ضابط كردي يعيش محنة الانتماء ويعاني مرارة الغربة

2020-09-25

واقع فاسد للجهاز العسكري (لوحة للفنان سيروان باران)

هيثم حسين*

أحيانا يصبح انتماء الفرد العرقي أو الديني أو الإثني أو اللغوي تهمة وكابوسا، دون أن تكون له أي يد فيه، حيث التمييز على أساس العرق ما زال مستشريا في الكثير من الدول، لا فقط بين فئات المجتمع بل وأيضا حتى داخل جهاز الدولة، حتى ولو كان الجهاز العسكري. وهو ما تبينه رواية “الفرقة 17” للكاتب الكردي زارا صالح.

يحاول الكاتب الكردي زارا صالح المقيم في مدينة بيرمنغهام البريطانية، أن يسرد في روايته “الفرقة 17” محطّات من تاريخ الأكراد في سوريا في ظلّ سنوات حكم البعث، وذلك من زاوية ضابط كرديّ مجنّد في الخدمة العسكرية الإلزامية في إحدى القطعات العسكرية التابعة للجيش السوري وهي الفرقة 17 التي يختار اسمها عنوانا لروايته.

يصف زارا صالح في روايته الفساد الذي كان ينخر بنية الفرقة 17، التي يتّخذها مثالا على الفساد الذي كان مستشريا في الجيش العربي السوريّ، الذي كان يبدو وكأنّ قطعاته العسكريّة عبارة عن مزارع أو إقطاعات تابعة للضبّاط القادة ولمن يتبعهم، بحيث كانت الامتيازات موزّعة بحسب الرتب، ويكون النهب كذلك بنسب متفاوتة، بعيدا عن منطق المسؤولية الوطنية والأخلاقية الواجبة.

محنة الانتماء

بطل الرواية، الصادرة عن منشورات موزاييك بإسطنبول 2020، جوان إبراهيم؛ ضابط مجنّد يخدم في السرية الطبية في الفرقة 17، يتعرّض للمساءلة من قبل المخابرات العسكرية في العاصمة دمشق، وذلك على خلفية تقارير أمنية من قبل عملاء الأمن الذين اتّخذوا انتماءه الكرديّ ذريعة للتنكيل به، وتعكير أيام خدمته، واتّهامه بكثير من الاتّهامات الملفّقة لا لشيء، فقط لأنّه كرديّ.

يعيش جوان محنة الانتماء، ويعاني مرارة الغربة في محيط يضغط عليه ويشعره بأنّه متّهم ومدان، ويحاول أن يستلب منه وطنيّته، يبقيه خارج إطار الدائرة الموثوقة، ويكتفي باعتباره طارئا على المكان، على الرغم من أنّه منتم إليه بكلّ جوارحه، ويثريه باختلافه.

الطبيب المداوي يتحوّل إلى موضع شكوك لا تنتهي، وهو الذي يقابل الإساءة بالإحسان، ولا ينساق وراء أيّ أفكار للانتقام، ويحتفظ بإنسانيته بعيدا عن شرور المحيطين به، لا يتنازل عن رسالته في المداواة والتطبيب، ولا يرتكن لليأس القاهر المدمّر، رغم أنّه يمرّ بأحداث ووقائع تدفعه لمستنقعات الكراهية التي يتغلّب عليها بحرصه ووعيه وإحساسه بالمسؤولية.

يستعين الكاتب بلغة تسجيلية يرصد من خلالها مفارقات الواقع والتاريخ، وكيف أنّ ضابط الأمن الذي يفترض به أن يكون مطّلعا على تاريخ بلاده وأكرادها، يجهل كثيرا من الأحداث والتواريخ، وينظر إليها من وجهة نظر اتّهامية تفتقر إلى الوعي والمعرفة، وتبتعد عن منطق الأخوة والمواطنة.

يظهر الروائيّ وكأنّه يدوّن مقالات مفصّلة عن واقع الكرديّ في الخدمة العسكرية، وما كان يلاقيه من مصاعب ومشقّات للحيلولة دون الوقوع في شراك المتربّصين به الذين يجدون ضالتهم في الحقد على الآخر بعيدا عن أيّ التزام بقيم إنسانية مأمولة.

يحكي الكاتب على لسان راويه جوان بعضا من التفاصيل المتعلّقة بالكرد وتاريخهم، من ذلك مثلا حديثه عن عيد النوروز الذي يمثّل حدثا سنويّا مفصليا للكرد، وهو يوم رأس السنة الكردية، ويرمز إلى مواجهة الظلم والإجرام والصمود في وجه المستبدين الممثّلين بالملك الظالم الضحّاك “أزدهاك” الذي تُروَى عنه أساطير في الثقافة الكردية.

يحتفي زارا صالح بتراث مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية في سوريا، ويحكي عبر جوان محطّات من سيرة المدينة وحكايات أهلها، وكيف أنّها تثرى بالتنوّع والاختلاف، وتكون موئلا للجميع بعيدا عن أي عصبية أو عنصرية.

يطرح واقع التآخي في القامشلي، عبر وجود شخصيات مسيحية تساند جوان في رحلته، وتسعى إلى إيجاد مخارج له في خدمته تسهّل له أمر تنقّله وسفره، بالموازاة مع مساعي المخابرات لتعكير صفو العلاقات الاجتماعية في المدينة وتسميمها بشكل يكفل لها السيطرة وإدامة الهيمنة والتفكيك.

محض كابوس

يعيش الضابط يوميات القهر في الفرقة 17، يمضي أوقاتا عصيبة وهو يتنقل بين قطعته وفروع المخابرات، ولا يجد بدّا من اللجوء إلى الصمت لتجاوز مرارة التحقيق والمساءلة والاستجواب، ويوضع في موقع يضطرّ فيه للدفاع عن نفسه وانتمائه.

ينتقل الراوي من الفرقة 17 إلى قطعة عسكرية في القامشلي، أو ما كان يُسمّى بنك الدم، حيث يشهد هناك على فساد من نوع آخر، فساد السلك الطبّي الذي يفترض به أن يكون مساعدا للناس، وميسّرا لهم شؤونهم، وكيف أنّه كان يتحوّل إلى أداة ابتزاز واستغلال جديدة.

 

بطل الرواية، جوان إبراهيم؛ ضابط مجنّد يخدم في السرية الطبية في الفرقة 17، يتعرّض للمساءلة من قبل المخابرات العسكرية في العاصمة دمشق، وذلك على خلفية تقارير أمنية من قبل عملاء الأمن الذين اتّخذوا انتماءه الكرديّ ذريعة للتنكيل به، وتعكير أيام خدمته، واتّهامه بكثير من الاتّهامات الملفّقة لا لشيء، فقط لأنّه كرديّ.

يتحدّث عن عالم الرشى الذي كان منتعشا في الجيش، وكيف أنّ كثيرا من الضبّاط كانوا يعتاشون على رشى يفرضونها على العساكر، أو يلزمونهم بها، في مسعى للضغط عليهم وإرغامهم على تلبية مطالبهم بمداومة الدفع لهم وتأمين ما يطلبون، وإلّا سيحولون خدمتهم إلى جحيم.

يختم صالح روايته بالإشارة إلى أنّ راويه يحلم حلما كابوسيّا كان عاشه سابقا، أو مرّ به وكأنّه يعيد معايشة تفاصيله كما جرت، أو كما تخيّلها بطريقة مشابهة، ليلوذ بالنوم وكأنّ ما جرى محض كابوس سينتهي بمجرد العودة إلى واقع النوم الذي يتأمّل أن يكون هادئا أو مختلفا.

الحلم الذي يحلّ في النهاية يأتي كتخريجة من الروائيّ لإحالة النصّ إلى جسر معلّق بين الواقع والتأريخ والتخييل، وذلك على الرغم من واقعيّته وتسجيليّته ومسعاه لتوثيق الأحداث والوقائع بحلّة حكائية، وكيف أنّ تاريخ بلاده المعاصر يكون مزيجا من حلم كابوسيّ لابدّ أن ينتهي في يوم ما.

يضيف زارا صالح روايته إلى مدوّنة القهر التي عاناها الأكراد في سوريا، وذلك من زاوية الخدمة العسكرية التي كانوا فيها مهمّشين ومتّهمين ومبعّدين بطريقة لا تتناسب وروح الوطنية والمواطنة المفترضتين.

 

  • كاتب سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي