الدموع في الأدب والفن

2020-09-19

"وجه المسيح" للرسام البلجيكي آلبريخت بوتس (1450–1549)

محمود عبد الغني*

 

"حين نتألم، نبكي.

حين نبكي نكاد نكون سعداء" (ليون بول فارك)

-1-

كم مرة تسيل من عيوننا الدموع في العمر؟ هل ندعها تسيل أمام الآخرين أم منعزلين؟ اختبرت مثل هذه الأسئلة وأنا أقرأ خبر وفاة السيدة مرسيدس بارشا، أرملة غابريال غارسيا ماركيز. استحضرت مسارات بينهما حكى عنها غابريال في "رائحة الجوافة"، الحوار الطويل الذي أجراه معه بيلينيو أبوليو ميندوزا. وداهمتني الدموع أيضًا مثل عاصفة حين علمت باتفاق تاريخي مريض بين دولة الإمارات، وبين دويلة سيمولاكرية هي إسرائيل.

ومباشرة بعد ذلك بدأت أكتب كي يكون الأسود في خدمة الأبيض: كي لا تبقى الصفحة بيضاء. وما ذلك في النهاية سوى تأكيد للأحوال الجديدة للضمير، وترسيخ لفكرة كارل ماركس حول محاولة الضمير الغريزي للإنسان تغيير الأشياء بتغيير أسمائها.

وحالة الضمير هذه تنتاب كل الكُتاب وكل الشخصيات الحكائية، وأبرز ممثليها شهرزاد في كتاب "ألف ليلة وليلة"، و"أليس" في "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول. فـ"أليس" تؤمن بأنها فتاة واقعية لأنها تبكي. لكن "تويدليدي" يصحح اعتقادها هذا بقوله إنها لا تصبح واقعية، أو أكثر واقعية، بالدموع التي تنهمر من عينيها.

بالإضافة، وهذه حجة مقنعة، ليس هناك ما يدعو للبكاء. لكن حجاج "أليس" يسلك طريقًا آخر: إذا كنتُ غير واقعية، وهي تبتسم عبر دموعها!، فأنا لا أستطيع البكاء. فيذهب "تويدليدي" أبعد من ذلك بلهجة ساخرة: أتمنى ألا تعتبري ما يسيل من عينيك دموعًا حقيقية.

لا يمكن أن نبكي ونحن نفكر في بعض الأشياء. لأننا لا يمكن أن نقوم بشيئين في وقت واحد. لا يمكن أن نتصرف بشكل يتناقض مع طبيعتنا. لذلك لسنا قادرين على التفكير والبكاء في وقت واحد. لكن الرواية، في التخييل الأدبي، تشكل نموذجًا لأمر القيام بالشيئين في نفس الآن.

ويمكن الاستدلال بروايات إميل زولا، في الأدب الفرنسي، "جيرمينال" و"الأرض"، و"المدينة والكلاب" للبيروفي فارغاس يوسا، وأيضا روايات أميركا اللاتينية، خصوصًا الصنف الذي أُطلق عليه "الروايات الاحتجاجية"، الذي اتخذ من زولا نموذجا يُحتذى به. وتوجد في الأدب العربي روايات كثيرة من هذا النوع: "الأرض" لعبد الرحمان الشرقاوي، "البكاء على صدر الحبيب" لرشاد أبو شاور، "البكاء على الأطلال" لغالب هلسا، "ألف ليلة وليلتان" لهاني الراهب، "الثلج يأتي من النافذة" لحنا مينة، "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، "أنت منذ اليوم" لتيسير سبول... ولو أنتج العرب في جنس الرواية البوليسية، لكانت أمامنا لائحة من النصوص أطول وأكثر تنوعًا. إن الطبقات الاجتماعية البائسة تثير عواطف القراء.

 

موضوع يهمك:عالمة تحصل على “معلومات جديدة” تؤكد أن كورونا “صُنع في الصين”

 

فبفضل هؤلاء اكتشفنا، بنجاح وانبهار، وجود أناس ظلت ثقافتنا العربية تدينهم، وفي أحسن الحالات تتجاهلهم. فرواية "اللص والكلاب" سلطت الضوء على فئة اللصوص الذين يحتجون على العالم بطريقتهم، لكن نجيب محفوظ يعتبرها فئة ينقصها التنظيم والوعي بما فعله العالم بها. فكل القوانين على الأرض، وعلى مر التاريخ، لا تقدم سوى فوضاهم القاتلة، على طريقة "علي بابا والأربعين لصًا". والرقم "40" هو رمزية للعدد الهائل، للانهائي، منذ قديم الأزمنة.

إذًا، أصبح من أولويات الرواية تقديم رواة يعطون الانطباع بأنهم يقدمون حكاية واقعية، وليس تأويلًا أو تخييلًا لواقع/ وقائع. لذلك إذا قضينا عمرنا في قراءة الروايات، فسننتهي إلى اعتناق فلسفة "إيما بوفاري": الانتحار، في رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير. إذًا، الدموع ستداهم أعيننا، منفجرة من دواخل مجروحة، كنا رجالًا أو نساءً، فنجد أنفسنا نقوم بشيئين، أو عدة أشياء، في وقت واحد.

 

لقد ظل البكاء، بعكس الضحك، لزمن طويل لا يحظى باهتمام الشعوب، كما تجاهلته علوم الطبيعة.

والدليل على ذلك، التخبط الكبير الذي دام طويلًا على المستوى الفيسيولوجي

-2 -

نحن نضحك كثيرًا في الأدب، ويدل على هذا الأمر العرب في هزلياتهم، والأدب الإغريقي غني هو الآخر بهذا النوع من العواطف والطباع. لكن الإنسان يبكي أيضًا في هذه الآداب. وقد أثبت الباحث دومينيك أرنولد في كتابه "الضحك والبكاء في الأدب الإغريقي، من هوميروس إلى أفلاطون"، أنه إلى جانب هذا التقييم القريب من علم النفس المعاصر، هناك شيء يفاجئنا حين نلاحظ أن هذه الانفعالات العاطفية لها وظيفة اجتماعية، خصوصًا وأنها تؤدي دور العلامات في ما يشكل إجماعًا أدبيًا لا يلجأ إلا قليلًا إلى المفاهيم بقدر لجوئه إلى الإثارة المتخيلة ليعبر عن السعادة، والألم، والخوف من فقدان السعادة، والرغبة في إفراغ الآخر من أي قيمة.

لذلك يمكن اعتبار كتاب د. أرنولد بحثًا في المناسبات التي تدعو الأبطال إلى الضحك أو البكاء، وأيضًا تنقيبًا وتأويلًا لما تقوله الدموع والضحكات، والطريقة التي قالت بها ذلك، وما يترتب عليه من أحكام[1].

إنها تشكل في حد ذاتها لغة داخل كل الآداب، بل إن لها لغتها الخاصة: المرور إلى الأسلوب المباشر، إلى الشعر الغنائي، وإلى الكلمة النهائية في الأسطورة[2].

في دراسته " مديح الدموع" (1977) تساءل رولان بارت: "من سيكتب تاريخ الدموع؟ في أي مجتمع، في أي زمن بكينا؟ منذ متى لم يعد الرجال (وليس النساء) يبكون؟"[3].

صدر هذا النداء غير المتوقع المبثوث في ثنايا شذرات خطاب عاشق استثمره مدقق الكتاب، في مرحلة كان فيها رولان بارت يشكل مدرسة ويحفز على القيام بأعمال ساهمت بدون أدنى شك في فتح حقل من الأبحاث. لقد حول الدموع إلى موضوع للبحث التاريخي وشارك في تنويع خطابات حول الموضوع[4]، مثلما فعل جاك دريدا حين حول الكذب إلى موضوع تاريخي[5].

إلى هذه الحدود، وما عدا الفائدة العابرة لبعض العلماء والمفكرين (سان أغسطين، ديكارت، داروين)، فإن الميدانين الطبي والفيسيولوجي احتفظا باحتكار وصفي وتفسيري آلي للدموع، حيث تم تصويرها باعتبارها لا تتجاوز سيلانًا يقوم بوظيفة التصفية مثلها مثل البول[6].

لقد ظل البكاء، بعكس الضحك، لزمن طويل لا يحظى باهتمام الشعوب، كما تجاهلته علوم الطبيعة. والدليل على ذلك، التخبط الكبير الذي دام طويلًا على المستوى الفيسيولوجي (حول ما كمية التجمع الكيميائي المعقد الذي تتكون منه الدموع؟ هل تشكل الدمع يختلف بحسب ما يدفعنا إلى البكاء؟)، وأيضًا على المستوى الإيثولوجي (هل بعض الحيوانات تسيل من أعينها دموع عاطفية؟)، كما على المستوى الاجتماعي، التاريخي والثقافي ( لماذا وفي أي ظروف نبكي؟ أي استعمالات وقيم ترافق ظهور الدموع في الأوساط الثقافية وفي سياق تطور الحضارات؟) وبالعكس من ذلك، إذا كان هناك حقل معرفي لم تغب عنه الدموع، حاملة معها تمثيلات ودلالات، فهو حقل الفنون.

 

موضوع يهمك:العنصرية وتغير المناخ من محاور جائزة البوكر

 

ففي التقليد الكلاسيكي، البطل، مثل "أخيل"، يعبر عن قوته ويقظته بالسلاح كما بالدموع. وفي فن الرسم، هناك لوحات سالت فيها دموع المسيح من فرط الألم. فوجهه في لوحة لميملينغ[7] أو لألبريخت بوتس[8] يظهر محفورًا بالدموع التي تقول الوداع الأليم وحزن العشاء الأخير بينما الألم المرموز له بالدم يسيل في قطرات كبيرة على الجبين[9].

ونرى بوضوح في لوحة "الصلب" للفنان فان آييك[10]، التي أبدعها نصف قرن قبل لوحات بوتس وميملينغ، على بعد مسافة من الفضوليين والجنود الرومان الذين يوجدون أسفل الصليب، مجموعة من النساء الباكيات يشكلن دائرة ويذرفن دموعًا حارة متعاطفة، رؤوسهن مائلة والمناديل في أيديهن. وما الذي يمكن قوله عن تلك الدموع المتوسلة التي تسيل من العيون المتلألئة للقديس بيير للرسام آل غريكو[11]، العيون مرفوعة نحو السماء بعد إنكار "آلام المسيح"[12].

وكانت السماء تشكل في هذا الرسم مكانًا مشتركًا لمراحل الألم، وتلك الدموع المرسومة تعود إلى النصوص الصوفية، فآل غريكو متأثر بكتابات "القديسة تيريز دافيلا"، وهي كتابات لها تأثير كبير على التقليد الأدبي للدموع في الغرب[13].

والدلالة الكبرى لهذه الدموع هي إظهار التجربة الجماعية في المعاناة والرغبة معًا. كما أنها تعمق إنسانية الإنسان والبشر، وميزتهم في "كونهم يتأثرون" بما يحيط بهم.

المراجع والحواشي:

[1] - Dominique Arnould, Le rire et les larmes dans la littérature grecque, D’Homère à Platon, Ed. Les belles lettres, 2009.

 [2] - Ibid.

 [3] - Roland Barthes, Fragments du discours amoureux, Paris, Seuil, »Tel Quel », 1977.

 [4] - Maxime Maillard, « Les larmes Fargue », Littérature, N. 179, Septembre, 2015.

 [5]- Jacques Derrida, Histoire du mensonge, Ed. L’herne, 2005.

 [6] - Maxime Maillard, « Les larmes Fargue », op. cit.

- Tom Lutz, Crying, The natural & cultural history of tears, New-York, W.W. Norton & Company , 1999.

 [7]-Hans  Memling  رسام ألماني ولد سنة 1435 وتوفي سنة 1492، يعتبر أحد أكبر ممثلي الرسم البورجوازي.

 [8]- Albrecht Bouts رسام بلجيكي ولد سنة 1452 وتوفي سنة 1549 بلوفان، تغلب على موضوعات رسوماته القضايا الدينية.

 [9]- Maxime Maillard, « Les larmes Fargue », op. cit.

 [10] تعود إلى سنة 1430، وتنتمي إلى نوع الديبتيك ويمثل جزؤها الأيمن مشهد الحكم الأخير.

 [11]- El Greco(1541/1614 ), Les larmes de saint Pierre, Musée du Greco à Tolède.

 [12]- هو أيضا عنوان فيلم للمخرج ميل غيبسون، سنة 2004، ويتناول اليوم الأخير للمسيح (12 ساعة) حين توجه إلى مونت دي أوليفييه لتناول العشاء الأخير مع مريديه.

 [13]- Maxime Maillard, « Les larmes Fargue », op. cit. p. 67.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي