"وشم الطائر" وإعادة تعريف التاريخ المسكوت عنه

2020-09-08

عباس عبد جاسم*

يرتقي وعي الشاعرة دنيا ميخائيل في رواية «وشم الطائر» إلى مصاف الكيفية في إعادة تعريف بنية مجتمعية (مهمشة ـ تابعة) مغمورة ومقهورة معزولة تماما ً عن العالم كأهالي قرية «حليقي» شمال غرب العراق «قرية جبلية تأخذ الزوّار مئة سنة إلى الوراء». من جهة، وتقوم بتبئير حكاية هذه القرية كأساس للرواية، لتنفك إلى حكايات متعدِّدة بأشكال دالّة على: مَن ْ يحكي؟ ومَن يروي؟ بصيغ يتقاطع فيها الزمان مع المكان، والشخصيات مع الاحداث، من جهة أخرى.

لهذا فإن ما يعنينا أكثر، ليس الوقائع المروية، وإنما الكيفية التي تُحكى بها الأحداث بأدوات ما وراء نصية. وعلى الرغم من انتظام الترتيب الحكائي من حيث الوقائع التسجيلية الموثقة، فإن الزمن الخطي للحكاية يتعرّض إلى انكسارات متدرِّجة أحيانا، وحادة أحيانا أخرى، لتنتج مفارقات زمنية ومكانية متعدِّدة بتعدِّد مستويات المتن الحكائي، ما يؤدي إلى تفكيك المحكي برمته، ولكن بدون الإطاحة بالمبنى الحكائي، ليس بسبب تقطيع الرواية إلى حكايات متعدِّدة بعناوين مختلفة، وإنما بسبب المناقلة السردية الناجمة عن تداعيات الذوات العابرة للزمان والمكان، خاصة هناك: مَنْ يحكي، ومَن يروي أيضا بين جدار وآخر.

إن إعادة تعريف المسكوت عنه من الهامش أو التابع الإيزيدي، وكيفية تمثيل ذاته في مواجهة إكراهات العبودية، كعبودية الجسد واستعباده، تؤسِّس لكتابة جديدة، تقوم على تقويض ما يسميه فرويد بـ«الحقد القضيبي» القائم على استعباد الشهوات، وامتهان الجسد، ليس كأداة منتجة للمتعة وحسب، وإنما كأداة منتجة للهيمنة أيضاً.

وبذا تسعى الرواية إلى إعادة كتابة مرحلة من التاريخ المسكوت عنه بحساسية الاختلاف مع التاريخ الرسمي، وما تنطوي عليه من أيديولوجية مضمرة بالإكراه والتكفير والقهر الجنسي. وينبني هذا التعريف على تصور يتكئ إلى وعي روائي قائم على أن (الإسلاموية) حوّلت المرأة إلى سلعة مشاعية «في سوق السبايا» خاضعة لعقود وقتية للزواج، أو الإيجار أو التبادل التجاري بين الدواعش وغيرهم.

«وفي سوق السبايا» الذي يُعنى بـ«سوق المتعة» ضمنا، تظهر النساء الإيزديات كأجساد، وليس كذوات في التداول السادوي، كما تجري في هذه السوق صفقات من السمسرة، فالهيمنة هنا عابرة للذكورية والعصبية البطريركية، باعتبارها «هيمنة مهيمن عليها» بتعبير بيار بورديو، كأيديولوجيا ما فوق دينية، تتحكم فيها دولة خرافية، لا تسعى إلى تدمير النسق العقيدي للإيزيدية وحسب، بل وتشويه ما تبقى من الأنساق العقيدية الأخرى.

إذن، ما تعليل «أسلمة الجسد» ـ (كجسد مستهلك) بالتداول الجنسي، وكأنه سلعة مرقمة كرقم (27) الذي يعود إلى امرأة متزوجة أصلا، اسمها هيلين بوصفها أهم الأعطاب الانسانية في الرواية، حيث تباع وتشترى في مزاد مفتوح مع مصائر نسائية أخرى مجهولة، ويمكن للمشتري أن يمنحها لآخر ضمن (عقد زواج) أو (عقد إيجار) أو استبدالها متى شاء، وفق أي مسوّغ من مسوّغات «الفتاوى الجهادية». ولكن لمن تعود ملكية «جسد المرأة» إن كانت مرتبطة بـ«عقد زواج شرعي»؟

إن جسد المرأة هنا ـ جسد مدوّر، وكأنه جزء من نفاية مدوّرة: تأخذ حماماً، وستعقبه بالصلاة، ثم الاغتصاب! وبذا قامت الرواية بتفكيك الشيفرات الخاصة لعقاب الجسد الإيزيدي، بتداخل واع مع إكراهات الذات المقهورة بتبعية التابع؛ بما في ذلك تفكيك الأيديولوجيا الطهرانية، التي تسعى إلى قمع حرية الجسد وتحقيره، وكأن المرأة، وليست الإيزيدية وحسب، يمكن أن تتصير بدون علاقة بالجسد الآدمي.

 

تنبثق الأسطورة في هذه الرواية كجزء أساسي من حيوات أهالي حليقي، خاصة «رقصة الألم» من جديد في كندا، التي أقامت فيها هيلين مع عائلتها كلاجئة، كرمز إلى أن هيلين لم تتخلّص من تاريخ الألم، حتى وهي آمنة مع ماريو.

لقد مهّدت الشاعرة دنيا ميخائيل لرواية «وشم الطائر» بكتاب سمته في مهاد صريح ـ «في سوق السبايا» وهو كتابة أوتوبيوغرافية تتخطى «الريبورتاج الصحافي» لتشكل أبنية مركبة من السيرة والاعتراف والرواية والتحقيق الصحافي، وقد امتاحت الرواية من هذا الخزين ما كان يعتمل في القاع الاجتماعي، من رواسب تحتانية بوصفها ترسبات مطموسة في قاع الذاكرة التاريخية، لترسم سير ومصير ما آلت إليه الإيزيدية من تبعية وعبودية وإكراهات.

لهذا تكمن شعرية «وشم الطائر» في كيفية استخدام الملاحظة والمعاينة والتجربة ـ بوصفها أدوات ماوراء نصية في تفكيك شيفرات (الهامش ـ التابع) في قرية «حليقي» الإيزيدية، كنموذج لمجتمعات غير إسلامية، كانت وما تزال تتعرّض إلى التهميش والتبعية والمحو، وفق سياسة العوربة قديما والأسلمة حديثاً.

وبذا نحن في حاجة إلى أن نؤسِّس لمفهوم جديد عابر للعرق والطبقة، من خلال أهالي قرية «حليقي» باعتبارها بنية مجتمعية رمزانية دالة على مكوّنات أخرى، ذات كيانات مستقلة وكينونات مستقرة، خضعت لإكراهات دينية وإرغامات جنسية. لهذا بدأت الرواية بـ «موجِّه قرائي» يسبق وقائع الرواية: «ليس من قبيل المصادفة توافق الرواية مع واقع ناس يعيشون في هذا الزمان» لتمنح القارئ دلالات حافة من الواقع، وبذا جاءت الرواية، وكأنها رواية أنثروبولوجية لسكان الجبل: طقوسهم، عاداتهم، تقاليدهم، وقبل ذلك: أساطيرهم الموازية لحيواتهم الاجتماعية.

ولكن أهم ما قدّمته الرواية عبر البحث الأنثروبولوجي، أنها أعادت تعريف جماعة الإيزيدية المغمورة، المقهورة ـ بجماليات واقعية ذات حيوات جديدة، في زمن توقفت فيه حركة الحياة والناس والأشياء: «حتى الساعة على الجدار ـ متوقفة عند الساعة العاشرة وعشر دقائق. عقرباها مثل يدين يتضّرعان لتغيير ما. والزمن عاطل».

وعلى الرغم من بساطة أهالي قرية «حليقي» فإن كل كلمة في الرواية لها دلالة ما، وإن كل لحظة منها موثقة بالزمان والمكان والشخصيات، لهذا لا تقوم بخلط الترتيب الزماني والمكاني للشخصيات والأحداث، وإنما تقوم على الترتيب الواقعي لها بوضوح، من دون لبس أو غموض. ولكل ذلك؛ فما «وشم الطائر»: أهو أسطورة أم بنية مؤسطرة؟

أخذوا من الأسيرات كل حاجاتهن بضمنها خواتم الزواج الذهبية، لكن خاتم هيلين لم يكن خاتماً، كان وشم طائر.

وقبل ذلك، عملت امرأة عرّافة ذلك الوشم على بنصري هيلين وإلياس، وتنبأت لأحدهما أن تكون رحلته شاقة، لكنها كتمت ما تبقى من نبوءتها.

ربما قصدت العرّافة «إلياس» في نبوءتها، وكيف أطاح السياف الداعشي برأسه أمام ولديه يحيى وياسر، غير أن ما قصدته العرّافة، قد يوجِّه تأويلنا وجهة أخرى، لكنه لا يتحكم فيه، فـ»وشم الطائر» عتبة نصّية غير متعالية، ولها علاقة بـ«طائر القبج»: إنه طائر جميل، ولكن «جماله نقمة عليه، فلا ينعم بحريته طويلاً، إذ ينتهي سجيناً في قفص». ومن طقوس أهالي حليقي أنهم لا يصيدون الطيور، ولا يأكلونها، وإنما يقيمون طقساً سنوياً يحرقون فيه أقفاصاً خالية، ويرقصون حول النار لإعتقادهم بأن ذلك الاحتفاء الذي يسمّونه «عيد الطيور» من شأنه أن يبعث تطميناً لطيور منطقتهم، كما أن حركة أهالي حليقي تتماهى مع حركة طيورهم، فهم يتحرّكون معاً على هيئة جماعات مثل أسراب الطيور..

وتقول الأسطورة التي تختلط بالواقع: «إذا أصابت الطائر طلقة صياد تراه يطير طيراناً عمودياً إلى أعلى ارتفاع ممكن، حتى ينزف آخر قطرة من دمه قبل أن يسقط كحجر، وعندما يصاب بجرح يتثنى من الألم بحركات يبدو بها وكأنه يرقص. أهالي حليقي يسمونها «رقصة الألم» ويقلدونها أحيانا على أنغام حزينة». وتتخصّب رمزانية «وشم الطائر» بدلالة أخرى ترتبط بعلاقة الحب والزواج الأسطوري بين (خنسي وروشو) وحين تنسى هيلين «الأغنية الأخيرة « لـ«رشو» يبتكر لها إلياس (أو في الحقيقة تبتكرها الكاتبة وتضعها على لسان إلياس) أغنية تنتهي هكذا:

هذا الصباح

سأتبع أغنية الطائر

أينما كانت

لأنها تأخذني إليك.

في معظم خطواتها، تبدو هيلين وكأنها تبحث عن تلك الأغنية المستحيلة، وكمَن يحاول تأشير موقع الحب في قلبه، تشير هيلين إلى قريتها التي ليست على الخريطة «كل ما تبّقى مكان فارغ هنا في قلبي وهو يؤلمني. يمكن الإشارة إلى ذلك المكان كما لو أنه في خريطة، ولو أنه كالحُب لا يمكن رؤيته على الخرائط». كما تستدعي الرواية بنى واقعية موازية للبنى الأسطورية، فمدينة غواتيمالا التي يأتي منها ماريو (هي وادي جبلي مثل حليقي وتعني «الجبل الذي يتقيأ المياه» ورمزها الوطني «كوينزالـ« وهو طائر جميل شبيه بطائر القبج، ريشه أخضر وأبيض وأحمر. هذا الطائر صار رمزا للحرية، لأنهم وجدوا أنه يموت حزناً حين يوضع في قفص».

وبذا تنبثق الأسطورة في هذه الرواية كجزء أساسي من حيوات أهالي حليقي، خاصة «رقصة الألم» من جديد في كندا، التي أقامت فيها هيلين مع عائلتها كلاجئة، كرمز إلى أن هيلين لم تتخلّص من تاريخ الألم، حتى وهي آمنة مع ماريو، و«ماريو إنسان مهذّب ولكنها لا تعرف كيف تطرح منه خيالات المغتصبين الذين يحضرون بينهما». وبذا تفضي الرواية بالقارئ إلى الإحساس باللانهاية، على الرغم من امتزاج ذلك الإحساس بالأمل من خلال كلمة «سأحاول» التي تقرّرها هيلين وهي تبذل جهداً لتشرح فكرة تجاوز الانكسار بلُغتِها الرابعة بعد الكردية والعربية ولغة الصفير!

  • ناقد وكاتب من العراق






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي