة «البطلة تيسير».

حصلت أجهزة الأمن السياسي على ملف معلومات مبكر جداً في شأني لم تزل تستخدمه ضدي حتى اليوم، بينما حصل صاحب بيت «عابدين» على القرارات التي مكنته من هدم بيته وتشييد الفندق السياحي محله بعد طردنا من الشقة استناداً لتحريات أمنية زائفة أفادت على خلاف الحقيقة بوفاة جدتي لأمي قبل عودتنا للإقامة معها، أما «تيسير» فقد حصلت على الجائزة الكبرى، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً شاهدتُ صورتها تتوسط الغلاف الخلفي للجريدة الرسمية باعتبارها سيدة المنتديات الاجتماعية وحرم المسؤول الكبير الذي انتدب أخيراً ليصبح رئيساً لي في عملي المهني في إحدى المؤسسات الرسمية!.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي