التجريب.. محنة مسرح أم محنة مسرحيين

2020-10-17

التجريب فعل يتحرك

عواد علي*

يحاول الكثير من المسرحيين العرب اجتراح طرق جديدة وكل منهم يسعى إلى طرح فني مختلف في الشكل والمضمون والجمالية والفكر، الكثير منهم يركب موجة التجريب التي لا استكانة لها ولا شاطئ، منهم من يواصل معها إلى أن يجد ما يصبو إليه ومنهم من يغرق ويجرفه التيار إلى الفوضى ومن ثم السكوت. التجريب ظل رهان المسرحيين الأول، وهذا ما جعل البعض يظنه خطأ على أنه فعل واحد فيما هو لا يتكرر.

يبحث الكاتب والناقد المسرحي عبدالكريم برشيد في كتابه الجديد “التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث”، الصادر حديثا عن منشورات الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، في قضايا واسعة ومتشعبة تتعلق بالتجريب في المسرح على نحو عام، والمسرح العربي على نحو خاص.

ويسلّط الناقد الضوء على مفاهيم ومصطلحات ورؤى وتجارب كثيرة تصب في بحر التجريب بدلالاته العلمية والمعرفية المختلفة، وعبر تساؤلات ومقاربات واقتباسات وخلاصات واستنتاجات تهدف إلى استكناه الظاهرة وتجلياتها في المسرح المعاصر، والمسرح الاحتفالي الذي يُعد برشيد أبرز مؤسسيه ومنظريه والمبدعين فيه.

 

من دخل التجريب المسرحي مفقود ومن خرج منه سالما فهو مولود.

يتألف الكتاب من فاتحة بعنوان “لا أحد يعيش مرتين”، وثمانية فصول، كل فصل موزع على محاور عديدة، يتناول فيها “التجريب بين العلم والفن والفكر”، “في معنى التجريب وحدوده: جدلية الفعل التجريبي”، “التجريب المسرحي، الرؤية أولا”، “التجريب من التراث إلى المسرح”، “متاهة المسرح ومتاهات التجريب”، “التجريب بالمونودراما وبالكتابة”، “التجريب وزواج الفنون” و”المسرح التجريبي: أسماء ومشاريع”.

روح المخاطرة

يقتبس برشيد في فاتحة الكتاب قول الحكواتي الذي يعيش التجريب في حياته قبل فنه في احفاليته المسرحية “المقامة البهلوانية” يقول “يا هذا، كن بروح الغد الآتي غدا، ولا تكن بعقل الأمس الذي كان”، ويستشهد بقول عبدالسميع في تغريبته المسرحية “عبدالسميع يعود غدا”، المسكون بالآتي دائما، والمتجه نحو ممكناته المستقبلية الخفية والمجهولة، والباحث عن هويته الوجودية بالبحث والتجريب “لا أحد يمشي في نفس الطريق مرتين، ولا أحد يعيش نفس العمر مرتين، ولا أحد يحيا نفس الحياة مرتين، ولا أحد يمكن أن يموت مرتين".

 

الناقد يسلّط الضوء على مفاهيم ومصطلحات ورؤى وتجارب كثيرة تصب في بحر التجريب بدلالاته العلمية والمعرفية المختلفة

ويذهب برشيد إلى أن هذا هو شعار الإنسان التجريبي في الحياة، أي أن يخالف نفسه دائما، وأن يجدد حياته وعيشه لحظة بعد لحظة، ولولا تجريبية هذا الإنسان هل كان سيكتشف النار، وهل كان سينتقل من النيء إلى المطبوخ، ومن العاري إلى الكاسي، ومن الكهف إلى البيت، ومن الصيد إلى الزراعة، ومن الوجود إلى المسرح، ومن المسرح إلى التيارات المسرحية؟

يقف برشيد في الفصل الأول على مصطلح التجريب، وعلاقته بالأسلوب الاستقرائي، وروح المخاطرة، وكونه حرية وقلقا وعلاجا في الوقت ذاته، مبينا أنه في الأساس مصطلح مأخوذ من المعجم العلمي، وهو ينتمي إلى حقل العلوم التجريبية البحتة، وقد جرى نقله إلى العلوم الإنسانية على نحو عام، وإلى فضاء الإبداع الأدبي والفني على نحو خاص، وإلى مجال الدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية والجمالية المختلفة، والأساس في فعل التجريب دائما هو الملاحظة، والإحصاء، وترتيب العناصر وتصنيفها، والانطلاق من الفرضيات النظرية للوصول إلى النتائج، والتي يمكن أن تصاغ في قواعد عامة.

ويؤكد أن أسلوب البحث التجريبي أسلوب استقرائي يعتمد على ملاحظة الحقائق، “إنه التجريب المفسر لمعلومات ممنوحة على أساس افتراضي، لكي يستخرج من هذه الافتراضات نتائج حول حقائق أخرى”.

وفي المسرح العربي التجريبي لا يمكن أن تجد عملية الاستقراء لها وجودا إلا في حدود ضيقة جدا، كما أن ممارسة التفسير، انطلاقا من الفرضيات النظرية التي تنتهي إلى النتائج، لا تجد لها وجودا إلا عند أسماء قليلة جدا في هذا المسرح.

ويبحث في الفصل الثاني المعنى السطحي والمعنى العميق للتجريب وحدوده، وجدلية الفعل التجريبي، وعلاقة التجريب بالمسرح والأيديولوجيا، مستعرضا تعريفات وآراء عدد من المنظرين والنقاد والكتاب المسرحيين ليصل إلى استنتاج مفاده أن التجريب ليس فعلا واحدا موحدا، يمكن أن يكرر نفسه بشكل آلي، أو أن يكون له مسار واحد أوحد، لا يمكن أن يخرج عنه أبدا، بل إنه فعل يحمل نقيضه داخله، فهو الهدم والبناء، والرفض والقبول، والتأكيد والنفي، والوجود والعدم، والقطيعة والاستمرار، والشيء وضده، وهو الجسد وظله، والوجه وقناعه، والصوت وصداه، والكائن وممكنه، أو ممكناته، وهو المسرح في معناه الخاص والعام، أي المسرح ومضاعفة الساكن فيه، والمسرح وبديله المختبئ في خلاياه الداخلية الخفية.

استكناه ظاهرة التجريب وتجلياتها في المسرح المعاصر

ويشدّد برشيد، في الفصل الثالث، على أن التجريب المسرحي رؤية أولا، رؤية جديدة للكون والعالم لها علاقة بثورة الفكر والعلم، وبثورة الفن والصناعة، وبالأسئلة التي تفرزها متغيرات التاريخ الحديث والمعاصر، وأن تتم هذه الرؤية، فعلا، بعين المبدع، المفكر، الصانع، وألا تكون بعين مقتبسة، أو مختلسة، أو مستعارة من المبدع الآخر، الذي ينتمي إلى الزمن الآخر، والذي هو بالضرورة، من حيث أنه وعي نظري، وإدراك حسي، وأخلاق وذوق جزء من منظومات فكرية وجمالية وأخلاقية وعقائدية مختلفة بالضرورة.

والأساس في هذه الرؤية أن تكون كلية وشاملة، وألا يتم الاقتصار فيها على حاسة واحدة، وأن تختزل تلك الحاسة في العين وحدها دون غيرها.

المسرح والمأثور الشعبي

 يتساءل برشيد في بداية الفصل الرابع عن طبيعة العلاقة بين المسرح والتجريب والمأثور الشعبي، وكيف يمكن مقاربة هذه العلاقة في المسرح التجريبي العربي، وبأي رؤية، وبأي منهجية؟

ويجيب قائلا إن المسرح والمأثور الشعبي لا يختلفان، وعلاقة بعضها ببعض قديمة وعريقة جدا جدا، وما المسرح اليوناني، في حقيقته، إلا قراءة أخرى، أو كتابة جديدة ومتجددة للمأثور الشعبي اليوناني القديم، لكن كيف يمكن أن نربط المسرح، الذي هو لقاء شعبي وتظاهرة ميدانية مفتوحة، بالتجريب الذي له علاقة بالعلوم البحتة، وكان دائما فعلا نخبويا لا شعبيا؟

يجيب عن هذا التساؤل أيضا بأن التجريب هو فعل يتحرك، ويمشي باتجاه الممكن والمحتمل، والآتي والمستقبلي، والمتخيل والمفترض، والغرائبي والعجائبي، إنه رهان على حقائق أخرى، غائبة كانت هذه الحقائق أو مغيبة، أو كانت خفية أو ملتبسة، وإن أقصى حد يمكن أن يصل إليه هذا الفعل هو حد المحال، وفي الرهان على المحال شيء كثير من الحقائق ممكنة الوجود.

ولأن هذا التراث تتعدد أبعاده ومستوياته، وتتنوع قراءاته، وتختلف تفسيراته، فإنه يحتاج إلى رؤية علمية حقيقية، غير أيديولوجية بالضرورة، تكون عامة وشاملة ومتحركة وغير منحازة، إلاّ إلى الحق والحقيقة، وإلى ما يخدم القيم الإنسانية العامة، الثابتة والمتجددة والأبدية، والتي لا تخص أمة من الأمم، ولا تخص شعبا من الشعوب، ولا تتعلق بحقبة تاريخية عابرة، ومن طبيعة المسرح أنه يبحث عن المشترك والمقتسم، في الواقع والتاريخ والتراث، عن نقاط الائتلاف أكثر مما بحث عن نقاط الاختلاف.

المونودراما ليست أقل شأنا من الدراما الأم

يرى الناقد في الفصل الخامس المكرّس لـ”متاهة المسرح ومتاهات التجريب”، أن المسرح، في معناه الحقيقي، متاهة كبرى، وإذا أضيف له ما يسمى بالتجريب فإن متاهته البسيطة، نسبيا، لا بد أن تصبح متاهة مركبة ومعقدة.

وعليه، يمكن القول إن من دخل هذا التجريب المسرحي مفقود، ومن خرج منه سالما فهو مولود، ومن علامات القدرة على الخروج أن يكون المبدع المسرحي داخل التجربة وخارجها، في طليعتها وليس في مؤخرتها، وأن يكون قادرا على تمثّل الأشياء في كائنها وممكنها، وفي حاضرها وغائبها، وفي ناقصها ومكتملها، وفي جميع أبعادها ومستوياتها المتعددة والمتنوعة.

في المسرح العربي تجارب ناضجة بلا شك، وفيه اجتهادات متقدمة وإضافات إبداعية حقيقية، ومن مهام التاريخ المسرحي المعاصر أن يشير إليها ويسجلها، وينصفها، ويصنفها بشكل حقيقي، ومن واجب المسرحيين الشباب أن يطوروها، ويقوموا بتحيينها.

ويشير برشيد في الفصل السادس إلى تعدد أسماء المونودراما، بالرغم من أن المسمى واحد أوحد دائما، وهو مسرح الممثل الواحد حينا، والمسرح الفردي حينا آخر، وهو المونودراما في أغلب الأحيان، والاسم الشائع أكثر، والأقرب إلى روح التجريب المسرحي، الذي لا يمكن أن يخرج هذه “التجربة” من بيت الدراما الكبير، أو أن يقتلعها من شجرة أنسابها، والذي تمثله الدراما الأم، التي خرجت منها كل الصيغ المسرحية المختلفة.

ويقف عند ملاحظة بسيطة هي أن ثمة الكثير من الكتاب والممثلين والمخرجين المسرحيين الذين يستصغرون شأن المونودراما، ويفهمون أنها مجرد حكي وسرد، أو مناجاة ذاتية، أو خطابة تُلقى أمام الجمهور، أو مقالة في موضوع اجتماعي أو سياسي معين، وهذا ما يجانب الحقيقة بكل تأكيد، وإن وجود الاستثناء، أو وجود الشاذ، في هذه المونودراما، لا يمكن أن يلغي قاعدتها، أو قواعدها الثابتة التي هي نفس القواعد الموجودة في الدراما الأم.

التجريب المسرحي رؤية جديدة للكون

يؤكد برشيد في الفصل السابع أن الفنون ترجع بنسبها إلى رحم واحد، ويدعم رأيه بالأسطورة الإغريقية التي تتحدث عن زواج رب الأرباب “زيوس” من ربة الذاكرة “منيموزينة”، هذا الزواج الذي نجم عنه ارتباط كل نوع من الفنون بإحدى الربات التسع، حيث كانت حامية وراعية له، ما يكشف عن أن الإبداع ليس خلقا كله، بل هو مؤثث بشيء من الذاكرة.

وفي التراث الأدبي الأوروبي نشأت الكثير من الأعمال الأدبية، مباشرة أو على نحو غير مباشر، مرتبطة بالفنون التشكيلية، منها وصف هومير لدرع أخيل، وبشارة دانتي في الأنشودة العاشرة من الأعراف، والصور التي رسمها شكسبير في “اختطاف لوكريسيا”، وقصائد كيتس التي كتبها متأثرا بلوحات تيزيانو، وبوسان التي حفزته إليها أعمال رودان أو سيزان.

وعلى ذلك فإن الأجناس الأدبية والفنية تداخلت، وأصبح الفصل بينها فعلا مستحيلا، وأن التغير الذي يعرفه العالم المعاصر قد انعكس على الآداب والفنون والصناعات، وجعلها تتحاور وتتكامل وتتبادل الأدوار والأساليب في ما بينها، وقد يكون انفتاح المسرح التجريبي على الفنون الأخرى، وخصوصا منها المستحدثة، وفي معنى من معانيه، محاولة للالتفاف عليها، وشكلا من أشكال مسايرة الموجات الجديدة، وذلك حتى لا يقهره سلطان الزمن، ولا يتخلف عن ركبه ويصبح فنا متجاوزا.

محنة المسرح العربي

 يقدم برشيد في الفصل الأخير مقاربة لنماذج من التيار التجريبي في المسرح العربي مثل “صلاح القصب ومسرح الصورة”، “عبدالقادر علولة ومشروعه التجريبي”، “جواد الأسدي والإبداع مع الممثل المبدع”، “عبدالرحمن عرنوس ومسرحة اليومي”، “لحسن قناني والكوميديا الصادمة” و”مجـد القصص وفيزيائية الجسد”، موضحا أن دراسة كل التجارب المسرحية، وهي كثيرة ومتنوعة ومتباينة في قيمتها وقاماتها، تبقى حلما جميلا ونبيلا بكل تأكيد، لكنها تظل عصية على التحقق في إطار كتاب واحد، ولذلك اختار الأسماء الآنفة لأنها أقدر على رسم خارطة تقريبية للفعل التجريبي في المسرح العربي الحديث.

وينهي عبدالكريم برشيد كتابه بخاتمة مثيرة تحمل عنوان “محنة المسرحيين أم محنة المسرح؟”، وهي خاتمة لا أستبعد أن يختلف معه حول فحواها العديد من المسرحيين والنقاد، وفيها يقتبس قول الشاعر العراقي السوريالي عبدالقادر الجنابي “الشعر في محنة، والشعراء بلا محنة”.

ويذهب إلى أن قول الشاعر يمكن أن ينطبق على المسرح العربي التجريبي، فهو “حقا في محنة، ويعكس، في خوائه التام، هذه المحنة، وذلك في أوضح وأنصع مظاهرها، لكن المسرحيين فيه لا يعيشون نفس هذه المحنة. وبهذا فإن معظمهم لا يعانون القلق الوجودي، ولا يعيشون هموم الإبداع، ولا يشتغلون بالأسئلة الصعبة والحارقة، ولا يبحثون في ما وراء الأشكال ولا في ما وراء الألوان والحركات والأزياء والأضواء والأشياء، فهم يخاصمون المسرح القائم، من غير أن يخاصموا الواقع القائم، ويسعون إلى البحث عن مسرح جديد، وذلك من غير أن يجددوا رؤيتهم لهذا العالم، وهم يتحدثون عن المسرح المضاد، وذلك في غياب تام، أو شبه تام، للرؤية المضادة، وللفكر المضاد، وللموقف المضاد”!

التجريب ليس فعلا واحدا موحدا

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي