كريستوف بيترز يذيب المسافات بين الشعوب في "استئناس الغربة"

2020-09-15

ثمرة ورشة للترجمة حضرها الكاتب في معهد غوته بالقاهرة

القاهرة - حمدي عابدين

تبدو المجموعة القصصية «استئناس الغربة» للكاتب الألماني كريستوف بيترز الصادرة حديثا عن دار صفصافة للنشر بالقاهرة، وكأنها ثمرة علاقة محبة لعالم الشرق، بخاصة مصر التي يرتبط معها الكاتب بعلاقات وثيقة منذ سنوات طويلة، قامت على روابط قرابة ومصاهرة، وتغذت باهتمامات شخصية، وقد ألقى ذلك بظلاله على الكثير من قصصه ونصوصه النثرية التي جاءت موضوعاتها متعلقة بالحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، وانفتحت فيها على مشاعر وأحاسيس شخصيات راهن المؤلف على أنها سوف تكون الوسيلة المثلى لاستجلاء أي غموض يحيط بالطرفين، وتذويب المسافات بين شعوبهما عبر الحكايات والقصص.

يتضمن الكتاب تسع قصص قصيرة، بالإضافة إلى مقدمة ضمها بيترز للنسخة العربية، ومقال كتبه بمناسبة زيارته الأولى لمصر عام 1993. بعنوان «القاهرة والتنوير»، تحدث فيه عن مصر، وما أشاعته وقتها جماعات إرهابية من أجواء عنف في مدنها وشوارعها، وسرب إشارات ورموز ليضع القارئ من خلالها يده على أجواء القصص التي تدور في أماكن محددة في أوروبا والعالم الإسلامي، مثل ميونيخ وبيليفيلد والقاهرة، وإسطنبول، وطهران، وأكرا.

وفي القصص، التي تميزت بنهاياتها المفتوحة، يرصد الكاتب مشاعر الشك والريبة التي تنتاب شخصياته التي تنتمي لثقافته الغربية، وهي تصادف شخصيات شرقية، ففي قصة «قافلة إلى بلاد فارس»، يتحدث بيترز عن شخص يدعى عادل بهرامي من أصول إيرانية، يتميز بقدرة وجاذبية كبيرة، تجعله يسيطر ببساطة على الآخرين.

ويحاول «بهرامي» إقناع عدد من الشباب الألماني، الذين يدرسون في قسم التصميم الفوتوغرافي بجامعة بيليفيلد، بمرافقته في رحلة سيارات إلى الحدود الإيرانية، مغرياً إياهم لهم بكسب ثلاثة آلاف مارك حال قبولهم، وأخبرهم أنه فور وصولهم للحدود سوف يسلم السيارات لأشخاص يقودونها إلى داخل بلاده، ويحصل هو على عمولة بسيطة.

وتزداد حدة المناقشات بين «بهرامي» وبين الشباب، وقد وصفهم الكاتب على لسان إحدى شخصيات القصة «إيفا ماريا» بالحمقى الذين لا هدف لهم سوى حصد المال، وكان بينهم من يرون أنها رحلة ممتعة يحصلون في نهايتها على مبلغ مجزٍ، وعلى الجانب الآخر كان بينهم من يعتبرونها عملية نصب واحتيال، يدير خيوطها «بهرامي» ببراعة.

ويظل الأمر بين شد وجذب بين الشباب حتى يكتشفوا اختفاء «بهرامي»، يسألون عنه هنا وهناك ولا يعثرون له على أثر، لم يظهر «بهرامي» في «بيليفيلد» أو في «ديتمولد» مرة أخرى على الإطلاق، لكن ظهوره في الأيام القليلة التي قضاها بينهم كانت كفيلة بإحداث تصدع لن يلتئم سوى ببطء شديد.

ويتعرض المؤلف، في معظم النصوص، لتفاصيل وملامح متصلة بالشرق، يرصد الشوارع، وزحامها، والقداسة التي تستشعرها شخوصه وأبطاله وهم في رحاب المساجد، يتأملون عمارتها المدهشة وما أبدعه فنانوها من نقوش وكتابات على أعمدتها وجدرانها، ففي قصة «تحية من يونس» يتحدث عن رحلة استغرقت ثمانية أيام قام بها طالب هندسة إلى إسطنبول، وظل لأربعة أيام يهيم على وجهه في المدينة القديمة تعتريه الحيرة، وهو يشاهد المساجد والواجهات والقباب والمآذن والساحات الداخلية، وكان هدفه الاستفادة منها في تطبيق تصوره الخاص عن المِعمار العصري إذا ما قرر في يوم من الأيام أن يبني منزلا.

كما راح البطل يصف الأجواء الساحرة في مسجد «آيا صوفيا» الذي كان صرحا كنسيا، وحوله الأتراك إلى مسجد، زاره «البطل» بمجرد وصوله، وشاهد الصالات الأمامية والمنصات والمنابر والطوابق العليا والصالة الرئيسية الضخمة عدة مرات، وخارت قواه في تلك الأثناء أكثر فأكثر، وتملكه شعور بالانقباض، وكأنه قد تم إدماج قوى خفية في مناطق بينية من البناية لا يمكن إدراكها بواسطة نسب قياس تنجيمية وتلاعبات بالأعداد السحرية.

وفي القصص أيضا يعبر الكاتب عن مشاعر متضاربة لدى أبطاله، نتيجة تفكيرهم الذي ينبني على ما تبثه أجهزة الإعلام الغربية من أفكار عن مجتمعات الشرق، التي ما إن يطأوا ترابها إلا ويدركون أن كل ما سمعوه كان مغالطات، لا يجدون أثرا لها وهم يتجولون في الساحات، حينها يطلق الكاتب العنان لأفكارهم ومشاعرهم، ويحكي عن الأمل والخوف وأحياناً عن سعادة من بدأوا رحلة بحثهم عن حياتهم الحقيقية ومشاعرهم العظيمة، وطريقهم الخاص صوب المجهول. يجمعهم عامل مشترك يكمن في أن رحلاتهم الداخلية والخارجية تشق طريقها بين أوروبا والعالم الإسلامي بمفهومه الأشمل، فمن يشد الرحال بقلب وفكر منفتح إلى مناطق أخرى في العالم، مخلفاً وراءه ألفة ثقافته وأمانها؛ سوف يفقد عاجلا أو آجلا ثقته في مسلَمات اعتادها.

وسوف يرى عالمه الخاص بعيون جديدة، كما أنه سيُلقي أحياناً نظرة على هذا العالم الغريب الذي سيرى أهله أنفسهم من زاوية مختلفة.

يهتم بيترز بالمكان في قصصه، يتنقل بين تفاصيله بخفة، ساعيا لإبراز ملامحه، ورصد كل ما تقع عليه عيون شخصياته من تضاريس، ففي قصة «بستان النخيل» يصف، وبعيون مستثمر ألماني، الشوارع وأجواءها الحارة، وصحارى سيناء، والحدائق المشرفة على الأهرامات، وهي مشاهدات وقعت عليها عيناه وهو يستقل حافلة من شرم الشيخ إلى القاهرة، وفي قصة «بالكاد حتى ميونيخ» يصف مدينة لم يسمها في الشمال الألماني تتسم بأجواء باردة، وشوارع تحتشد في أرجائها أعداد كبيرة من الجنود الأميركيين.

وفي قصة «العودة» ومن خلال عيون رسام شاب يصف العاصمة الغانية «أكرا» بأجوائها البكر وسوق الماشية، والطرق الترابية المطروقة، والضجيج الذي تحدثه الشاحنات التي تجر خلفها جذوع أشجار ضخمة. وصياح التُجار وصراخ الأطفال، والحشائش وهي تزداد نموا بفعل المطر، والأبقار التي تعود ممتلئة بلحومها من الحقول الغنية بالحشائش.

«استئناس الغربة» تمت ترجمتها من خلال ورشة نظمها معهد غوته بالقاهرة عام 2013، ونشأت فكرتها من شباب المترجمين والمترجمات المصريين، وكان المؤلف برفقتهم في أعقاب زيارته لمصر في خريف عام 2012. وقد مكن هذا المشروع معهد غوته من ربط عدة أهداف بطريقة مُثلى لا سيما دعم شباب المترجمين المصريين وحثهم على التعامل مع النصوص باحترافية وكذلك تقديم صوت من المشهد الأدبي الألماني المعاصر للجمهور المصري.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي